القاهرة 25 سبتمبر 2018 الساعة 10:51 ص
ترجمة: صلاح صبري
يؤذيني فورتنايتو ‘FORTUNATO’ كثيرًا، غير أنني أتألم في صمت. ولكنني علمتُ أنه يسخر من اسم عائلتي، مونترِسور ‘MONTRESOR’، عائلتي العريقة المحترمة. آليت على نفسي أن أجعله يدفع ثمن هذا.. أن أنتقم. ومع هذا، يجب ألا تفترضوا أنني بُحتُ بهذا السر لأي مخلوق. سوف أجعله يُكفِّر عن خطئه، نعم؛ ولكنني لن أتصرف إلا بمنتهى الحذر. يجب ألا أعاني بعد أن أنتقم لنفسي. في هذه الحالة، لن يكون الانتقام على أكمل وجه. وكذلك لن يكون الانتقام على أكمل وجه إلا إذا علم فورتنايتو أنه يدفع الثمن، وعلم- أيضًا- من الذي يجبره على دفع الثمن.
لا أعطي فورتنايتو أي سبب يثير شكوكه. أبتسم في وجهه دائمًا، من دون أن يفهم أنني أبتسم لأنني أتصور ما دبرته له.
فورتنايتو رجلٌ قويٌّ، رجلٌ يُخشى بأسُه. ولكن نقطة ضعفه الخطيرة والوحيدة هي أنه يعشق الخمر الجيدة، ويحتسي الكثير منها. لذلك، فإنه يعرف الكثير عن الخمور الفاخرة، ويفاخر بأنه ذواقة خبير لها. أنا- أيضًا- أعرف الخمور المعتقة جيدًا، وأشتري أفضل ما أستطيع أن أجده. والخمر، في ظني، هي الوسيلة التي سأنتقم بها!
في إحدى أمسيات الربيع، والظلام يكاد يخيم، قابلتُ فورتنايتو وحيدًا في الشارع. راح يحدثني بحرارة أكثر من المعتاد، لأنه شرب من الخمر فوق طاقته. ادعيتُ أنني مسرور برؤيته، وصافحته وكأنه أقرب أصدقائي.
"فورتنايتو! كيف حالك؟"
"مونترسور! مساء الخير يا صديقي."
"عزيزي فورتنايتو! أنا سعيد حقًّا بمقابلتك.. كنتُ أفكر فيك منذ لحظات.. فقد كنت أتذوق نبيذي الجديد.. اشتريتُ برميلاً بأكمله من نبيذ فاخر يقولون إن اسمه أمونتيلادو.. ولكن..."
"أمونتيلادو! مستحيل."
"أعرف أن ذلك يبدو مستحيلاً.. كنت سأكلم لوكرِسِّي ‘LUCHRESI’ حالاً لأنني لم أستطع العثور عليك.. سيخبرني..."
"لوكرسي؟ إنه لا يستطيع أن يميز نوعًا من آخر!"
"ولكنهم يقولون إنه خبير مثلك تمامًا."
"ها! تعالَ.. هيا بنا,"
"إلى أين؟"
"إلى قِبائكم .. لنتذوق النبيذ."
"كلا يا صديقي.. كلا.. أرى أنك لست على ما يُرام.. والقباء رطبة وباردة."
"لا يهمني.. هيا بنا.. أنا بخير.. لا يهمني البرد.. أمونتيلادو! لا بد أن شخصًا ما يستغفلك.. ولوكرسي! ها! إنه لا يعرف شيئًا عن الخمور.. لا شيء بالمرة."
وبينما هو منهمك في الكلام، تأبط فورتنايتو ذراعي، وسمحتُ له أن يستعجلني في الذهاب إلى قصري العظيم، الذي عاشت فيه عائلتي- عائلة مونترِسور- قرونًا عديدة. لا أحد في القصر. قلتُ للخدم ألا يغادروا القصر لأنني لن أعود قبل الصباح. وهذا- كما أعتقد- كفيل بأن يضمن لي أنهم سوف يغادرون جميعًا بمجرد أن أدير ظهري.
انتزعتُ شمعتين مضيئتين من مكانيهما على الحائط. أعطيت إحداهما لفورتنايتو وقدتُه إلى بوابة عريضة، حيث استطعنا أن نرى السُّلَّم الحجري الموغل في الظلام. طالبًا منه أن يحترس وهو يتبعني، نزلتُ أمامه تحت الأرض، عميقًا تحت جدران قصري العتيقة. وصلنا في النهاية إلى أسفل السلم حيث توقفنا لحظة. الأرضية الترابية صلبة وباردة. هذه آخر مقبرة للموتى من عائلة مونترسور. وهنا أيضًا، نحتفظ بأفخر ما لدينا من الخمور، تحت الأرض هنا في هذا الجو الخانق المعتم البارد.
يمشي فورتنايتو مترنحًا بسبب الخمر التي احتساها. راح ينظر حوله بريبة محاولاً الرؤية في هذا الظلام الحالك الذي يلفنا. في هذا المكان، تبدو الشمعتان المتوهجتان شاحبتين. غير أن أعيننا سرعان ما تعتاد الظلام. نستطيع الآن أن نرى عظام الموتى راقدة في أكوام بطول الجدران. حجارة الجدران رطبة وباردة.
من بين الصفوف الطويلة من الزجاجات المرصوصة على الأرض بين العظام، اخترتُ زجاجة خمر من نوع ممتاز. ولأنني ليس معي وسيلة لفتحها، خبطتُها في الحائط الحجري فكسرتُ رقبتها، ثم أعطيتُها لفورتنايتو.
"تفضل يا فورتنايتو.. تذوق هذا الميدوك ‘MEDOC’ الفاخر.. سيجعلنا نشعر بالدفء.. اشرب!"
"شكرًا يا صديقي.. سأشرب نخب الموتى الذين يرقدون حولنا."
"وأنا يا فورتنايتو... سأشرب في صحة عمرك الطويل."
"هممم! نبيذ فاخر جدًّا في الواقع! ولكن الأمونتيلادو؟"
"حالاً.. تعالَ"
واصلنا السير برهة. نحن الآن أسفل مجرى النهر، وقطرات من الماء تتساقط علينا من علٍ. أوغلنا في الهبوط تحت الأرض، قبالة المزيد من أكوام العظام.
"قباؤكم كثيرة وواسعة.. تبدو بلا نهاية."
"نحن عائلة كبيرة.. وعريقة.. ولكن ليس الآن.. ولكنني أرى أنك ترتعش من البرد.. تعالَ! فلنرجع قبل فوات الأوان."
"لا شيء.. دعنا نواصل السير.. ولكن جرعةً أخرى من الميدوك أولاً!"
تناولتُ زجاجة أخرى من بين العظام. نوع آخر من النبيذ الفاخر. مرة أخرى، أكسر عنق الزجاجة. يأخذها فورتنايتو ليتجرعها في نفس واحد. يضحك ملقيًا الزجاجة الفارغة وراء ظهره.
رحنا نواصل السير، موغلين أكثر وأكثر في أعماق الأرض. وصلنا إلى قبو هوائه عتيق وكثيف إلى درجة تكاد معها تنطفئ الشمعتان. بحذاء الجدران الثلاثة، ثمة أكوام من العظام يصل ارتفاعها إلى ما فوق رأسينا. أما الحائط الرابع، فإن شخصًا ما قد أزاح جميع العظام من أمامه، فتناثرت حولنا على الأرض. في منتصف الجدار، ثمة فتحة تفضي إلى قبو آخر، أتصور أنه غرفة عرضها ثلاثة أقدام، وارتفاعها ستة أو سبعة، وسمكها حوالي أربعة أقدام. تكاد تكون طاقة في الجدار.
صحتُ: "هيا.. اُدخُلْ.. الأمونتيلادول بالداخل هناك."
تقدم فورتنايتو مرتابًا. تبِعتُه على الفور. وعلى الفور طبعًا، وصل إلى الحائط الخلفي. وقف هناك لحظة، قبالة الجدار، مندهشًا ومتسائلاً. في هذا الحائط، ثمة حلقتان ثقيلتان من الحديد. من إحداهما، تتدلى سلسلة قصيرة، ومعلق في الأخرى قُفْل. قبل أن يستطيع فورتنايتو أن يستوعب ما يحدث، أغلقتُ القفل مقيدًا إياه بالسلاسل في الحائط. رجعتُ إلى الخلف.
صحتُ: "فورتنايتو.. ضع يدك على الحائط.. لا بد أنك تشعر كيف ينساب الماء عليه.. مرة أخرى أسألك.. من فضلك.. ألن تعود؟ كلا؟ إن كان الجوب كلا.. فلا بد أن أتركك.. ولكن يجب أولاً أن أفعل كل ما بوسعي من أجلك."
"ولكن... ولكن الأمونتيلادو."
"آه.. أجل.. أجل حقًّا.. الأمونتيلادو."
وبينما أنطق هذه الكلمات، رحتُ أفتش بين العظام. مزيحًا إياها إلى جانب واحد، وجدت الأحجار التي كنت انتزعتها قبل ذلك من الجدار. بدأت أعيد بناء الحائط من جديد، فسددتُ تلك الطاقة التي يقف فيها فورتنايتو مرتعشًا.
"مونترسور! ماذا تفعل؟!"
واصلتُ العمل. استطعتُ أن أسمعه وهو يجذب السلاسل ويهزها بعنف. لم يتبقَّ سوى بضعة أحجار قليلة لأعيدها إلى مكانها.
"مونترسور! ها ها.. هذه مُزحة رائعة في الحقيقة.. مرات كثيرة سنضحك عليها.. ها ها.. ونحن نشرب الخمر معًا.. ها ها."
"طبعًا.. ونحن نشرب الأمونتيلادو."
"ولكن أليس الوقت متأخرًا؟ ألا يجب أن نعود؟ سوف يكونون في انتظارنا.. هيا بنا نرجع."
"أجل.. هيا بنا نرجع."
قلتُ هذه العبارة وأنا أرفع الحجر الأخير من على الأرض.
"مونترسور! لوجه الله!"
"نعم.. لوجه الله!"
لم أسمع ردًّا. صحتُ: "فورتنايتو! فورتنايتو." لم أسمع سوى صوت خفيض طويل، ما يشبه صرخة فزع. انقبض صدري؛ لا بد أنه البرد. بسرعة، حشرتُ الحجر الأخير في مكانه. ثم كومت العظام العتيقة مرة أخرى بحذاء الحائط. مضى الآن نصف قرن من الزمان ولم يمسسها بشر. ليته الآن يرقد في سلام!