القاهرة 08 مايو 2018 الساعة 11:16 ص
كتبت: فردوس عبد الرحمن
هذه الرواية تنزلق إلى عالمك الداخلي بقسوة الرعب المدجن على حد تعبير (ريجس دوبريه) في تعريفه للجمال.
فالمجاز الذي تصخب به الرواية ليس زخارف لغوية أو حيل لفظية مضافة من الخارج، بل هو الإمساك بالصور الداخلية، باللاوعي البدائي والجمعي، بالتاريخ المتجذر في عظامنا جميعًا دون أن ندري، لذلك لن أتحدث عن لغة شعرية، بل عن رؤية شعرية، فالكاتب الذي لديه القدرة على مواجهة اللاوعي والتحديق في ظلماته، لابد أن تخرج لغته بهذا المستوى المرعب والجميل في آن أو كما يقول يونج: "إن الإنسان الذي يستطيع الغوص في طبقات من اللاوعي، لابد أن تصبح رؤيته للوجود شعرية"
تلك هي ميتافيزيقا الرواية، لكنها ليست الميتافيزيقا التي تريح العقل وتزيحه جانبًا، وسوف نرى أن الكاتب يستخدم كل شيء تقريبًا ليفككه ويقبض على ما هو عكسه تمامًا، فذلك العالم الضبابي، المعتم، اللامنطقي، الماورائي.. يضعنا وجهًا لوجه أمام الإنسان بحقيقته المرعبة وأسراره الملغزة. إنه يجدُّ في البحث عن الأسطورة الخاصة بكل شخصية من شخصيات الرواية كي يصل إلى حقيقتها، في علاقتها بالمعنى الواقعي الذي يبرر غرابتها وتشابكاتها المعقدة مع عناصر الوجود. تلك هي الدهشة التي تنتج غالبًا من تحويل الغريب إلى مألوف، من استدعاء اللاواقعي إلى الواقع، من عقلنة الجنون، ومَنطَقة الغيب. وأعتقد أن ذلك بالتحديد هو سر الحركة المضنية التي تتبعها الرواية، هذا الهبوط والصعود، وأقصد هنا الحركة الدؤوب من منطقة اللاوعي إلى منطقة الوعي والذي يشعرنا باللهاث والإجهاد أثناء تتبعنا لمسيرة تلك الرواية.
لقد فعل الكاتب هذا مع كل عناصر الرواية، اللغة، الصور الفوتوغرافية، الموت، الزمن، الهوية.
وددت لو أكتب تحليلًا نفسيًا للشخصيات التي يقدمها لنا الكاتب، إلَّا أن المقام هنا لا يسمح إلَّا بالغوص معها واستخراج مكنوناتها ولو أني أعرف أن التحليل النفسي ذاته هو أحد المستويات الجمالية في هذه الرواية.
ولسوف أكتفي هنا بالحديث عن الموت في رواية (عند المستوى الخفي)
الموت
جميع شخصيات الرواية موتى، وما إن يكتشف الميت أنه ميت، حتى يوقظ موته ويعايشه بصيغة جنونية، لقد بزغ وعيهم جميعًا على ذلك المصير، حتى أن سيد الكيال، وكان أكثرهم حياة، عندما يدرك أن الموت هو سارق الوجوه، تلك التي تقطن فيها الأنا، مما يعني غياب الأنا، يظل يعبئ نفسه بكل الوجوه التي غابت مع الموت، حتى يمتلئ بالموتى، ومن هنا كانت هواية التحنيط لديه،(تحنيط الحيوانات)، ثم التصوير بعد ذلك الذي دفع إليه ابنه قاسم، ليحتفظ أيضًا بالوجوه، نكاية في الموت، بخلاف حليم العلي، الذي قال عنه قاسم المصوراتي: "ذلك الرجل ميت قديم" حيث إن حليم العلي لم يعر الصور أدنى اهتمام، وسخر من محاولات سيد الكيال وابنه قاسم في الإبقاء على الوجوه، بعد أن أدرك أن الموت هو نسيان النسيان، هو الضوء الذي يصهر كل شيء ويحوله إلى نقاوة خالصة، مثلما تفعل النار تماما، النار التي أولع بها، وكان يجلس أمامها كل ليلة في صمت حارق، تحول معه إلى غبار، غمر زوجته مُرَّة.
حتى قاسم المصوراتي الذي احتفظ بالوجوه قبل أن تذهب إلى الموت، أدرك في النهاية، أنه بكاميرته منح كلًا منهم حفرة زمنية، ليدفن فيها الآخرين ونفسه، إنه يحيا في انتظار دائم لموت الكائن، إنه صانع أشباح، أعد للمستقبل عفاريته الضالة، كما قال، لقد كان يرى الجثث تحت الوجوه التي يلتقطها، "إلى متى سأظل أهدر أيامي بحثًا عن موتى قادمين" هكذا قال قبل أن يكف عن تلك المهنة نهائيًا، لقد هُزِم هو الآخر أمام الموت.
حركة الرواية كلها مكرسة لدرء الموت أو استدعائه، حتى أنني أستطيع أن أقول، إنها "سرد الموت" بطبقاته المتعددة، بفلسفاته، بحالاته الشعورية واللاشعورية داخل الشخصيات في مواجهته، حتى أن عناصر الكون الأربعة، الهواء والماء والتراب والنار، استخدمها الكاتب لتبحث عن ذلك المصير –الموت-، فهذا علي الألفي، المنجرف من نفسه بفعل الهواء، أو كما يُقال، بمزاج هوائي في تقلباته المجنونة. في آخر مشهد لحياته، بعد أن ركب جناحين كبيرين من الكرتون الخفيف، صاح: "(الأغبياء لا يعرفون أن كلًا منا يطوي بداخله طائرًا لطيفًا، سأخرجه من داخلي وأريهم كيف يحلق في سماء الوجود)، ثم قفز إلى سور السطح، ولم يزل يصيح،(انظروا، ها هو طائر يحلق في الأعالي) ثم أعمل جناحيه في الهواء"
وهذه الجدة هانم، التي ارتبط وجودها في أيامها الأخيرة بالماء، بعد موت زوجها سيد الكيال، وكان يأتيها من خلف رذاذ السماء، ليضحك في وجهها، حتى أنها تركت شقتها وأقامت فوق السطح كي تسقي شجرة اللبلاب، فقد أرادت أن تسقي موتها القادم بالماء لعلها تصير شجرة.
وهذا حليم العلي الذي صاغ حياته أمام شعلة من نار، قالت عنه الجدة هانم:"النار هي الراقصة التي يستأجرها ليقضي معها ليله الطويل" حيث أيقن حليم أن الموت هو نسيان النسيان، الضوء الذي يصهر كل شيء، مثلما تفعل النار تمامًا، النار التي أولع بها، أما الغبار فهو العنصر الرابع الذي تحتشد به الرواية، وتندفن تحته جميع شخصياتها.
كانت هذه مجرد نماذج من النماذج والأمثلة العديدة التي يحفل بها هذا العمل الأدبي الرهيب، (عند المستوى الخفي)
هكذا يكون الجنون الذي يبتلع الحياة الواقعية لشخصيات الرواية، موتًا، وما يفعله الكاتب هنا هو الإمساك بكشاف يمخر ظلمتهم جميعًا للإمساك بذلك الموت الحي.
أسرار الموت وطقوسه وأساطيره هو النسيج الحريري لتلك الرواية. يقول نوح، أحد شخصيات الرواية، ذلك الذي ظل شاخصًا إلى السماء بعنف كي يجد حياته، أو قل ينقب عن موته، يقول: "ما نحن سوى ظلال لأجسادنا الضائعة في الماضي نفسه، ولا عمل لنا غير إتقان الموت، موتنا"
الموت في هذه الرواية يزخر بكل المعاني والأسرار، إنه موت صاحي، موت لايميته موت، مليء بالخيالات والأحلام وغور لا نهاية له.
"الكتابة تحيي الموت، تستدعي الموتى وتحييهم في نفوسنا"، هكذا كتبت زهرة التي أخرجوا جثتها من البحر، لكن زهرة كتبت وستظل تكتب كي تستدعي موتى، يحيون ويتمشون في أدمغتنا وأحلامنا ويكبرون على هواهم. آهٍ يا علي!! ذلك الذي أودعوه القبر مذ كان طفلًا، ثم ظل يكبر في خلايا زهرة، في خيالاتها وعندما أرادت أن تدفنه، وجدوها جثة طافية على أمواج البحر.
الموت قرين للبحر أم للسماء، أم للهاوية الفاغرة فاها داخل نفوسنا جميعًا؟