القاهرة 10 يناير 2018 الساعة 01:45 ص
لطفي السيد منصور
إريك نويوف الكاتب والصحافي الفرنسي المولود في عام 1956. بدأ مشواره الأدبي عام 1980. حصل على مجموعة من الجوائز منها جائزة الـ (Deux Magots) عام 1996 عن رواية"غزل البنات" وجائزة (Interallié) عن رواية"البنت الفرنسية"والجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية عن روايته هذه(مغفل) ..
في أحد حواراته يعدد ميلان كونديرا أشكال الرواية في القرن الثامن عشر ويقول عن أحد أنواعها وهو رواية الرسائل: "رواية الرسائل. ولقد أتاحت هذه البنية أيضاً حرية شكلية كبيرة للغاية، لأن الرسالة، وبشكل طبيعي جداً، يمكنها استيعاب كل شيء: تأملات، اعترافات، ذكريات، تحليلات سياسية، أدبية...إلخ."
أعتقد من أجل هذه الحرية ومن أجل استيعاب موجة غضب الرواي الذي سُرقت منه حبيبته وغضب ذاكرته التي قد تبدو مرتبكة كان قد اختار كاتبنا شكل الرسالة لروايته هذه. فرواية "مغفل" هي رسالة طويلة تقع في 208 صفحة في النسخة الفرنسية والتي يوجهها الراوي الثلاثيني الذي يعمل في وكالة للدعاية والإعلان ، إلى الرجل الذي سرق صديقته. إنه يعيش قصة حب رائعة مع "مود"، السيدة المثيرة والمتقلبة وهو ما يحبه "إيريك نويوف". أثناء قضاء عطلة في جزيرة قبالة روما، يلتقي الحبيبن سبعيني ساحر برفقة ابنة أخته. لأول مرة، لم يوضح لهما هويته الحقيقية ولكن فيما بعد كشف عن نفسه إنه ليس سوى "سيباستيان بروكنجر"، الكاتب الأمريكي الأسطوري المنسحب من الحياة العامة، الهارب من العالم، المنزوي في غابة "فيرمونت" حيث يعيش حياة وديعة مما يثير فضول الساحة الأدبية بأكملها. وباختصار، "سيباستيان" هو النسخة الكاملة من الكاتب الأمريكي ج. د. سالينجر، مؤلف" الحارس في حقل الشوفان".
لكن الروائي ذو الخبرة لديه دوافع خفية. لقد استسلم لسحر الشابة "مود" ويعتزم إغرائها بكل ما لديه من هيبة كبيرة وملغزة، وسرقتها من البطل الذي هو نصف عمره، على الرغم من الجانب الشبقي العجوز والكحولي. الراوي، المخدوع الرائع، ممزق بين المرارة والإعجاب والغيرة والعاطفة تجاه هذا الكاتب العظيم ولذلك نراه يكيل له السباب ويُحقر منه، والاستياء والحماس تجاه أعمال هذا الروائي الأمريكي لذا يناديه بضمير الجمع المخاطب الذي يعبر عن الاحترام . يتساءل كيف يقبل أن تقع امرأته بجنون في حب هذا الشيخ العجوز، معبوده الأدبي.
لكن على ما أظن هذه الحكاية البسيطة القديمة الجديدة ليست سوى تكأة استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم. فمثلا يقول
"أي عصر يتآمر علينا؟"
بالفعل عصر الصورة السريعة لا التأمل، عصر التسلع لا الإنسانية إنه مجتمع الفرجة والاستهلاك.
لقد أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكننا ولا يمكن الآخرين من التأمل والفهم.
"سينتهي بها الأمر أن تترككم أنتم أيضًا، من أجل أن تتزوج طبيب أسنان و نجد نفسينا نحن الاثنين كمغفلين."
إنه العالم الذي جعلنا جميعا كما يرى الراوي مغفلين.
رواية قصيرة كتبت برشاقة وتناغم. يتخلل هذه الرواية أقول مأثورة فاتنة ومحبطة، كما تختلط فيها المشاعر واللامبالاة. نعثر فيها على شخصيات من وقت آخر، عصر آخر، عزيزة على "إيريك نويوف".
الكتابة سريعة، متشنجة، عصبية، حديثة اللهجة وتعبر عن مشاعر مختلطة، ولذا نجد الكاتب قد عرض حكايته في شكل الرسالة حتى تتاح له الحرية التي قال عنها كونديرا فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وحسب حالة ذاكرته أوحسب ما يتوارد إليها فهو يحكي مأساة حب كان. إنه الكولاج أو لعبة البازل التي يحكي من خلالها قصته ويرتب ذاكرته ويتطهر من هذه المأساة الغرامية. لم يعد العالم عالمًا متصلًا متواصلًا بل صار عالما متقطعا عالما سينيمائيا تتجاور فيه اللقطات، عالمًا مليء بالفترينات المتنوعة عالم الاستهلاك والفرجة. العالم الذي لم يعد يستطيع الإنسان أن يحتفظ فيه بحبيبته كصديقة. ومن أجل هذا العالم الاستهلاكي نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته الحبيب الذي يعمل في الدعاية والإعلان تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء –حتى الشيء وضده- وتقنعك بأن تشتري ما تحتاجه وما لاتحتاجه . المهم أن تييع. ثم الحبيبة التي سُرقت منه تعمل بالعقارات وهذا المجال أيضًا للبيع والشراء ،خاصة البيع حتى لو لم يكن العقار /السلعة بها ما يجعلك تشتريها فهناك ثديي "مود" يروجان لها ويقنعانك بها. ولص الحبيبة هذا الكاتب الأمريكي الغني الذي استطاع أن يبهر مود بماله وممتلكاته وهالته الملغزة . هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يغري مود بشراء عجوز سبيعيني وترك شاب ثلاثيني يستطيع أن يشبع رغباتها الإنسانية والأنثوية.
إنه السوق الذي صار فيه الإنسان هو البائع لنفسه. إنه الإنسان الذي نسي أن يعرف ما لون عيني حبيبته ولم يكتشف إنه يحبها كل هذا الحب إلا بعد فقدها.
الرواية رغم صغر حجمها والتشويق واللغة اللاهثة التي استخدمها الكاتب إلا إنها غنية بالرؤى العميقة التي ربما تتوه في وسط الجمل والكلمات البسيطة والعادية. وربما في حالة التشوش التي لدى الراوي وحاول أن ينقلها لنا في هذا الإطار.