القاهرة 23 يناير 2018 الساعة 11:29 ص
بقلم: حنان سعيد
التحليق فى أفق كتابات أحمد حميدة فى وعورة صعود جبل والكتابة عنه عسيرة بلاشك كاستغوار باطن الأرض للتنقيب عن منجم مـــا، فكتابة أحمد حميدة لا تعطى نفسها بسهولة لقارئها فهو لابد أن يكون قارئا من نوع خاص يجيد مراودة النص وخضخضته لفض مغاليقه، ويحتاج لقراءته أكثر من مرة.
وأحمد حميدة لا يكتب عن الإسكندرية التى نعرفها، فللإسكندرية ثغر باسم وتغريدة صبوح تقابل به غربائها ومريديها، فيتلقفهم طريق الكورنيش يغشاهم سحرها المغناج.. وحوانيتها العامرة وغوايتها الساحرة.. ويمتشق قدها الفارع بنعومة يتمطى لجوار البحر، بينما يعرف مسحوقوها ومطحونوها وجها آخر مختلف مختلف عن ذلك الأسفلتى الأسمنتى الأملس.. وجه خشن قبيح.. مظلم مشوه.. جاف.. هذا الوجه يجيد حميدة تسلقه وسبر أغواره، والنفاذ لمفازاته، فتلك براعته.
فهو بحق سيد الشوارع التحتية، وملك المقاهى الشعبية المنسية، والبيوت المصهورة فى بوتقة الفقر والفاقة، والجدران الحائلة وعمدة الحوارى الساقطة من على خرائط المدينة العامرة ومن حساباتها، وفارس الأزقة والأرصفة والليل والطرقات الموحشة والمنبوذين والمسحوقين.. هذا هو عالم حميدة، فهو لا يطارده ولا يسعى وراءه، فالقصص تسقط فى جعبته من تلقاء نفسها.. عن طيب خاطر.. تاركة له القياد، واثقة من أمانته، فتبوح له بأسرارها التى تضن بها على غيره، قد يظفر بها فى حافلة نقل عامة.. ميكروباص.. ترام.. أتوبيس.. يقفز بها بخفه فهد متربصا فى هدوء، راصدا فريسته، إلى أن تسقط عفوا أو عمدا.. فهى إما ذلك الغريب الراقد بجواره فى وسيلة النقل.. الكريه.. المتاخم.. المتطفل.. المرذول.. الذى يتحول فى نهاية القصة لهذا "الوافد" البغيض.. الجاثم على أنفاس الجسد العربى.. أو هؤلاء الراقدون بجواره الناعسون.. الصامتون.. "صمت الغفوة" المغيبون.. التائهون.. لايعرفون الشهر العربى ولا يدركون التقويم العربى، أو هذا "الولد الصغير" المنطرح على القضبان الذى ربما مات هاربا من أهله أو جائعا.. والذى بعد تفتيشه لم يعثر على هويته.. هذا الولد الذى منه آلاف النسل والولدان.. أو ذاك المتملص من ثمن التذكرة وووو....
حتى عندما يختار المكان الخطأ الفندق الأنيق أو القاعة الكبيرة ذات الإضاءة المتلألئة يهرب إلى أضأل كائن.. ربما كان جرسونا، ربما كان طفلا ضالا يعوى فى الموسيقى التصويرية للمشهد كما فى "صوت المطر والريح".
المكان دائما سيد العمل فهو إما "تل الزبالة" أو "السجن" "الدكان" "الشارع" "الرصيف".. يغزل أحمد حميدة ببراعة شديدة، وبأدواته المحكمة، وبأمانة شديدة يطرح أشد قضايا الوطن التهابا ووطأة، وأعمقها تأثيرا، يفجره من خلال الحدث المتنامى خلال النص، وربما لا يكون الحدث المطروح على المستوى الواقعى هو المقصود بعينه لكنه التكأة التى يستند إليها حميدة ليفجر تساؤله، أو محطة الإقلاع للقضية التى سيطرحها.. كل ذلك بتأن لا يفقد القارىء شغف المتابعة، ومن خلال شخوصه البسطاء الذين هم عامة الشعب الذين يتخبطون فى قاع المعاناة والألم، والذين هم فى النهاية المجتمع بأسره والأمة بأسرها، فيصبح النص محملا دائما بالهم العام الذى يؤرق كل كاتب صادق.