القاهرة 26 ديسمبر 2017 الساعة 10:33 ص
بقلم: محمد غباشي
«لماذا تريد قتل نفسك»؟
بما أنكم تسألون، فأنا لا أتذكّر معظم الأيام.
كنت أسير في ملابسي، ولا أشعر بزخم الرحيل.
هكذا يعاودني ذاك الشبق الذي لا يُسمَّى.
حتّى إن لم يكن لديَّ شيء ضدّ الحياة.
فأنا أعرف جيّداً شفير الأعشاب التي تذكرون،
وذاك الأثاث الذي وضعتموه تحت لهب الشمس.
غير أن الانتحارات لها لغتها الخاصّة.
كتبت آن سكستون هذه القصيدة للإجابة عن السؤال الذي وجّهه العالم إليها وإلى صديقتها سيلفيا بلاث وغيرهما ممن حاولوا الانتحار
فتعالوا نتأمل سيره هذه الشاعرة التي لم تجد في الانتحار إلا خلاصا رائعا للتخلص من متاعبها وآلامها
ولدت الشاعرة الأمريكية الشهيرة “آن سكستون” عام 1928، في مدينة “نيوتاون”، بولاية “ماساتشوستس”. وعاشت حياة مضطربة منذ طفولتها؛ عانت فيها من سقم الجسد واعتلال الروح واختلال العقل.
خضعت “آن” للعلاج النفسي أغلب فترات حياتها، وقضت سنوات في المصحات النفسية، حاولت الانتحار مرات عديدة، حتى نجحت إحدى هذه المحاولات يوم 4 أكتوبر، عام 1974.
أثناء تلقيها العلاج في أحد المستشفيات النفسية عام 1955، نصحها الطبيب المعالج بكتابة الشعر كوسيلة لتحسين حالتها النفسية. فبدأت بالفعل في كتابة الشعر، و حضور ورش لكتابة الشعر، وعليه فقد تحسنت حالتها النفسية.
المدهش في الأمر أن قصائدها الأولى لاقت قبولاً واسعاً وترحيباً كبيراً، بعد نشرها في صحف ومجلات شهيرة، مما شجعها على الاستمرار في الكتابة والسعي للدراسة. فالتحقت بعد ذلك بجامعة “بوسطون”، وتعرفت علي زميلتها في الجامعة والشعر “سلفيا بلاث”، وغيرها من كبار الشعراء
تعرضت “آن” إلى عدة انتكاسات صحية في الستينيات إلا أنها كانت الفترة الأكثر خصوبة وإنتاجاً في حياتها، أنجزت فيها ست مجموعات، وكتبت أربعة كتب للأطفال، ومسرحية بعنوان “شارع الرحمة”؛ تم عرضها على المسرح عام 1969، كما شاركت في تكوين فرقة موسيقية. ولقد ساهمت تلك التجربة في رفع إحساسها بالموسيقى، وهو ما انعكس على أشعارها.
وكانت قد نشرت ديوانها الأول عام 1960، بعنوان “إلى مستشفى المجانين والعودة مؤقتاً”، ونالت جائزة بولتزر عن ديوانها الثالث “الحياة أو الموت” في عام 1967.
وفي عام 1974، صدر آخر ديوان في حياتها بعنوان “دفاتر الموت”، وبعد وفاتها تم نشر ثلاثة دواوين أخرى.
ويرى بعض النقاد أن “آن” لم تكتب الشعر سوى اثني عشر عاماً فقط، بسبب ظروفها الصحية، ومع ذلك أصبحت واحدة من أشهر شاعرات الولايات المتحدة في تلك الفترة الوجيزة، ونالت جائزة بولتزر في الشعر؛ أرفع جائزة أدبية أمريكية، وحظيت بعضوية المجمع الملكي الأدبي. ولم يمنعها هذا النجاح من الانتحار في الرابع من أكتوبر عام 1974.
ويبدو أنها خططت لتلك اللحظة وفكرت فيها طويلاً، ولم تكن مجرد انفعال لحظي. فبعد أن أنجزت ديوانها الأخير “الرحلة الشاقة إلى الرب”، لم تسمح بنشر أي من قصائده في حياتها، وخططت لطبع الديوان في عام 1975. كما أنها انتحرت بعد عودتها من جلسة مراجعة نهائية لهذا الديوان.
اتهم بعض النقاد شعرها بالتأنق والترهل، وهاجموا موضوعات قصائدها لأنها تخدش الحياء، كما ثار جدل حول مدى تأثرها بالشاعرة الكبيرة “سلفيا بلاث” في طريقتها في الكتابة والحياة. ومن المعروف أن “بلاث” انتحرت عام 1963، وأنها كانت تعيش حالة عميقة من الحزن والإحباط. إلا أن أغلب النقاد اعتبروا أن “آن” شاعرة كبيرة، ذات تجربة عميقة، واتسمت بجرأة جعلتها تسبق عصرها. فكان إصرارها على كتابة نفسها بكل صراحة، إلى جانب تجاربها الشخصية المؤلمة هما الباعث الأكبر على تشكيل عالمها الشعري على هذا النحو.
كما كشف شعر “آن سكستون” عن موقفها الرافض للحياة، ونزعتها الانتحارية نتيجة مرضها العقلي. وكانت قد كرست قصائدها لشرح ذاتها، والتعبير عن أحلامها وأوهامها وهواجسها، وموقفها من الحياة، وعلاقاتها الشخصية، لدرجة دفعت بعض النقاد إلى اعتبار أشعارها بمثابة “اعترافات” بالمفهوم المسيحي. وقد دعم هذه الفكرة اعتمادها على الكتاب المقدس بشكل ملحوظ في التشكيل اللغوي والجمالي لقصائدها، رغم أن هذا الاعتماد لا يطال موقفها الفكري.
كتبت “آن” عن الجسد البشري باعتباره مادة هشة قابلة للمرض للتحلل والزوال، ومحكوم عليها بالفناء. كما سخرت من سعي البشر لمطاردة الخلود؛ فكل ما يُنتجه هذا الجسد الفاني عرضة للفناء. الصور الفوتوغرافية واللوحات التي تحتفظ باللحظات الحلوة الصافية لا تصمد طويلاً في مواجهة الطبيعة وخيانة الكيمياء. تتحلل ثمرة الفاكهة بعد عدة أيام، ويتحلل الجسد البشري بعد عدة عقود، فهل تصمد الذكرى والذكريات؟ تجيب “آن” على هذا السؤال بنفي حاسم، وتضع القارئ أمام مفارقة قاسية في قصيدتها “صورة طفلة”.
هذه المفارقات الساخرة المُقبضة سمة لدى “آن سكستون”، ففي قصيدتها “الرقصة الحمراء”، تمر “سابو”؛ الفتاة التي ترقص وهي في طريقها للانتحار، تمر على مقاعد العشاق، وقبل أن يتحرك ذهن القارئ لتخيل هذا المشهد الرومانسي، تكتب “آن”
(الكلاب تتبول على تلك المقاعد).
فهي لا ترى “آن” قيمة للحياة أو للحب أو لغيرهما من العلاقات الإنسانية رومانسية الطابع، و تعتقد في وجود صراع شرس؛ لا جدوى من الانخراط فيه. الحياة بالنسبة لها مأزق وجودي، لا سبيل لفهمه أو التعايش معه، وبالتالي يكون الانتحار هو القرار الأنسب. الانتحار، كما ترى “آن”، قرار حكيم، يبعث على البهجة؛ لهذا نرى “سابو” ترقص في طريقها إلى الموت، بعد أن اختارت اللون الأحمر لثوبها الأنيق، كأنها ذاهبة إلى حفل، كما انها اختارت طريقاً بهيجاً تسير إلى نهايتها التي وضعتها بيدها
وقد اختارت “آن” مشهداً مختلفاً لموتها، فبعد أن عادت من حفل رائع، خلعت ملابسها
وارتدت أحد ثياب والدتها، وصبت لنفسها كأساً من الفودكا، لترشف منه وهي تموت اختناقاً في جراج بيتها بعادم السيارة. حاولت أن تكتب ذاتها، ولكنها لم تحاول أن تكون ما كتبت، ولم تصنع لحظة بنفس بهاء لحظة انتحار “سابو”.
وربما قررت أن تصنع بموتها مجازاً يجسد المسافة بين الواقع والأحلام
أو كما قالت في بيتيين مختصريين
سوف أرحل الآن
دون شيخوخة أو مرض،
بعنف ولكن بطريقة صحيحة تمامًا
وأنا أعلم أفضل طريق سأسلك