القاهرة 17 يوليو 2018 الساعة 11:06 ص
د. محمد سمير عبد السلام - مصر
ارتبطت أفكار ما بعد الحداثية، وجمالياتها بتفكيك المركز، وقد أكد ذلك كل من ليوتار، وإيهاب حسن، وأشارت ليندا هاتشون إلى المحاكاة الساخرة، وإعادة الإنتاج لعلامات الماضي المتنوعة، وأكد إيهاب حسن فكرة الحدوث أو التشكيل المستمر للعمل الفني في مقابل العمل الفني المؤطر، وأشار فاتيمو إلى تداخل كل من الفن والواقع في عملية أفول مركزية صالات الفن، والعرض في كتابه نهاية الحداثة؛ وقد تجلى النزوع إلى التفكيك في العمارة مثلا في المنزل الراقص لفرانك جاري، وفي إنشاءات زها حديد، وفي خطاب تشارلز جنكس عن العمارة ما بعد الحداثية.
وقد أشار جان بودريار إلى تطور الصورة، وامتزاجها بالواقع، وإلى العالم الافتراضي، وامتزاج التكوين بالمراوحة بين الحضور، والغياب في مدلول الاختفاء، أو الفراغ.
تعيد ما بعد الحداثية- إذا-تشكيل العلامات الزمكانية في سياق تجاوز المركز، والتعددية، والحدوث المستمر، والسخرية من اكتمال البنى، والقصص، والأطر، والحدود، كما تعزز من بلاغة الخطاب النقدي، ونسقه السيميولوجي، ونزوعه إلى مزج الفلسفي بالأدبي كما هو عند دريدا في تناوله لفرويد انطلاقا من إعادة إنتاج هملت في كتابه حمى الأرشيف الفرويدي، وطبقا لتناول حسن لأسطورة أورفيوس بصورة استعارية فلسفية تمزج الصمت بالغناء، وتعزز من ظاهرة التناقض الإبداعي فيما بعد الحداثية في كتابه تمزق أورفيوس.
*تجاوز المركزية، والنزوع إلى التجزؤ، والخطاب الهامشي عند ليوتار:
يتجاوز خطاب ليوتار مركزية الحكايات الكبرى، واتصاليتها في السياق الإنساني/الاجتماعي، والمعرفي، ويرتكز على طرح التداخلات اللامركزية المعقدة كبديل عن اتصالية الحكايات الكبرى.
ويرى ليوتار أن الوظيفة الحكائية تتبعثر في سحب من عناصر لغوية حكائية، ولكنها أيضا إشارية، وتقعيدية، ووصفية، بينما تحمل كل منها تكافؤات منفصلة، ويحيا كل منا عند تقاطع عدد كبير منها.
(راجع، ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة: أحمد حسان عبد الواحد، دار شرقيات للنشر بالقاهرة ط1، 1994، ص 24).
إن تفكيك البنى الحكائية المركزية - بمستوياتها المتنوعة - عند ليوتار يوحي بأمرين:
الأول: وفرة التداخلات النسبية، وتعدديتها، وتجاوزها للبنى الحكائية التي تختص بوضع الذات في السياق الثقافي، والاجتماعي.
الثاني: النزوع إلى التجزؤ، ووفرة ألعاب اللغة ضمن التحولات الثقافية، والاجتماعية التي يومئ إليها ليوتار.
ثم يناقش ليوتار المعرفة ما بعد الحداثية من جهة احتماليتها، وانحيازها للخطاب الهامشي الإبداعي؛ إذ يرى أن المعرفة ما بعد الحداثية تدعم قدرتنا على تحمل ما لا يقبل القياس، ومبدؤها لا يكمن في التماثل الذي يخص الخبراء، بل في الخطاب الهامشي الذي يخص المبتكرين.
(راجع، ليوتار، السابق، ص 25).
إن خطاب ليوتار يؤكد النزوع إلى الاحتمالية، والاختلاف، والتعددية الجزئية في السياق المعرفي أيضا، كما يعزز من وفرة الخطاب الهامشي الإبداعي، وتجاوزه للشمولية، أو المركزية المعرفية؛ ومن ثم تتسع الرؤى الجزئية الهامشية المتباينة، وتؤكد كلا من التعددية، والاختلاف خارج الأطر.
*التناقض الإبداعي، والخطاب النقدي الاستعاري عند إيهاب حسن:
يرصد إيهاب حسن التناقض الإبداعي فيما بعد الحداثية من خلال قراءته التأويلية الاستعارية لأسطورة أورفيوس؛ إذ يرى في كتابه تمزق أورفيوسأن الجسد المغني لأورفيوس يحوي دلالة التناقض الإبداعي بين التناغم الصامت في الطبيعة، والصوت التعددي الوفير للوعي، والنزوع إلى الإعلاء من فعل الغناء.
(Read, Ihab Hassan, The Dismemberment of Orpheus, The University of Wisconsin Press, 1982, p 6).
لقد انطلق حسن من التأويل الاستعاري للأسطورة إلى وصف جماليات التناقض فيما بعد الحداثية، وقراءة مدلوله الذي يقع بين الصمت، والغناء في أعمال بيكيت، وجويس، وجينيه؛ وكأن الخطاب النقدي نفسه يؤكد التناقض الإبداعي ما بعد الحداثي، ويعزز من التفكيك، والتداخل بين الأدبي، والنقدي، والفلسفي.
ويمزج حسن بين صوت الذات، وتعدديته المحتملة؛ وكأن الذات تستنزف مركزيتها الخاصة، وتفككها من خلال فعل الغناء الطيفي الذي يتصل بأطياف أورفيوس في الذاكرة الجمعية، وتجددها الشعري، وإعادة إنتاجها في تحول أعمال الأدب من الحداثة إلى تشكل جماليات ما بعد الحداثية.
*المحاكاة الساخرة، وإعادة تشكيل لحظات الماضي عند ليندا هاتشون:
تشير ليندا هاتشون ضمنيا – في كتابها شعرية ما بعد الحداثية– إلى المحاكاة الساخرة، والوعي الذاتي بالتاريخ، ومزجه بالسرد، والميتا سرد، وجماليات القص، واللصق، وإعادة إنتاج الماضي في رواية ما بعد الحداثية.
وتقترح هاتشون التعبير HistoriographicMetafiction للإشارة إلى دمج التفاصيل التاريخية المتنوعة في الميتا سرد؛ وترى هاتشون أن تلك الكتابة السردية ما بعد الحداثية تجمع بين الوعي الذاتي بالتاريخ، والقصة كتكوينات إنسانية جزئية.
وتومئ هاتشون إلى أن تلك الكتابة السردية تبني الخلفيات التي تسمح بإعادة إنتاج الماضي، وإعادة تشكيل جمالياته، وأحداثه، وأنماطه الفنية، وإشاراته الثقافية. ثم تمثل لذلك برواية مئة عام من العزلة لماركيز، وتورد رأي الناقد لاري ماكفري في النص؛ إذ يرى أن رواية ماركيز تؤكد الوعي الذاتي بتراث الأدب، وتجمع بين المحاكاة، والتخييل، والإيماءات المحتملة إلى السياق الواقعي أيضا.
(Read, Linda Hutcheon, A Poetics of Postmodernism, Routledge , New York, 2003, p5)
ويؤكد خطاب هاتشون ما بعد الحداثي تفكيك مركزية السرد، والتأريخ معا، وكذلك تفكيك مركزية الأصالة عبر فعل إعادة الإنتاج والتشكيل من جهة، والتداخل بين السرد، والتاريخ، والمراوحة بين السرد، والميتا سرد من جهة أخرى.
إن هاتشونتؤكد أيضا الإنتاجية المتعلقةبإعادة تأويل الماضي، وأشكاله، وعلاماته الزمكانية عبر مبدأ المحاكاة الساخرة التي تستعيد الماضي، وتستنزفه، أو تعيد إنتاجه في سياق إبداعي مختلف.
*تجدد التساؤل حول الوعي، وتفكيك مركزية الذات الراصدة في قصة العالم ينظر إلى العالم لإيتالوكالفينو:
يفكك السارد مركزية الشخصية الفنية / السيد بالومار في قصة العالم ينظر إلى العالم؛ ويمكننا ملاحظة تجليات جماليات ما بعد الحداثية في نص كالفينو عبر مستويين جماليين، ودلاليين:
الأول: استنزاف مركزية الذات بوصفها جزءا من العالم؛ ومن ثم تصير الذات المدركة جزءًلامركزيا من وفرة المشهد الكوني، والعلامات النصية / الكونية؛ فقد تخلت الذات عن موقعها المتعالي في إدراك الظواهر، وصارت علامة هامشية في النص؛ ومن ثم ينعكس هذا التصور نفسه باتجاه علم السارد بالشخصية، وبظواهر العالم؛ فهامشية السيد بالومار تؤول الهامشية المحتملة لوظائف السارد، ومعرفته.
يقول السارد:
"العالم أيضا مازال هناك، وقد انقسم إلى عالم ينظر، وعالم ينظر إليه ... وبالنظر لأن هناك عالما من هنا، وعالما من هناك خارج النافذة؛ فإنه لابد وأن الأنا ليست شيئا آخر سوى النافذة التي ينظر العالم للعالم من خلالها.
... الآن ليس هو من ينظر، ولكن العالم من الخارج هو الذي ينظر للخارج".
(إيتالوكالفينو، مختارات قصصية، ترجمة: سمير القصير، صخاري للصحافة والنشر بالمجر، 1994، ص 66).
لقد التبست الذات المدركة بالظواهر، واختار السارد علامة النافذة كتمثيل لعالم الظواهر من جهة، وانفتاحها المحتمل على الداخل مرة أخرى من جهة ثانية؛ وكأنه يفكك مركزية الإدراك، دون تمثيلاته المحتملة، والمتداخلة مع ظواهر العالم، والعلامات الكونية.
الثاني: تعزز القصة من احتمالية الحدث / الإدراك، وكذلك من احتمالية لغة السارد، ومعرفته بالشخصية الفنية، وبذاته أيضا؛ ومن ثم يؤكد النص تجدد الأسئلة حول الوعي، والإدراك نفسه، أو إمكانية النظر إليه بوصفه علامة مؤجلة تجمع بين الداخل، والخارج، وبين الأنا، والأشياء، والعلامات الكونية.
وأرى أن نص كالفينو السردي يجسد مبدأ المحاكاة الساخرة أيضا فيما يتعلق بإعادة إنتاج الوعي، وشخصية الراصد، ومعرفة السارد الاحتمالية معا؛ فعلامات الظواهر، والمشهد الكوني، تعيد تشكيل الشخصية فيما وراء مقولات مركزية الحضور، والتأمل، والإدراك، والتفسير.