القاهرة 14 اغسطس 2018 الساعة 01:32 م
د .عمر عبدالواحد - أستاذ النقد الأدبي
تأتي هذه الرواية الصادرة عن دار نشر ( كيان ) بالقاهرة، السابعة من حيث الترتيب ضمن أعمال الكاتب الروائي المخضرم طنطاوي عبد الحميد طنطاوي، الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من الأعمال الأدبية المتنوعة بين السرد والدراما، الأمر الذي يجعل من شخصيته الإبداعية ظاهرة أدبية جديرة بالدراسة .
تأخذ الرواية عنواناً لها، ينتمي بشقيه إلى الحقول الدلالية الخاصة بالمكان، ويصبح العتبة النصية الرئيسية التى ندلف منها إلى عالم الرواية، ولتلك العتبة الرئيسية سلطتها وهيمنتها، إذ توجه المتلقي إلى أهمية قراءة الرواية من منطلق خصوصية هذا المكان أو الحيز أو الفضاء.
ويعني الفضاء السردي – في تصورنا – إحداثيات الزمان والمكان التى تتقاطع معها أحداث الرواية ووقائعها، فالأحداث – بدهيا – تبدأ انطلاقها من نقطة في الزمن، لتندغم فيما بعد متتابعة أو تندمج متوالية في دوائر المكان، فالشخصيات الفاعلة لا تتحرك في فراغ، وإنما تتم قصتها خلال عناصر الزمان والمكان المتفاعلة، ثمة علاقة جدلية بين الفضاء وعناصره، وبين الشخصيات وأعمالها، فالمكان ليس متورطاً فقط في الأحداث، عندما يناسبها أو يهيئ لها، لكنه يمتلك أيضا إمكانات تنبؤية بما يمكن أن يحدث أو يحتمل وقوعه خلاله، تمتد سلطة المكان / الفضاء لتدرج تحت سطوتها الإنسان / الشخصية، وتطبعه بطوابعها، فثمة تحدِ واستجابة بين البشر والطبيعة، كما أوضح توينبي, وهناك سطوة خاصة لبعض الأمكنة العاتية، حيث تقد البشر – خلال محاولاتهم التكيف معها، وطموحاتهم الدائبة إلى قهرها – أجسادهم وتصوراتهم على قدرها ، ومن ثم تأتي أفعالهم وفق ما تسمح به حدودها، وفي صدارة تلك الأماكن العاتية يأتي فضاء الحكاية في رواية (شق الجبل ) .
يقدم الكاتب هذه القرية إلى المتلقي من مسافة جمالية، تتيح له رؤية بانورامية متكاملة لها، معتمدا على الراوي العليم الذي يقف – آمناً – بانتمائه إلى الشاطئ الغربي للنهر، حيث يبدأ ذلك الراوي كُلّي المعرفة في السيطرة على ما يقدم من مرويات ومرئيات، وتنسيقه، وعرضه من خلال وجهة نظره، ولعل هذه المسافة الجمالية تتيح لنا أن نتطابق معه أو نتوحد به ونشاركه في موقف التوجس من ( شق الجبل )، إذ يقف الراوي مشدوها مبئَرا ما ينظر إليه، على نحو حسي مادي أولاً، عندما تبتدئ الرواية بقوله من مأمنه .
لقد كان يكفي الجبل ليشيع الجهامة والرهبة، لكن المؤلف أضاف إليه شقوقه أو شقه، ليضفي المزيد من الغرابة والتهويل ويثير فضول المتلقي
" من المركب الذي يفرد شراعه، عندما تنظر لقرية شق الجبل وأنت قادم من الناحية الغربية للنيل من مدينة المنيا، زراعات قليلة تتداخل مع الجبل، حتى خضرة الأراضي الزراعية المحدودة تبرز من بينها نتوءات صخرية حجرية، تتعانق الخضرة الموسمية بأشجار النخيل بالجبل، كل البلد تراها وقد غلب عليها اللون الأسود " ص 7 .
فيضعنا الراوي أمام فضائين، الأول يوليه ظهره مطمئنا، يقع غرب النيل، يتمتع بالوثوقية والاستقرار والوضوح في مخيلة الراوي، إنه " مدينة المنيا "، أما الثاني فيتقدم إليه متوجساً، يمسحه ببصره، فنجد الجبل طاغياً على المكان، معتمداً على الخضرة المؤقته بنتوءاته الصخرية، التى تعلوها أشجار الصـحراء " النخيل "، ويغلب على القرية اللون الأسود والضياع، لقد حكم الراوي ابتداء على الفضاء / القرية بالسواد أو الغرق في اللون الأسود الذي يناسب الموت والبلى والفقد، وجاء عنوان الفصل الأول ليلخص طبوغرافيا الطبيعة والبشر خلال هذا الفضاء : ( قصر / ومقبرة / ومنزل ) إنها ثلاثية تتقاسم شق الجبل بأسرها، وتتصادى جميعها، فالقصر وإن شيّده الباشا للآخرة مقبرة، فقد صار بمرور الزمن منزلاً لأسرة الناظر، لكنه ظل في مخيلة أهل القرية وذواكرهم قصراً للآخرة، ومع ذلك فله تميزه المادي عن منازل القرية، التى كانت ( مجرد بيوتات صغيرة واختلف عنها جميعا منزل ضخم أطلق عليه قديما قصر الباشا، حوائطه الخارجية من الحجر الأملس " ص7 .
يعد هذا القصر الذي آل تاريخياً إلى " الناظر " بعد " الباشا " تمثيلاً رمزياً للنظام الأبوي، الذي يعلو شاهقاً فوق كل أبنية القرية وأبنائها، يستبدّ بهم، ويمتلك كل شيء، الأرض وما عليها، لكنه في ظل أبويته، يحمل في داخله وأحنائه، الحب لهم والعطف عليهم، والتفكير بدلاً منهم في واقعهم ومستقبلهم، يدير من أجلهم أمور الواقع وينظمها لصالح بقائهم، ويرسم للقرية خارطة المستقبل ويحمل همه من أجلهم أيضاً .
إن السُلطة بتجلياتها تملأ فضاء هذه الرواية، ابتداء بسلطة الراوي العليم الذي لا يتوقف عن وصف المكان وهياكل البشر وأجسادهم، لكنه يتسلل إلى دواخلهم وأحنائهم، يخترق سقوف بيوتهم ويفضي إلى ما تحدثهم به أنفسهم، فيقدم من منظوره الخاص شخصيات حية، يجيد الراوي تقديم بشريتهم المتفجرة بالخير والشر بالنوازع الطيبة وغير الطيبة .
ثم سلطة النهر، الذي يمارس وفق إرادته، الفصل أو الوصل بين فضاءيْ الأحداث في الرواية، فيغرق من يشاء من شخصيات الرواية وأبناء القرية مثل يونس الشخصية المحبوبة، ويوصل من يشاء سالماً إلى الجانب الآخر أو الضفة الأخرى من النهر غير عابئ برغبة أهل القرية أو رفضهم، مثل مهجة وفتياتها ويُمسْكِنُ جزائره من يشاء، ويُلوًن حياتهم وثقافتهم وسلوكياتهم بما يريد مثل البهلول، ونمر، والنوبي، وغيرهم، ثم هناك سلطة الناظر المشار إليه آنفاً، وقد تعاطف معه الراوي أو الكاتب فصاغه في صورة والده العتيد، حكمة الكهول ومقدرة الشباب، عندما جعله لا يهاب المطاريد ويعقد معهم اتفاقاً يعود بالنفع على أهل القرية وينقذهم من فقر المكان وجدبه، وإن تاجر معهم فيما يجرمه القانون، وتبيحه أعرافهم وتقاليدهم، وعندما جعله ينطق بجوامع الكلم وعباراته الصوفية الطوباوية التى تكشف عن نفس صافية مفعمة بالحب والخير والسلام، ويصطنع له الراوي أسطورته وينسج هالاتها، فيجعل أهل القرية جميعاً يكبرونه ويطيعونه دون ما تردد أو تساؤل، ويحيط به طه الصامت " سبع الليل " الذي يصاحبه دائماً، كذلك الشيخ رضوان رجل الدين في القرية ومفتيه الخصوصي، ويجلس تحت قدميه البهلول ونمر، وكلهم يقبّلون يديه ويتمسحون به، ليكتمل به موكب الناظر المهيب .
ونصل إلى المكوّن الثاني من مكونات فضاء القرية عبر الكلمة الثانية من العنوان السابق ( قصر ومقبرة ومنزل ) وهي كلمة المقبرة، فالقرية – في الحقيقة – مقبرة لا متناهية الأبعاد، وُجِدتْ ابتداء لتكون مقبرة، ربما يرجع تاريخ الدفن في هذا المكان إلى الفراعنة قدماء المصريين، منذ بزغ الحلم الأزلي بالبعث والشروق، وارتبط برحلة الشمس التى تتكرر كل يوم والمقابر ترتبط – في الأعم الأغلب – بالرهبة والوحشة، والبوم والهوام والهامة والصدى، والأرواح خيّرها وشريرها، فإذا ما كانت في ( شق الجبل ) ازدادت سطوة، فقد سكن شقوق الجبل كل ما هو غامض مخيف، خاصة ( المطاريد ) الذؤبان، ذئاب الجبل، وهل هناك مكان غير شقوق الجبل يليق بهم أو يلائمهم، أو يرحب بهم ويتسع لهم .
وهم أيضا ضرب من ضروب السلطة التى تتحاور الفضاء، ربما كانت كل سلطة ناتجة عن قهر سلطة أعلى، أكثر ظلماً وغشماً، ولذلك غرباء عن فضائها، بل إنهم جزء منه، وملمح مهم من ملامحه .
صار المطاريد في مخيلة أهل القرية، رمزاً مزدوجاً، قد يحمل الشرّ إليهم، كما قد يحمل الخير، ولم يعودوا .
ثم تأتي أخيراً في عنوان الفصل ذاته كلمة منزل، لتشيد في هذا السياق إلى مساكن أهل القرية، التى تنفتح مباشرة على ما فيها من مقابر، وتستمد منها الحياة، وصدق الله العظيم في قوله " يخرج الحيُ من الميتِ " .
فأهل القرية يقتاتون من خلال الموت، يتعايشون بفضل الأموات، عندما يبنون قبوراً لسكان ( مدينة المنيا وقراها ) وعندما يمجّدون الموتى، ويشيدون مقامات الأولياء، ويتكسبون من احتفالات الموالد والأعياد، أو يقرأون لأرواحهم رحمة ونوراً، شيئاً من القرآن الكريم، ويتقبلون الصدقات، وجُلُها خبز وطعام أو دراهم معدودة لا تجدي إلا في شراء القوت الضروري، ولذلك فالموتى هم مصدر حياة أهل القرية، وجيرانهم ذوو الألفة بهم والتسامح معهم، ومن خلال تلك العناصر السابقة يتشكل فضاء ملامح القرية ( شق الجبل ) .
لكن حركة أهل القرية وشخصيات الرواية ، تضطرب بين فضاءين رئيسين، أحدهما القرية التى تمثل الواقع المعاش، والآخر يمثل التوق أو الحلم الذي تشكل أكثر من سابقة اعتماداً على مخيلة أهل القرية واستيهاماتهم، لا عن خبرة به، وبين الفضاءين تضاد، فإذا كان الأول يمثل فضاءً طارداً، فإن الثاني يمثل الآخر الغريب المدهش الذي يرتحل إليه أهل القرية بأخيلتهم وطموحاتهم وأشواقهم:
" مدينة تعج بكل متناقضات الحياة وغرائبها ، تستقطب نظرهم بكل مغرياتها وتنوعاتها " ص 79
" مزارات وأضرحة لأولياء وأصحاب كرامات ودور للدعارة " ص131
تصل إلى قرية شق الجبل أضواء الفضاء الآخر قبل أيً من معالمه ولذلك دلالات متعددة، وتنعقد بينهما دائما المقارنة التى تحكم لصالح المدينة " على الجانب الثاني من النهر هل تمرح العدالة في أضواء المدينة العامرة، هنا البقاء للأقوى، في المساء لا تعرف الحكومة الطريق إلى الجبل، يتخلون عنه ويتركونه وأهله نهبا لوحوش من بشر وحيوانات " ص75 .
ويبقى الشوق إلى أضواء المدينة المبهرة وتظل " النداهة " تتردد أصداء نداءاتها أن هلموا وتعالوا " هاجس غزو المدينة يعشعش في ذهن الفتى الصغير ... سبح في أحلام هواها ، ينتظر أن تسنح له الفرصة ... " ص 27
" مهجة على الجانب الآخر للنهر، بوجهها البدري المتألق، تصنع رموشها مظلة تحمي تلك العيون الكحيلة، كلماتها تخرج منغمة فيها دلال " ص 106
ويلاحظ هنا أن الراوي يدين محاولات التمرد على الفضاء القديم العتيق، ويحكم عليها بالفشل، وعلى من يجاهر بها بالتشويه والتجريح بشكل مباشر أو على ألسنة شخصيات الرواية خاصة ذات السلطة في القرية، ربما يظن ذلك أصالة أو انتماء، أو لكونه شخصية تقليدية محافظة، تكثر الظنون حول شخصية الراوي، لكنها تبقى ظنوناً، فالراوي كائن من ورق على حد قول رولان بارت، أو هو كائن نصي، وشخصية نصوصية، تتبخر إذا خرجنا من فضاء النص إلى الواقع وتذوب كالملح على حد قولي وهو أدق .
وأوضح شخصية تنطق بالتمرد على القرية وتحاوله، هي شخصية أستاذ الجامعة إبراهيم ابن الناظر، فقد أخليت شخصيته في الرواية من كل ما يدل على علم أو ثقافة حقيقيين، سوى ما أشار إليه الراوي من حصوله على الدكتوراة في أوروبا، ولم يتبق له سوى الرفض الفج لمظاهر سطحية الحياة الريفية : الروائح، والروث، والحيوانات ... دون أن تجد خلف شخصيته بعداً إنسانياً، أو نقداً متعمقاً لثقافة مجتمعه .
يقدم الراوي صورته من منظور شخصية والده حضرة الناظر بسطوتها الراسخة وكلماتها المسموعة قائلا :
" إبراهيم ... ولدي البكري ...حلمت يكون سلاحي وقت عوزه ... لكن مجرد حلم، الحقيقة طلع سلاح خايب " ص17
وعندما يفضي إبراهيم إلى والده برغبته في بناء قصر خاص به، يصادر الشيخ بحكمته المشهورة بوح ابنه أو خياله وطموحه، دون أن يتساءل عن كنه القصر وجدواه وعلاقته بحياة ابنه ومسيرته فيقول له :
" قصور كتير بينعق فيها البوم مهجورة، أفضل قصر تشيده داخل قلوب الناس "
يضحك إبراهيم متسائلا بقوة : " أين قلوب البشر التى تتحمل جدران قصر جديد " ص37
فيكشف الحوار عن التفاهم المفقود بينهما، واستحالة التواصل بينهما، فلكل منهما عالمه المغلق دون الآخر، وتنتصر حكمة الشيوخ وتبقى متوارثة، في حين تنداح أحلام الشباب وتضيع .
ويبدو التشويه المتعمد لشخصية أستاذ الجامعة، فعندما يريد الانفتاح على العالم الواسع خارج حدود القرية، يقدمه الراوي في صورة الانتهازي الشبق، خائن الأمانة، الذي يبيع الامتحانات والرسائل الجامعية لأخت الراقصة في مقابل الولوج إلى عالمها الذي تصنعه أضواء زائفة، وأجساد رخيصة، وشخصيات ذات منصب ونفوذ، تجرى وراء شهواتها، ثم يخرج مطروداً من بيت الراقصة، لأنه لم يتبع آداب التعامل مع الراقصات، وتقاليد إشباع الرغبات المكبوتة في مثل هذا المجتمع الجديد، فلم تتوافر لهذه الشخصية المجال الحيوي والسياق الفني الطبيعي لأستاذ الجامعة، ولم تتوافر له الفضاءات المناسبة لشخصيته حتى قبة الجامعة، لكي يبدو في سياقه المكاني المعهود، لتظهر شخصيته في خصوصيتها التى تكسبها تميزها عن سواها من أنماط الشخصيات، ومن ثم قد تبدو أكثر فنية واحتراماً .
ثم نتوقف مع المحاولة الأخيرة لتشويه هذه الشخصية التى تقف ضداً لكل شخصيات الرواية، لأنها تحاول التمرد على الفضاء الأصيل المتوارث لقرية شق الجبل، يحدث ذلك عندما تحاول شخصية أستاذ الجامعة استعادة خصوصيتها بوصفها شخصية الرائد الذي يتقدم أهله، فيفكر في تطوير القرية، والترويج السياحي لها مستغلاً موقعها المتميز على ضفاف النيل وفي حضن الجبل، وفق تخطيط عصري مستند إلى العلم والهندسة والعمارة، يجري هذه المرة تشويهه من قبل الراوي، بإظهاره في صورة شخصية جشعة نهمة إلى المال، لا تعبأ بالقيم الإنسانية، فيجرمه الراوي عندما يستولي على بيت أم نمر بعد وفاتها، وإقامة زوجها وابنها برغبتهما بنزوعهما الطبيعي في الجزيرة، مع أن بيوت القرية أو جلها كانت ملكاً لوالده الناظر ! بل يشيع عنه ويشنع عليه في القرية أنه يتفق مع المطاريد لتنفيذ أفكاره المستقبلية، مع أن والده حضرة الناظر قد تعاقد معهم من قبل من أجل إطعام أهل القرية، والمطاريد في الرواية ليسوا غرباء على فضاء (شق الجبل ) إنهم أحد مكوناته، تآلفوا معه، وتآلف معهم، ولوغابوا عنه لفقدت شق الجبل إحدى خصوصياتها .
ولئن تحامل الراوي على شخصية أستاذ الجامعة وبالغ في تشويهها، وقضى عليها بالعزلة والنفي من قلوب أهل القرية، ربما لأنه تعلق بالمدينة، وأراد لقريته أن تتغير اقتراباً إلى المدينة، فقد تعاطف الراوي مع سائر البشر في قرية شق الجبل الذين يوحدهم عشق الفضاء الأصيل، وحرصهم على ثبات أوضاعه الاجتماعية والثقافية .
يشيد الراوي بتلك الشخصيات التي تحرص على انتمائها للقرية مكاناً وثقافة، فجعل منهم حكماء مثل الناظر الذي تعاقد مع المطاريد، وأباح لهم القرية في مقابل نصيب معلوم يطعم منه أهل القرية في نزعة إنسانية حالمة .
كما يشيد بالمطاريد، فلم تسجل الرواية حادثة اعتداء واحدة منهم على سكان القرية، ما عدا اعتداءهم على إبراهيم الجامعي المغترب عن فضاء القرية، يمتد الراوي بمشاعره الإنسانية الفياضة، ليعتذر عن قساوتهم غير المؤكدة في الرواية، بكونهم - خاصة رئيسهم - قد تعرضوا لظلم وغشم من السلطة الأعلى، الحكومة وقتئذ، لذلك هم ضحية قبل أن يكونوا جناة، إنهم يشبهون أهل القرية، والناظر ورجاله وأبناءه، فكلهم يحملون السلاح حفاظاً على فضاء ( شق الجبل ) وخصائصه، ويتعاونون جميعا على منازلة فقر المكان وقحله وجدبه، وكلهم ضحايا وأسرى لواقع فضائهم .
يتعاطف الراوي مع كل الشخصيات المنتمية لفضاء (شق الجبل )، يونس ونادر ونمر والبهلول وطه الصامت، ويحاول أن يصنع منهم أبطالاً شعبيين، لكل واحد منهم أسطورته وسرديته ورصيده المخيال الشعبي، موظفاً من أجل ذلك وعيه العميق ومخزونه الهائل من فولكلوريات القرية وتراثها الشعبي .
كل أبناء هذا الفضاء خيرون، متصالحون معه، لذلك يعيشون الحياة محبة وسلاماً داخلياً، لن تسمع في شق الجبل عن حادثة قتل واحدة، فهم متعاونون على التكيف مع فضاء حياتهم، على الرغم من وعورته .
إن النظرة البنيوية لن تكشف عن تقاطعات حدية، أو ثنائيات ضدية سوى ثنائية تتعلق بالفضاء طرفاها المدينة والقرية، وثنائية أخرى من البشر طرفاها : الناظر والمطاريد وأهل القرية المنتمون، ويقع على الطرف الثاني المقصى الذي يضادهم إبراهيم أستاذ الجامعة .
والكاتب يجيد لعبة خلق أساطير الشخصية وسردياتها من خلال التوظيف الفني للمأثورات الشعبية، تشذ هنا من شخصياته، الجدة وهيبة التى كان يعشقها الجن، وتتلون عيناها في الليل بغير لونها في النهار، وظلت سيرتها المروية ذات طابع عجائبي .
وقف الكاتب - في هذه الرواية - على تخوم الواقعية السحرية، لم يتجاوزها، عندما لم يخرج بتراث تلك الشخصيات من سكونيته وتراكمه ، ليدمجها بخوارقيتها في سياق الأحداث السردية، فلم تمارس أدواراً فعلية في الرواية وهي متلبسة بتلك الحالة فوق الطبيعية، لكن الراوي اكتفى بتقديم تلك المأثورات الشعبية في صورة ساكنة، على هيئة مرويات، قيل ... زعموا، دون أن تتحرك تلك الشخصيات في سياق السرد بواسطة حمولاتها العجائبية، فبقيت الرواية – مع ذلك – مخزناً هائلاً لتراث منطقة المنيا الشعبي، عاداتها وتقاليدها، وحكاياتها وأساطيرها، وعفاريتها وأوليائها، وحققت من خلال مكوناتها السردية والأنثروبولوجيا المتعمقة لمنطقة المنيا وفضاءاتها عالمها الروائي المتميز بفنية وإمتاع .