ترجمة ـ صلاح صبري
هاجس مقيم لا يفارق خيالي في ليل أو نهار؛ بعد أن يوسعنا اللصوص ضربًا وجلدًا بالسياط، سيسلقون لحومنا ثم يلتهمونها. غير أنهم بدأوا بالإهانة: مزقوا ثيابنا. لم يتركوا لنا مزقة نغطي بها رؤوسنا وأجسادنا، أو نستر بها عوراتنا. لم يتركوا حتى النعال في أقدامنا. صرنا كالماعز، وصرنا كأسرى يميزنا العري أينما نذهب. ولكن سارقينا هم أيضًا يميزهم ما ليس عندهم: ذلك البريق الذي يلمع في العيون. هل قابلت في حياتك شخصًا يقترف أشياء فظيعة، ويستطيع أن ينظر في عينيك دون أن يفزع؟ أن تنظر في وجه آخر يعني شيئين: أنك تقر بإنسانيته، وأنك تؤكد، في الوقت ذاته، إنسانيتك أنت. ما أن بدأت رحلتي الطويلة من أرض الوطن، حتى أدركت أن في هذه الدنيا أناسًا لا يعرفونني، ولا يحبونني؛ بل ولا يهمهم حتى أن أعيش أو أموت.
ثمانية منا تم أسرهم سواء خارج بايو، أو من القرى المجاورة. الوحيد الذي أستطيع تمييزه من بينهم في هذا الظلام هو فومبا. مرت ساعات طويلة وأنا أسير مثقلة الخطا، وغير منتبهة لاحتكاك الطوق بالالتهابات والتسلخات في رقبتي. لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في أبويَّ، ولا في المصير الذي لقياه. في لحظة، أشعر أني لن أستطيع الحياة بدونهما. وفي اللحظة التالية، أجدني ما زلت أحيا رغم رحيلهما. أقول لنفسي: "استيقظي الآن.. استيقظي واشربي من القرعة القريبة من حصيرة نومك واذهبي إلى حضن أمك.. هذا الحلم يشبه الملابس المتسخة.. اخلعيها عن جسدك واذهبي لتري أمك." ولكن لا شيء سوى كابوس مخيف بلا نهاية.
نواصل السير والظلام يلفنا، بينما عدد الأسرى في قافلتنا يتزايد باطراد. وفي الصباح، ألاحظ أن فومبا يمشي مطأطئًا رأسه. ثم أرى فانتا. ولا أثر للزعيم. فانتا مكبلة هي الأخرى بطوق حول رقبتها. تحدق في الغابة محصية أسرانا، بينما تتواثب عيناها ذات اليمين وذات الشمال، لأعلى ولأسفل، وكأنهما طائران حط في قلبيهما الفزع. أريد أن أناديها بأعلى صوتي، ولكنها مقيدة بالحبال في مكانها، وفمها محشو بالقماش. أحاول أن أناديها بعينيَّ، ولكنها لا تستجيب لنظراتي. تسقط عيني على بطنها العاري. زوجة الزعيم حبلى. أظنها في الشهر الخامس.
نسير والشمس تلهب ظهورنا، حتى نصل إلى نهر عظيم لا تهدأ حركته. في النهاية، يفكون قيودنا، ويتركوننا نلتقط أنفاسنا عند شاطئ النهر. يقوم على حراستنا أربعة رجال، مسلحين بالهراوات والعصي التي تقذف اللهب.
ربما كان هذا هو نهر النيجر نفسه الذي يقال إنه يمر بالقرب من سيجو. تمامًا كما وصفه أبي، يزيد في عرضه عن مرمى حجر. حافل بالقوارب المكتظة بالناس والبضائع. يتفاوض اللصوص مع كبير الملاحين، ثم يكبلون معاصمنا، ويقذفون بنا إلى القوارب. ستة من الملاحين يوجهون القارب الذي يضمني. بينما الملاحون منهمكون في التجذيف، ثمة حصان يقف ساكنًا تمامًا.
حالما نبلغ الضفة الأخرى للنهر، يحلون قيودنا، ويتركوننا نخرج. يهب علينا هواء المستنقعات برائحته الكريهة. تتكالب أسراب من الناموس على ساقيَّ وذراعيَّ. حتى وجنتاي لا تسلمان من لسعها. ينقد اللصوص للنواتي أجرتهم من الأصداف. أحس بصدفة تحت قدمي، فألتقطها قبل أن يضعوا القيد حول رقبتي من جديد. الصدفة ناصعة البياض، صلبة، حوافها مشرشرة كأن بها عددًا لا يحصى من الأسنان الصغيرة، وهي في مجملها لا يزيد حجمها عن ظفر إبهامي. مصقولة، وجميلة، وتبدو غير قابلة للكسر. أشطفها بالماء، ثم أضعها على لساني. ينتابني شعور بالارتياح، وكأنها صديقتي. أمصها بشدة، وأتساءل: ترى كم صدفة يبلغ ثمني؟
يكبلوننا بالأغلال من أعناقنا، مثنى و ثلاثَ، ثم يأمروننا بالسير في طابور. يسير إلى جوارنا صبي، ربما يكبرني بأربعة مواسم مطرية، يفحصنا، تاركًا إيانا نرشف الماء من قربة معه، ومفرقًا علينا شرائح من برتقالة أو ثمرة مانجو، أو قطعًا من شطائر الدخن أو الذرة. وبين لحظة وأخرى، يغافل اللصوص الذين يكبرونه في السن، ليسترق النظر إليَّ. يتكلم البامانية، ولكنني لا أعيره التفاتًا. نحيل، وكأنه كله ليس سوى كتفين، ومرفقين، وركبتين، وكاحلين. واسع الخطوة، يمشي في حركة بليدة غير متناسقة. على شفتيه ابتسامة دائمة لا تفارقهما. أقول في نفسي: "ليس ثمة من يمكن أن يصادقه هذا الصبي.. لا يبتسم المرء في وجوه أعدائه." ولكنني أرتاب في ذلك فجأة. أذكر أن أبي قال لي إن العاقل من يعرف أعداءه، ويقربهم منه. من الجائز جدًّا أن هذا الصبي، الذي لا يكف عن النظر إليَّ بعينيه الواسعتين البريئتين، إما أن يكون عدوًّا، أو أنه مجرد ولد فضولي، يبتسم في بلاهة، ويسلي نفسه بالسير في محاذاتنا، ومن غير أن تكون لديه أدنى فكرة عما يشاهده. لا تعجبني نظراته وأنا عارية. لا أحب أن يراقبني أحد، ولا أن يراني، ولا حتى أن يعرفني وأنا على هذه الحال. من المؤكد أنني سأسترد حريتي. يقينًا، سينتهي هذا الوضع. بالتأكيد، سأجد وسيلة للفرار إلى الغابات، ثم أشق طريقي عائدة إلى بلدتي. ولكنني لا أستطيع في هذه اللحظة أن ألجأ إلى أحد يعرفني وأنا عارية هكذا. كبرتُ جدًّا على أن يراني الناس على هذه الحال. يوشك نهداي أن يبرزا. قالت لي أمي لن يمضي وقت طويل حتى أصبح امرأة يافعة. مستحيل أن يراني أحد هكذا. أكاد أصاب بالجنون وأنا أتساءل كيف أهرب من هذا العري. ترى أي مكان يستطيع أن يأوي إليه شخص مجرد من كل ما يستره؟
حراسنا الآن حوالي عشرة من اللصوص. جميعهم مسلحون بالرماح والهراوات والعصي التي تقذف النار. يتحدثون لغة أظنها تشبه البامانية. أدرك أنهم ليسوا مسلمين، لأنهم لم يتوقفوا مرةً لأداء الصلاة. يجمعوننا في الليل تحت شجرة من أشجار الباوباب. يستأجرون خمسة رجال من قرية مجاورة ليقوموا على حراستنا. يأمروننا، وما زالت رقابنا مغلولة إلى بعضها بعضًا، بأن نساعد في جمع الحطب، وإشعال النيران، لطهي البطاطا، التي تُسلَق في الماء وحده، وبدون إضافة شيء من الفلفل. تجيء العصيدة مائعة، ولا طعم لها، ولا أطيق حتى أن أتذوقها. الصبي الذي لا يسقط عينيه عني، يحضر لي ثمرة موز. آخذها منه، وأشرع في أكلها، غير أني ما زلت أرفض الكلام معه.
تصيح فانتا قائلة: "أنتِ.. يا ابنة مامادو الصائغ.. أعطيني تلك الموزة.. ارميها هنا."
أنتهي من الثمرة، وأرمي القشرة، ثم أجيبها قائلة: "لم يكن معي غيرها."
"كلمي هذا الصبي الذي أعطاها لك.. أراه يتابعك بعينيه."
"ليس معه واحدة أخرى."
"الأطفال غير المؤدبين لا بد من ضربهم.. دائمًا كنت أقول لمامادو دياللو إنه متساهل معك بأكثر مما يجب."
أشعر بالغضب يفور داخلي. أحاول، بكل طاقتي، أن أتحاشى سخريتها اللاذعة.
أقول: "دعيني وشأني."
تقول هازئة: "وأمك البامانية..."
أقول: "دعيني وشأني."
"كانت تأخذك معها لتشاهديها وهي تولد كل هؤلاء النساء.. شيء سخيف."
"لم أكن أشاهد فقط.. وإنما كنت أستقبل المواليد.. وأنتِ.. من سيستقبل مولودك؟"
تفغر فانتا فاها. حسنًا! نصير الآن متعادلتين. ولكن سرعان ما أحس بالخجل مما قلته لها. قال لي أبي ألا أظهر احتقاري. وما كانت أمي لتسخر من امرأة بسبب حملها. تغرق فانتا في صمت مطبق. أتخيلها وقد انتابها الخجل، لأنها ستجد نفسها مضطرة إلى الولادة أمام أعين اللصوص.
يربطون أرجلنا بالحبال، مثنى مثنى، بينما يفكون القيود عن أعناقنا، فيصير بمقدورنا أن نرقد تحت شجرة الباوباب. يقيدونني مع فومبا، الذي يسمح لي بأن أستلقي بجوار فانتا. أتحسس بطنها. تحدجني بنظرة يتطاير منها الشرر، غير أنها تلين حين تشعر فانتا بيدي تستقر فوق سرتها في هدوء.
تقول: "اقتربي يا بنيتي.. أشعر بالرعشة في جسدك.. كنتُ فظة معك لأنني كنت جائعة ومتعبة.. ولكني في الحقيقة لم أكن أريد أن أضربك."
أكوم نفسي ملتصقة بها، وأروح في النوم.
أحس بيد تهزني من كتفي. كنت أحلم في البداية أن فانتا تأمرني بأن أحضر لها ثمرة موز. غير أني أفتح عينيَّ، ولا أعود أحلم، فأجد فومبا يقول لي إنني كنت أبكي في نومي بصوت عالٍ.
يقول فومبا إن صراخي أقلق الحراس، وإنهم توعدوا بأن يضربوني لو لم أكف عن إزعاجهم. ويقول إن رجليَّ كانتا ترتعدان بعنف. يستلقي إلى جواري وهو يربت على ذراعي قائلاً إنه لن يسمح لهم بإيذائي، ولكنه يريدني أن أنام جيدًا.
الرجال الذين اختطفوني يأخذون الأرنب من فومبا، ثم يسلخونها ويشوونها على النار. لا أعرف طعم الأرانب، ولا الدجاج، حين يتم طهيها بعد الذبح مباشرة. أستلقي على ظهري، وأروح أحدق في النجوم من فوقي. في الأوقات السعيدة، كنت أحب أن أشاهدها وأنا وسط أبي وأمي. هناك عاليًا في السماء، ‘قرعة الشرب’ ذات اليد المتألقة.
يستغرق فومبا في النوم من جديد. أقف لأصلي باذلة كل ما في وسعي لكي لا أشد قدمه في أثناء حركتي. ليس لدي ما أغطي به شعري، ولكنني أبدأ الصلاة على أية حال. أطأطئ رأسي واضعة إبهاميَّ خلف أذنيَّ. أقول: "الله أكبر." أضع اليد اليمنى فوق اليسرى، وأقول: "سبحانك اللهم وبحمدك". وقبل أن أنطق حرفًا آخر، يجيء أحد اللصوص، فيضربني بعصاه، آمرًا إياي بالاستلقاء ثانية على الأرض. ثم أروح في سبات عميق.
في الصباح، فيما بين أول خيط من الضوء وشروق الشمس، أكرر المحاولة، غير أن شخصًا آخر يضربني بالعصا. وبعد علقة أخرى في الليل، أقلع عن الصلاة نهائيًّا. فقدتُ أمي. وأبي. وبلدتي. ضاعت فرصتي في تعلم كل الصلوات القرآنية. لم يعد ممكنًا أن يعلمني أبي القراءة والكتابة، كما كان يفعل في السر. كلما أحاول أن أتمتم بالصلوات في سري- الله أكبر.. سبحانك اللهم وبحمدك.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- أحس بالصلوات مختلفة عنها حين أجهر بها. الصلاة في السر ليست جيدة. أصير أسوأ من هؤلاء اللصوص. سأصبح غير مؤمنة. بدون الصلاة، لا يمكن أن أحمد الله وأثني عليه كما يجب.
منذ أيام عديدة، ونحن نمضي مجرجرين أقدامنا، بينما يتزايد عددنا شيئًا فشيئًا، حتى نصير قرية بأكملها من المخطوفين. نمر بقرية تلو أخرى، وبلدة بعد بلدة. وفي كل مرة، تحتشد جموع من الناس ليحدقوا فينا. أظن في البداية أنهم يأتون لإنقاذنا. من المؤكد أنهم سيتصدون لهذه الوحشية. ولكنهم لا يفعلون شيئًا غير البقاء متفرجين، بل إنهم أحيانًا يحضرون للصوص بعض اللحم المشوي في مقابل كميات من الملح.
في بعض الليالي، وبعد أن نعسكر للنوم في أحد الحقول، يدفع سارقو البشر لبعض القرويات لكي يطبخن لنا البطاطا، وشطائر الدخن أو الذرة، التي يقدمن معها، في بعض الأحيان، صلصة ساخنة منكهة بالفلفل. نأكل في مجموعات صغيرة، جالسين القرفصاء حول قرعة كبيرة، بينما يدس كل منا في فمه حفنة من الطعام الساخن، مستخدمًا أصابع يده اليمنى كمغرفة. وبينما نحن منهمكون في تناول الطعام، يبدأ اللصوص مفاوضاتهم مع زعماء القرى، الذين يطلب كل منهم مبلغًا من المال نظير المرور في أراضيه. كل ليلة، يظل اللصوص يقايضون، ويساومون حتى وقت متأخر من المساء. أحاول جاهدة أن أفهم ما يدور، على أمل أن ألتقط أي شيء يجعلني أعرف إلى أين نحن ذاهبون، ولماذا.
الصبي الذي يعمل لدى اللصوص، يعود بين الحين والآخر، فيمنحني شيئًا من الماء أو الطعام. أشاهده، وأستمع إليه وهو يحاول إقناع زعماء اللصوص بأن يحلوا قيود الأطفال، ويسمحوا لهم بالسير بجوار الكبار المكبلين. ولا يمضي سوى أيام قلائل، حتى ينزعوا الطوق الجلدي عن رقبتي. أومئ للصبي معبِّرةً عن شعوري بالامتنان.
فتاة صغيرة تسير إلى جوار أبيها، المكبل من رقبته، ولا تترك يده معظم النهار. صغيرة جدًّا، لا يزيد عمرها عن أربعة أو خمسة أمطار. يحملها أبوها أحيانًا، بعد إلحاح شديد منها. تحاول ذات مرة أن تلفت انتباهي، وأن تلاعبني مخفية عينيها بكفيها. أشيح بوجهي بعيدًا عنها. لا أحتمل أن أراهما معًا، وأبذل كل ما في وسعي لكي لا أنصت لما يقولان. كل شيء فيهما يذكرني ببلدتي.
الصبي المسافر مع القافلة، يغير من مشيته دائمًا ليسير إلى جواري خطوة بخطوة. اسمه تشيكورا ‘CHEKURA’. نحيل كأعواد الحشائش، ويشبه في مشيته عنزة بثلاث أرجل. لديه نجمة محفورة فوق كل من وجنتيه.
يقول: "الهلالان رائعان."
أقول: "أنت من قرية كنتا ‘KINTA’."
"كيف عرفتِ؟"
أشير إلى وجنتيه قائلة: "رأيت هذه العلامات من قبل."
يقول: "هل ذهبت إلى كنتا؟"
"نعم.. كم عمرك؟"
"أربعة عشر مطرًا."
أقول: "أراهن أن أمي هي التي استقبلتك."
"استقبلتني.. كيف؟"
"استقبلتك عند ولادتك يا سخيف.. إنها ‘داية’.. وأنا دائمًا أساعدها."
"أنت كاذبة." ثم يظل متشبثًا برأيه هذا حتى أذكر له أسماء بعض نساء كنتا اللواتي وضعن في الفترة الأخيرة.
أقول: "نعم.. بالتأكيد أمي هي التي استقبلتك.. ما اسم أمك؟"
يقول بفتور: "أمي ميتة."
نمشي صامتين برهة، غير أنه يظل قريبًا مني.
أخيرًا أهمس: "كيف استطعتَ أن تفعل لنا ذلك؟" غير أنه لا يقول شيئًا، فأواصل قائلة: "ذهبتُ مع أمي إلى قريتكم.. أنا أميزها بالكوخين المستديرين.. والجدران الطينية المرتفعة.. وذلك الحمار المضحك.. بأذنه المبتورة.. والأخرى الملطخة باللون الأصفر."
يقول: "هذا حمار خالي."
"إذن.. لستَ من علية القوم؟"
يخبرني تشيكورا أن خاله قد باعه بعد وفاة والديه. ثلاثة أمطار، واللصوص يكلفونه بالمساعدة في تسيير الأسرى إلى النهر الكبير. إذن هذا يعني أننا أيضًا في طريقنا إلى النهر الكبير.لا أرى إلا واحدًا من ثلاثة أسباب: إما للشرب، أو الصيد، أو أو لعبور هذا البحر. الاحتمال الثالث هو الأرجح. أريد أن أسأل تشيكورا عن ذلك، ولكنه لا يكف عن الحديث عن نفسه. يقول إنهم أخبروه بأنهم قد يطلقون سراحه عما قريب، ولكنهم أيضًا حذروه؛ لو لم يلتزم بالطاعة العمياء، فسوف يسلمونه إلى مجموعة غيرهم من اللصوص. يلصق تشيكورا على شفتيه ابتسامة مصطنعة. يبتسم كثيرًا، لدرجة جعلتني أتخيل التجاعيد حول زاويتي فمه وقد تجمدت إلى الأبد. يقول لي إنه كان يبتسم رغم أن خاله كان يكرهه بشدة، ويبتسم رغم أنه كان يشتد في ضربه قبل أن يبيعه في نهاية الأمر إلى سارقي البشر. جزء مني يريدني أن أكره تشيكورا، وأن أجعل كرهي واضحًا وصريحًا. جزء آخر مني يحب هذا الصبي، ويهفو إلى صحبته.
فانتا دائمًا في حالة مزاجية فظيعة، وتكره مني حديثي معه. تحاول أن تأمرني بالمشي إلى جوارها، غير أني أرفض دائمًا.
تقول: "هو ليس من قريتنا."
أقول: "قريتهم ليست بعيدة عن قريتنا.. ثم إنه مجرد صبي."
تقول: "هو يعمل مع اللصوص.. لا تقولي له أي شيء.. لا تتكلمي معه."
أقول: "والطعام الذي يحضره لي والذي أعطيك منه أحيانًا؟"
تقول: "خذي الطعام.. ولكن لا تكلميه.. هو ليس صديقنا.. تذكري هذا."
وفي الغد، تلتقط فانتا حصاة من الأرض، وترميني بها، بينما أنا مستغرقة في الثرثرة مع تشيكورا.
يقول تشيكورا: "هذه المرأة ترفع رأسها عاليًا."
أقول: "رقبتها ملتهبة.. كلم رؤسائك حتى يفكوا القيود عن رقبتها هي وبقية النساء.. فلن يهربن."
يقول: "سأتكلم مع الآخرين."
وبعد يوم واحد، يحلون القيد عن رقبة فانتا، غير أنها تبقى مربوطة من قدمها مع امرأة أخرى. أنا وفانتا نمشي جنبًا إلى جنب، ولكننا لا نسير في مقدمة القافلة أبدًا حتى لا نكون أول من يستقبل الأفاعي والعقارب، ولا نسير في المؤخرة لكي نتحاشى الضرب بالسياط إذا ما تباطأت خطواتنا.
تهمس فانتا قائلة: "هنا في الوسط أمان أكثر.. ذلك ما كان سيقوله لي زوجي."
أهمس متسائلة: "ماذا حدث له؟"
تقول: "عندما اختطفوني.. كان يقاتل شخصين."
"والقرية؟"
نصفها كان يحترق."
تعتصر فانتا شفتيها، ثم تشيح بوجهها بعيدًا، فأدرك أنه من الأفضل أن ألتزم الصمت.
نعبر في سيرنا عشرات القرى. أسمع قرع طبول الـ‘طم طم’، وأشاهد الصقور وهي تحوم متكاسلة في كبد السماء، بينما يحمل النسيم إلى أنوفها رائحة عنزة لا تجد لها مهربًا.
ذات يوم، في أثناء مرورنا بإحدى القرى، يؤخذ رجل من حظيرة مسورة، ثم يساق إلى سارقينا. مكبل اليدين، وخلفه جمع من الأطفال الذين يشاهدون أهل القرية في مساوماتهم مع اللصوص. في النهاية، يأخذ اللصوص الرجل في مقابل بعض الملح والأساور النحاسية، ثم يكبلونه من عنقه مع أسير آخر في مؤخرة القافلة. ينفجر الأطفال هازئين بالأسير الجديد. وبينما يتعالى صخبهم وصراخهم، يبدأ الكبار منهم في رمينا بالحجارة وقشور الفاكهة المتعفنة. تنطلق عصًا في الهواء، فيسيل الدم ساخنًا من جرح في فخذي. أشهق فتنزلق إلى حلقي تلك الصدفة التي أحتفظ بها في فمي لتؤنس وحشتي. أحس بأني أختنق وهي تشق طريقها نازلة إلى جوفي. أهرول إلى فومبا ملتمسة منه الحماية. يبذل كل ما في وسعه ليصد عني تلك الأشياء الطائرة، صارخًا في الأطفال أن يكفوا عن إلقائها. يسير فومبا عاريًا كيوم ولدته أمه، وشعره ملبد من الأوساخ والأتربة، ملقيًا رأسه كعادته جهة اليسار، ملوحًا بيديه بوحشية، فيبدو منظره في غاية الغرابة. ينهمر عليه وابل من الأحجار وثمار المانجو العطنة قبل أن يتمكن قادة القافلة من طرد الأطفال، والإسراع بنا مبتعدين عن هذه القرية.
لا أستطيع أن أفهم لماذا يجعلنا أطفال هذه القرية تسليتهم. حقيقة، كان أطفال بايو، وأنا من بينهم، يعابثون فومبا ويضايقونه طوال الوقت. ولكننا لم نؤذه قط. لم نكبله من رقبته، ولم نمنع عنه الطعام مطلقًا. لم أر في حياتي قافلة من الأسرى يسوقهم اللصوص خارج أسوار قريتنا. ولكننا لو كنا رأينا قطيعًا من الرجال والنساء والأطفال الذين يسيرون مكرهين في طابور، لكنا حاربنا من أجلهم حتى حررناهم.
في المساء، يحضر تشيكورا قرعة ماء، وحساءً مصنوعًا من ثمار الشيا، ثم يعرض عليَّ أن ينظف الجرح الذي في فخذي.
أقول: "أستطيع أن أفعل ذلك بنفسي."
يصوِّب خيطًا من الماء نحو جرحي قائلاً: "دعيني أساعدك."
أسأله: "لماذا يسخر منا الأطفال في هذه القرى؟"
يقول: "إنهم مجرد صبية صغار يا أميناتا."
"وكل هؤلاء القرويين الذين يبيعون البضائع للصوص ويقفون حراسًا علينا.. لماذا يساعدون هؤلاء الرجال؟"
يقول: "ولماذا أساعدهم أنا؟ هل هذا باختيارهم؟"
أقول: "وهل هم جميعًا قد باعهم أخوالهم مثلك؟"
يقول: "لا نعرف ظروفهم."
في الغد، وبعد أن نجتاز إحدى القرى، أحس بارتياح عميق، لأن أحدًا من أطفالها لم يخرج ليرمينا بالحجارة، أو يرشقنا بالإهانات. يتجمع حول اللصوص نفر قليل من النسوة اللواتي يحملن الفواكه والنُّقل، وتروح إحداهن تحدق في وجهي مليًّا، وتتابعني بعينيها، ثم تسير بعد ذلك إلى جواري. تحط السلة التي تحملها عن رأسها، وتناولني ثمرة موز، وكيسًا صغيرًا به حفنة من الفول السوداني. لا أفهم ما تقول، غير أن صوتها يبدو حانيًا. تضع كفها الخشنة المتربة على كتفي، في بادرة تنم عن العطف، فتغرورق عيناي بالدموع. تربت على كتفي وهي تتمتم ببضع كلمات عجلى، وتمضي من قبل حتى أن أشكرها.
وفي أثناء مسيرتنا الطويلة هذه، يأتيني الحيض لأول مرة. أحاول أن أُطَمْئن نفسي بأنني لن أعيش طويلاً، وبأن مذلتي لن تدوم. أحس بتقلصات رهيبة في بطني. من المستحيل، وأنا عارية هكذا، أن أداري الدماء التي تنساب من فرجي نازلة على ساقيَّ.
يقترب تشيكورا مني، فأهمس قائلة: "ابتعد."
"هل أنت مريضة؟"
"ابتعد."
"خذي بعض الماء." أتناول قربته وأرشف قليلاً، غير أني لا أشكره.
"هل أنت جريحة؟"
"هل أنت غبي؟"
"أستطيع أن أساعدك."
"دعني وشأني." يسير إلى جواري برهة، غير أني أظل صامتة.
وأخيرًا، يستدير مبتعدًا عني. أصيح قائلة: "عندما نتوقف الليلة عند أية قرية.. أحضر لي امرأة منها."
يومئ مواصلاً سيره.
نعسكر في المساء عند ضاحية من إحدى القرى. لا أرى أثرًا لتشيكورا. بعد فترة، تتوجه امرأتان إلى اللصوص، وتشيران ناحيتي وهما تتحدثان معهم بحرارة. تقدمان لهم بعضًا من عرق البلح، ثم تجيئان لي.
تتحدثان بلغة لا أفهمها. تسحبني إحداهما من يدي. أنظر إلى تشيكورا الذي يومئ لي بأن لا مانع من الذهاب معها. تقودني المرأة من يدي، بينما تتبعنا الأخرى. نغادر قافلة الأسرى المستلقين تحت الأشجار، ونمر بحارس، ثم ندلف داخلين عبر أسوار القرية. أرى بئرًا، عددًا من الصوامع المستديرة، وبعض البيوت المستطيلة ذات الجدران الطينية التي تشبه جدران البيوت في بايو. تسوقني المرأتان إلى بقعة خلف بيت صغير. من الواضح أنه بيت المرأة التي سحبتني من يدي. تحضران لي إناء مليئًا بالماء الساخن، وتجعلانني أغتسل. ولما أنتهي من ذلك، تأخذانني إلى داخل البيت، حيث الجو معتدل الحرارة، فتجلسانني على دكة في ركن الحجرة. أنظر في كل مكان، بحثًا عن أي أثر لسكاكين أو أدوات أخرى، متسائلة في نفسي إن كانتا ستبتران ذلك الجزء من أعضائي، فهذي تباشير اكتمال أنوثتي آخذة في الظهور! يبلغ بي الرعب قمته، جاعلاً إياي أنظر لأرى إن كان هناك من يسد الباب ليمنعني من الهرب، في تلك اللحظة تمامًا، تدخل امرأة ثالثة، وفي يدها قطعة قماش زرقاء. تعطيها لي مشيرة بيديها أن ألفها حول جسمي. القطعة طويلة وعريضة بما يكفي لتغطية بطني وأردافي. وما أن أستر أعضائي، حتى أحس بأنني أفضل كثيرًا، وأنني في أمان. يداهمني الجوع فجأة، فأدرك أن شعوري بالخزي من العري كان يصد رغبتي في الطعام طوال الوقت. وحيث إنني الآن محتشمة، يدعونني للجلوس معهن وتناول الطعام، ويبقين يحدثنني طوال الوقت. "مدي يدك." "هاتان المرأتان لن تضراك بشيء."
يعطينني بعضًا من لحم الماعز المتبل بالفلفل، والمغطى بصلصة الفول السوداني. وجبة شهية، ولكنها دسمة. أشعر بمعدتي تتلوى، فلا آكل إلا القليل. يدسسن في يدي كيسًا به حفنة من النقل والفول السوداني، ويعطينني بضع شرائح من لحم الماعز المملح والمجفف. يبقين يحدثنني، وأفترض أنا أنهن يسألنني عن اسمي وعن أسرتي. أجيبهن بلغتي، فينفجرن ضاحكات. وفي النهاية، يرجعن بي إلى اللصوص الذين اختطفوني. من الواضح أنهن يتفاوضن، ويعرضن، ويتملقن، ولكن من دون أن يحققن أي نجاح مع رجال المجموعة، الذين يهزون رؤوسهم، ويلوحون لهن مودعين. تعود لي النساء ثانية، ويرحن يضغطن على يدي، ويتحسسن القمرين المحفورين على وجنتيَّ. يقلن لي شيئًا، ويكررنه لي مرات ومرات، غير أنني لا أفهم، فأستدير عائدة. أتمنى لو كان باستطاعتي البقاء معهن. أستلقي ثانية تحت شجرة، واللصوص يخفرونني، بينما تمنعني حيرتي من النوم. ترى ما الذي سيبديه لنا أهل القرية القادمة: القسوة أم العطف؟
تزداد القافلة في حجمها يومًا بعد يوم. عندما يوقظوننا كل صباح، ويأمروننا بالبدء في السير، نجد أسيرًا جديدًا أو اثنين. النساء والأطفال فقط مسموح لهم بالسير من غير القيود في أعناقهم. وفي الليل، عندما يُسمَح للرجال بالتحرر من القيود في رقابهم لكي يتمكنوا من النوم، يسهر الحراس ليراقبوا كل سكناتنا وحركاتنا. تمتلئ قدماي بالفقاقيع التي تسبب لي ألمًا رهيبًا، ثم يخشوشن جلدهما حتى يتكلس تمامًا. يريني فومبا باطن قدميه بعد يوم طويل من المشي. اصفر جلدهما، وصار أكثر سمكًا ومتانة من جلد الماعز، ولكنه صار أيضًا خشنًا ومليئًا بالتشققات. إنه ينزف من بين أصابع قدميه. أقنع تشيكورا بأن يحضر بعضًا من زبدة الشيا من إحدى القرى، وذات ليلة، تقأقئ فانتا ساخطة، وأنا أدلك قدمي فومبا بزبدة الشيا.
يقول: "شكرًا لك.. يا ابنة مامادو وسيرا."
لا أعرف اسم أبويه. ولا أعرف اسم عائلته. "عفوًا يا فومبا." هذا هو كل ما أقوله. يبتسم لي مربتًا على يدي.
"يا ابنة مامادو وسيرا.. أنت طيبة."
تعود فانتا إلى النعيب من جديد.
يخاطبها فومبا قائلاً: "يا زوجة الزعيم.. يا قارصة الآذان."
لا أتمالك نفسي، فأنفجر ضاحكة. لم أعرف طعم الضحك منذ وقت طويل. يبتسم فومبا، بل وحتى فانتا نفسها تضحك مستظرفة دعابته.
تقول: "هل تبقى معك شيء من زبدة الشيا؟"
يضع فومبا على قدميه بعضًا منها، أما فانتا، فتعده ألا تشد أذنه ثانية.
ذات يوم وأنا سائرة في أثر رجل مغلول من عنقه، فإذا به ينعطف إلى اليسار فجأة، وبلا سابق إنذار. لم تترك لي المفاجأة فرصة للتصرف. تغوص قدمي في شيء لين رطب. وإذا بشيء كالغصن يطقطق تحت قدمي. تند عني صرخة مدوية. لقد دست على جثة رجل عارية ومتعفنة. أقفز مبتعدة، وأنتزع بعض الأوراق من أقرب غصن لي. محمومة، أزيح كومة من الديدان البيضاء التي تتراقص فوق كاحلي. ألهث، بينما تنتابني رعشة هائلة. يأخذ فومبا الأوراق ليمسح قدمي، ثم يمسكني قائلاً لي ألا أخاف. غير أن نوبة الهستيريا التي داهمتني تزداد حدة. وحتى عندما تصرخ فانتا محاولة أن تهدئ من روعي، لا أستطيع أن أكف عن الصراخ.
تصيح فانتا قائلة: "اسكتي حالاً." تجذبني إليها، وتهز كتفي بإحدى يديها، بينما تثبت الأخرى فوق فمي بإحكام. تدير وجهي ناحيتها، حتى تلتقي عيوننا.
تقول: "انظري لي.. انظري.. هنا.. في عينيَّ.. إنه لم يعد رجلاً."
تبدأ رئتيَّ تستقران، فأتنفس بسهولة أكبر. تنزل فانتا يدها عن فمي. أتوقف عن الصراخ.
تقول: "مجرد جلد وعظم.. تخيليها عنزة.. مجرد جثة." يحيطني فومبا بذراعه حتى تسكن رعشتي تمامًا.
من الآن فصاعدًا، لا تعود الأفاعي والعقارب هي كل ما يجب أن نحذر منه في هذا الطريق الذي يتزايد سالكوه يومًا بعد يوم. نغوص بأقدامنا كل يوم في جثة واحدة على الأقل. عندما يسقط واحد من الأسرى، يفكونه من القافلة، ملقين بجثته لتتعفن في العراء.
نسير قمرًا بأكمله، ثم قمرًا آخر. إلى جانب مجيء القمر وذهابه، لديَّ الآن جسمي مقياسًا للوقت. ما بين الحيضة والتالية لها، أقابل مزيدًا من القرى، مزيدًا من الأسرى الذين بيعوا إلى قافلتنا، ومزيدًا من الحراس لكي يحكموا القيود حول كواحلنا بالليل.
حين يسألني الناس عن موطني، أشعر أن ما يشغل بالهم جميعًا هو الوحوش الضارية. كل منهم يريد أن يعرف إن كنتُ اضطررتُ إلى الجري هربًا من الأسود، أو الأفيال في نزوحها الجماعي. غير أن ما يقلقني أكثر، هم هؤلاء اللصوص. أي شخص، رجلاً كان أو امرأة، يتسبب في تعطيل القافلة، يضربونه بوحشية. وكل من يحاول الهرب، يقتلونه على الفور. آخر ما أفكر فيه، الحيوانات المتوحشة. ولكن بينما نعسكر ذات يوم تحت مجموعة من الأشجار، فإذا بواحد من قرود البابون يخرج من الغابة، في حين تهتز كتل اللحم في كتفيه وأردافه اهتزازًا مدويًا وهو مندفع كالنحلة نحونا. ننهض صارخين بأعلى أصواتنا. اللصوص أيضًا يصرخون. ينقض البابون هاجمًا على البنت الصغيرة التي تسير مع أبيها منذ قمرين فيخطفها، وينطلق بها عائدًا إلى الغابة. رغم اختفاء البنت عن عيوننا، فما زلت أسمع صرخاتها عالية مدوية. يقفز الرجل واقفًا على قدميه طلبًا للغوث. يقطع تشيكورا الحبل الذي يكبل قدم الرجل منطلقًا معه في أثر البابون.
يختفيان في الغابة مدة طويلة. طويلة بما يكفي لكي نأكل طعامنا مترقبين معرفة أخبار الفتاة. يترامى إلينا عويل الرجل قبل أن يلوح هابطًا من التل بصحبة تشيكورا. يحمل الرجل ابنته بين ذراعيه جثة هامدة، بينما يغمر الضوء رقبتها المشقوقة، عاكسًا حمرتها القانية. لا يكبله اللصوص ثانية. يتركونه يحفر حفرة غير عميقة ليواري جثتها. يهيل عليها التراب، ثم يجثو على ركبتيه منخرطًا في بكاء مرير. هذه أول مرة أرى فيها رجلاً يبكي على هذا النحو. يجعلني الحزن أحس بمعدتي تتلوى في جوفي. ليس من الصواب أن أرى رجلاً كبيرًا وهو ينتحب. ضاعت البنت في لمح البصر، وأمام عينيه؛ شيء لا يصدقه عقل. لا أحتمل مجرد التفكير في عذابه، غير أني، في الوقت نفسه، لا أستطيع أن أطرد عن خيالي شبح مصيبته. بالرغم من أنهم يفكون قيودي لأسير مع القافلة على حريتي طوال النهار، فإنهم يكبلونني بالليل. أحاول أن أصرف تفكيري إلى ما هو حولي من الأشياء: النخيل، الصخور، قرية تلوح في الأفق أسوارها الطينية العالية، أرنب يتواثب في ضوء القمر. بقية الأسرى ينصرفون هم أيضًا عن الأب الحزين.
يروح الآخرون في النوم، ولكنني لا أستطيع أن أكف عن التفكير في الرجل وابنته. لم أعد أسمع نحيبه، فأبحث عنه في الظلام، ولكنني أجد المنطقة المجاورة للقبر خالية. بعد فترة، أراه وهو يدنو من شجرة تبعد حوالي عشرين خطوة خلفنا. يتسلق شيئًا فشيئًا، زاحفًا من غصن إلى آخر. الشجرة أطول من عشرين رجلاً فوق بعضهم البعض، ولكن الرجل يظل يصعد.
أتمنى أن يهبط ثانية. أصلي لو يعود إلى صوابه. ربما ماتت زوجته هي الأخرى، ولكنه قد يسترد حريته ثانية. ربما يجد زوجة أخرى ذات يوم، وينجب ابنة أخرى. أقف وأحملق ويراودني الأمل. يلاحظني أحد اللصوص، فيصرخ في الأب أن ينزل. ومع هذا، يواصل الرجل صعوده. يسمع المخطوفون الصياح، فيستيقظون ويشاهدون ما يحدث، ويتحركون بعيدًا عن الشجرة وهم مقيدون من كواحلهم مثنى مثنى. عند القمة، يتسلق الأب غصنًا ناتئًا حتى يصل إلى طرفه. يطلق صرخته الأخيرة ملقيًا نفسه في الهواء، ليسقط في سرعة مذهلة. لم أر في حياتي أحدًا يسقط من مثل هذا الارتفاع. أدير وجهي بعيدًا قبيل ارتطامه بالأرض، غير أنني أسمع خبطة مروعة، وأحس بالأرض ترتج تحت قدميَّ. يرفض اللصوص أن يحضروه إلى جوار ابنته، أو يدفنوه، بل ويرفضون حتى أن يلمسوا جثته. يستنكرون فعلته هذه. نسير حسب أوامرهم فترة طويلة من الليل، ثم نعسكر تحت أجمة أخرى بعيدة تمامًا عن جثتي الأب وابنته.
تستمر رحلتنا البرية ثلاثة أقمار. ذات يوم، يتوقف اللصوص عند مفترق للطرق، محيين رجلاً من نوع جديد. بشرة مبقعة، كالخنزير المبتل. شفتان ذابلتان، أسنان سوداء. ولكنه عريض، وطويل، ويقف منفوخ الصدر مثل زعيم. إذن هذا رجل أبيض! زملائي من الأسرى تتسع عيونهم دهشة لرؤية هذا المخلوق الغريب، ولكن القرويين على طول الطريق، لا يبدو عليهم أي رد فعل على الإطلاق. أُدرك أنهم، لا بد، قد رأوا الرجال البيض من قبل. ينضم إلى اللصوص في مقدمة القافلة. طويل وشاحب وملتحٍ ورقيق الشفتين، ويضع حلقة حول عينيه. يقول بضع كلمات بلغة اللصوص.
أُلوِّح لتشيكورا، ولما يأتى بجانبي، أسأل: "من أين الرجل الأبيض؟"
يقول تشيكورا: "من الجانب الآخر للنهر العظيم."
"هل هو رجل أم روح شريرة؟"
يقول تشيكورا: "رجل.. لكن ليس رجلاً تسركِ معرفته."
"تعرفه؟"
"كلا.. ولكن يجب ألا تعرفي أي رجل أبيض."
"قال أبي ألا أخشى أحدًا.. وإنما أعرفه."
"خافي من الرجل الأبيض."
"كيف يتنفس بأنف نحيل هكذا؟ هل يسمح هذان المنخران بدخول الهواء؟"
"لا تحدقي في الرجل الأبيض."
"له شعر كثير."
"التحديق في الرجل الأبيض مباشرة معناه التحدي."
"تشيكورا! هناك شعر حتى في منخريه."
"انتبهي في سيرك يا أميناتا."
"هل أنت أخي أم خاطفي؟"
يهز تشيكورا رأسه، ولا يزيد شيئًا. أعرف أن الرجال البيض لهم بشرة بيضاء، ولكن الأمر ليس كذلك. هذا الرجل لونه ليس كأسنان الفيل مطلقًا. بشرته بلون الرمال. ساعداه أغمق من رقبته. لم أر في حياتي معصمين لهما مثل هذه العظام العريضة. مؤخرته ليست كبيرة، غير أنه يمشي كالفيل. طم.. طم.. طم. وقع قدميه الثقيلتين على الأرض كوقع الأشجار الضخمة حين تهوي من علٍ. لا يسير حافيًا مثل المخطوفين، ولا يرتدي صندلاً من جلد الغزال كما يفعل الخاطفون، وإنما يرتدي حذاء ثقيلاً يرتفع إلى ما فوق كاحليه.
يرتدي سلسلة حول رقبته، ويعلق في حزامه الجلدي الملتف حول وسطه، جسمًا مغطًى بالزجاج ينظر فيه بين حين وآخر. يصيح في الرجلين اللذين يقوداننا وهو يلوِّح بيديه في غضب. تحت إشرافه، يقوم اللصان على الفور بإعادة الأغلال إلى أعناق النساء، وأنا من بينهن. يضعون فانتا أمامي مباشرة في الطابور. رقبتها مغلولة إلى أحد طرفي نير خشبي، بينما رقبتي مقيدة إلى طرفه الآخر. يربطون الأنيار بسرعة في أعناقنا، ومهما حاولت، فلن أحرر نفسي، ولن أجني شيئًا غير التسلخات في رقبتي.
بينما يراقبنا الرجل الأبيض، يقتاد اللصوص ثلاثة من الأسرى الجدد إلى القافلة. امرأة جديدة تنضم إلينا. هي الأخرى حامل. يجعلونها في الوسط، بيني وبين فانتا. هذا التغيير ليس سيئًا. فانتا دائمًا تغمغم شاكية، فتجعل الوقت يمر ثقيلاً، والمرأة الجديدة أقصر منها، أقرب إلى طولي، فصار أسهل عليَّ أن أمشي ورقبتي مربوطة إلى رقبتها. في تلك الليلة، عندما أخلد للراحة تحت شجرة، تستلقي على جنبها، فيصير بمقدوري أن أسمعها وهي تتنفس بصعوبة.
أستلقي بجانبها.
أهمس: "مساء الخير." تلك أولى كلماتي لها بالبامانية.
تجيب بالبامانية قائلة: "مساء الخير."
أسألها إن كانت ستضع مولودها قريبًا. تقول لي قريبًا جدًّا.
تقول: "هذا توقيت سيئ.. كنت أتمنى لو ينتظر الجنين."
أقول: "الجنين لا يعرف مشاكلنا.. هل تظنين أنه ولد؟"
"بنت.. ولا تريد أن تنتظر."
"كيف عرفتِ أنها بنت؟"
"لا يأتي في هذا الوقت العصيب سوى بنت مشاكسة.. الولد لم يكن ليتحداني.. كان سيعلم أنني سأضربه."
هذه المرأة مسلية. أحبها. "وإن كانت بنتًا.. لن تضربيها؟"
"البنت أكثر حكمة.. تعرف كيف تتجنب الضرب."
أسألها: "إذن.. فلماذا تتحداك الآن؟"
"أنت ذكية جدًّا.. ما اسمك؟"
أخبرها.
تقول: "أنا سانو ‘sanu’"
أقول متثائبة: "نومًا هادئًا يا سانو."
"نعم يا آنسة.. نومًا هادئًا."
في الصباح، يعيدوننا إلى النير ثانية. يضعونني مرة أخرى خلف سانو. تتوجع في سيرها. ومن مشيتها، ومن جذعها المائل للوراء تخفيفًا للضغط عن أسفل ظهرها، ومن كفيها وهما تستقران فوق ردفيها وهي تسير، أستطيع أن أؤكد أن ساعة وضعها قد أوشكت. بمرور الوقت، فيما بعد الظهيرة، تبدأ تُعيق سير القافلة.
أقول مخاطبة تشيكورا: "ستضع مولودها توًّا."
"كيف نتصرف؟"
"ساعدتُ في كثير من حالات الولادة.. أنا وأمي أخرجنا العديد من المواليد إلى النور.. هذه مهنتنا.. عملنا.. طريقتنا في العيش."
تتكلم سانو. "البنية على حق.. أنا جاهزة."
يقول تشيكورا: "هناك قرية أمامنا.. سأجعلهم يتوقفون هنا."
يتقدم تشيكورا إلى مقدمة القافلة ليتحدث إلى رؤسائه. نستلقي في ظل مجموعة صغيرة من الأشجار. يعود تشيكورا بصحبة لص أكبر سنًّا، ومعهما الرجل الأبيض، ويفك قيودنا.
أتحدث إلى تشيكورا وحده قائلة: "أنا والمرأة سنرقد بهدوء تحت هذه الشجرة الكبيرة.. دعونا وحدنا.. ولكن أحضر لي امرأة لتساعدني.. سأحتاج سكينًا حادة نظيفة.. وماء.. اذهب للقرية وأحضر ثلاث قرعات مملوءة بالماء.. إحداها يجب أن تكون ساخنة.. وبعض القماش."
الرجل الأبيض ممسك بعصا اللهب إلى جانبه. يحدق في وجهي. يتحدث إلى الرجل الأكبر سنًّا، الذي يتحدث بلغة أخرى إلى الرجل الأصغر، الذي يحدثني بدوره قائلاً: "إنه يسأل إن كنت تعرفين كيف تتصرفين."
أقول: "نعم.. أحضروا لي الأشياء التي أحتاجها."
تدير فانتا ظهرها، وتمضي مبتعدة. يرسلون لمساعدتي فتاة أخرى، لا تكبرني إلا ببضعة أمطار. على الأقل، تفعل ما أطلبه منها. عندما يجيء الماء الساخن، أجعلها تصب منه على السكين حتى أنظفها تمامًا. أجعل المرأة ترقد مسترخية فوق حشية من الفراء وجلود الحيوانات، وتحت رأسها وسادة من ورق الشجر.
يقف اللصوص يشاهدون. أفكر في أمي وما كانت ستفعله في هذه الظروف. أفتح قبضتي عن آخرها، ملوِّحة بها في وجوههم. ترتفع حواجبهم، ويروح الرجل الأبيض يحدق في وجهي ثانية. يغمغم بشيء ما إلى أحدهم، فينقله بدوره إلى آخر، ليسألني بالبامانية إن كنت واثقة أنني أعرف ما أفعله. أومئ لهم مرة أخرى بأن يذهبوا، فيبتعدون هذه المرة.
أدلك كتفي سانو وظهرها بزبدة الشيا. أقول لها: "ستكونين أمًّا ممتازة." تبتسم في لطف قائلة إن أمي كانت ستفخر بي.
تحكي لي سانو عن زوجها، وطفليها الآخرين. تصف كيف وقعت أسيرة، بينما كانت تحمل الطعام إلى النسوة اللاتي كن يعملن في حقول المنيهوت، حيث كن يقتلعن الجذور من الأرض. ومع اكتمال نمو الجنين في أحشائها، تقرر ألا تقاوم.
أحثها على التنفس بانتظام، حتى عندما تداهمها آلام المخاض. يغلبها النعاس لحظة.
ولما تستيقظ، تخاطبني قائلة: "أنا مستعدة الآن يا بنيتي.. لو عشنا سأسميها أميناتا.. على اسمك."
يتلألأ البدر ثانية، وأُحِس بالهواء ثقيلاً. الرطوبة. تهب ريح شديدة مدومة كطفل غاضب، غير أن سانو تبقى صامتة وساكنة تمامًا.
يخرج الطفل برأسه أولاً، تمامًا كما يجب أن يخرج، ثم ينزلق باقي جسده إلى العالم. أربط الحبل السري عند نهايته المتصلة بالبطن، ثم أقطعه. يبدأ الوليد في الصراخ عاليًا. لها أعضاء أنثوية كبيرة متضخمة؛ حتى هذا أستطيع ملاحظته في ضوء القمر. ألف الرضيع وأدفئه مُقرِّبة فمه من ثدي أمه، ثم أخرج الخلاص. هذه أسرع ولادة رأيتها في حياتي.
تقول سانو: "أميناتا.. بنيتي."
لا أعرف إن كان من الحكمة اختيار اسم للطفلة بهذه السرعة، أو تسميتها على اسمي. تسمية طفل على اسم شخص في مثل هذا الخطر، قد تجلب سوء الحظ. ولكن سانو مصممة على الفكرة. أتأثر لرقتها وهي تدير الطفلة، وتقربها من ثديها.
بدأت أميناتا الصغيرة ترضع بشراهة جعلتني أشعر وكأنها معتادة على ذلك منذ شهور. تنهمر الدموع من عيني سانو، فتنطلق من عقالها جميع أحزاني. أتلوى وأرتعد، وأظل أبكي حتى تجف مآقيَّ. أعرف أنه من سوء الطالع أن يبكي أحد في حضرة مولود جديد.
في الصباح، يقيدوننا ثانية. تعلق سانو المولودة فوق ظهرها، مستخدمة القماش الذي أحضره تشيكورا. دم الولادة ينساب على ساقيها ونحن نعلو ونهبط في الممرات الجبلية، عابرين الوديان والغابات الحافلة بتجار الكولا.
قتلاً للوقت، أسلي نفسي بمشاهدة المولودة وأنا سائرة خلفها مباشرة. حين تلتوي رقبتها بأكثر مما يجب، أنبه أمها لتحكم ربطها. أميناتا لها بضع خصلات صغيرة من الشعر المجعد عند أسفل رأسها. أقضي ساعات طويلة أتخيل كيف سينمو شعر هذه البنت الصغيرة ذات يوم، لتهتم بتصفيفه، وجعله في ضفائر بديعة. منذ يومين وأنا أحدق في هذه الطفلة الصغيرة المعلقة على ظهر أمها، مستغرقة تمامًا في أحلام يقظتي.
في اليوم الثالث بعد ميلاد أميناتا، تبطئ القافلة من سيرها عند قمة التل. ما زال الصباح في أوله، غير أن حرارة الشمس تبلغ أوجها. أستعيد عينيَّ ثانية من وجه أميناتا، وأبدأ أرى العالم من جديد.
ما أراه يبدو غير قابل للتصديق.
هناك إلى يميني، حيث ينتهي بنا الممر الجبلي، يتدفق النهر العريض مندفعًا وصاخبًا. هو أعرض من عشرة أضعاف مرمى حجر. عند شاطئ هذا النهر الغاضب، هناك العديد من الزوارق، وفي كل منها ثمانية من المجدفين. لم أر في حياتي كلها مثل هذا العدد الضخم من الزوارق والمجدفين. عن شمالي، يمتد الماء بلا نهاية. يشهق ويهدر، يعلو ويهبط. به مساحات خضراء، وأخرى زرقاء، وهو في رحلته الأبدية، لا يفتأ يتغير لونه ويتبدل. يرغي ويزبد عند المصب مثل حصان لاهث. عن شمالي، يحتل الماء العالم.
يقتادنا الخاطفون إلى الشاطئ. الرجل الأبيض يصرخ معطيًا توجيهاته، بينما يرخي اللصوص قيودنا، دافعين بنا إلى الزوارق. وإذا بهم يسوقون تشيكورا إلى قاربي. المجدفون عراة، إلا مما يستر عوراتهم، وتفوح منهم رائحة الملح ممزوجة برائحة العرق والأوساخ. عضلاتهم تتلألأ في ضوء الشمس. تبحر الزوارق منسابة على صفحة الماء، والتفاصيل عند الشاطئ البعيد تتلاشى شيئًا فشيئًا. ما أن نغادر اليابسة، حتى يأخذ أسيرٌ في القارب المجاور يصرخ ويرفس برجليه، ويهز القارب هزًّا عنيفًا. يتوقف رجلان قويان عن التجديف، ويضربانه بمجدافيهما ضربًا عنيفًا. غير أنه ما زال يناضل. يبدأ القارب يتمايل بشدة، يلقيان مجدافيهما، قاذفين بالرجل في المياه الهائجة. يضرب الماء بعشوائية، يعلو ويهبط، ليغوص في النهاية مستقرًّا على القاع السحيق.
تبحر القوارب طوال الصباح. أشعة الشمس المنعكسة على صفحة الماء، تلهب عينيَّ. يتسع النهر اتساعًا هائلاً، فلا أرى من الأرض غير أنها جبلية عن شمالي، ومنبسطة عن يميني. تشيكورا جالس في القارب، غير مقيد، ولكنه بيننا.
يهمس لي قائلاً: "أنت من المحظوظين.. سفينة ضخمة في انتظاركم.. ممتلئة تقريبًا.. سيتم بيعكم جميعًا.. وسوف تبحرون في وقت قصير جدًّا."
أتساءل: "محظوظة؟"
"أناس غيركم كانوا سيموتون ببطء وهم ينتظرون شهورًا على ظهر السفينة حتى تمتلئ.. أما أنتم.. فليس عليكم أن تنتظروا."
تهب مع الريح رائحة كريهة. تشبه رائحة طعام فاسد. كأنها فضلات قرية بأكملها. تتقلص عضلات وجهي.
يقول تشيكورا بصوت مرتعش: "رائحة السفينة.. سنفترق حالاً."
"امش الهوينى بين أسراك يا تشيكورا.. واثقة أنني سأجد سكينًا.. وسأكون في انتظارك حتى نفعل شيئًا غير مناسب."
"وأنت يا أميناتا.. احترسي.. فجمالك يتألق بين الغرباء."
النسيم الكريه الرائحة يزكم أنوفنا ثانية. أقول: "كيف لأي شيء أن يتألق.. أو حتى مجرد أن يحيا.. وسط هذه الرائحة البشعة؟"
شفتاه ترتعشان. الفتى الذي ظل مبتسمًا ثلاثة أقمار متواصلة، هو الآن عابس. لم يكن لي أخ ذات يوم، ولكني أشعر الآن أنه أخي.
أهمس: "إلى أين سيأخذوننا الآن؟"
"عبر البحر."
"لن أذهب."
"إما الذهاب.. أو الموت."
"إذن.. سأعود."
"أخذت رجالاً كثيرين إلى البحر.. ولكن لم أر واحدًا منهم يعود إلى قريته."
"إذن سأظل أنام بالنهار وأمشي بالليل.. ولكن اسمع يا صديق.. أنا سأعود.. وسآتي إلى قريتي."
تبحر القوارب صوب مرفأ على شاطئ جزيرة، عليها قلعة فوق ربوة عالية. هناك المزيد من الرجال البيض، وآخرون لهم مثل لوني، يُحمِّلون البضائع، ويقودون الناس. تساق قافلتنا إلى أعلى منحدر شديد خلف القلعة. ألاحظ أن تشيكورا ما زال معنا. أمامنا منطقتان مسيجتان تمتدان متجاورتين، كل منهما محاطة بعصي مدببة يبلغ طولها ارتفاع رجلين. يفتح الخاطفون البوابتين، دافعين الرجال إلى إحدى الحظيرتين، بينما يزجون بالنساء والأطفال إلى الأخرى. ألتفتُ للوراء بحثًا عن تشيكورا، غير أنه يختفي. لا أرى فانتا كذلك. ربما أستطيع أن أعثر على سانو وابنتها. إنهما هناك، على بعد عشرين خطوة إلى شمالي. لستُ مقيدة بعد، أستطيع أن أعدو إليهما.
اثنان من البيض يحرسان حظيرتنا، وكل منهما يمسك واحدة من عصي النار، ولكن نفرًا من المواطنين أيضًا يقفون مستعدين بالهراوات والسكاكين وعصي النار. محبوسين في تلك الحظيرة، عرايا ومتقرحين ونازفين، نقف محشورين معًا، فوق الرمال التي تعبق برائحة البول والخراء.
ننتظر، ونروح نشاهد الشمس وهي تميل نحو الغروب. يحضرون لنا دخنًا مسلوقًا، ويفرغونه في حوض مستطيل. بعض النسوة يلتقطن منه قليلاً. لا تطاوعني نفسي على تذوقه، ولكنني أشرب حين يحضرون لنا قرعات المياه.
بعض النسوة يغسلننا بالماء البارد، ويدلكننا بزيت النخيل، لكي نبدو مشرقين، وفي صحة جيدة. هؤلاء النسوة، وهن لسن عاريات مثلنا رغم أنهن من ذوات البشرة السوداء مثلنا، يقتدن امرأة أسيرة ببرود إلى أحد أركان الحظيرة، حيث يقف عدد من الرجال البيض والسود مترقبين ومعهم قطعة معدنية محمية فوق كمية من الجمرات المتوهجة. أشيح بوجهي بعيدًا، غير أنني أسمع المرأة وهي تصرخ كمن يبترون ذراعها.
أقسم ألا أمنحهم بهجة تألمي. ولكنني، حينما يجيء دوري، أمتثل لقسوتهن ورائحتهن البغيضة. يقتدنني إلى ركن الوسم. قطعتهم المعدنية الجارحة معقوفة مثل حشرة هائلة. ما أن يدنونها مني، حتى يندفع الخراء من مؤخرتي. يغرسونها فوق حلمتي اليمنى بقليل. تمتلئ خياشيمي برائحة لحمي المحترق. أشعر بالألم يسري في أعصابي مثل موجة بركانية ملتهبة. يطلقني الذين كانوا يشلون حركتي. لا أعود أفكر إلا في الحرارة والألم. لا أقوىَ على الحركة. أفتح فمي، فلا يخرج صوتي. بعد فترة، أسمع صرخة تفلت من بين شفتيَّ. أذرع تحوطني. صراخ امرأة أخرى. ثم أغيب عن الوعي.
أفيق، فلا أدري كم تحركت الشمس في السماء، أو إن كانت تحركت أصلاً. ثم أروح في النوم ثانية. أظنني حلمت بتشيكورا وهو يلمس يدي. رجال ضخام كانوا يشلون حركته وهو يصرخ محتجًّا. أفيق ثانية، فأحس بثديي ما زال ملتهبًا. الحرارة تدوِّم متراقصة تحت تلك العلامة البغيضة على نهدي. جميع النساء الأخريات تصير لهن العلامة نفسها.
حين تبدأ السماء تمطر، أقف. على الأقل، هطول المطر غزيرًا سوف يغسل أدراني. أحب الماء البارد وهو ينساب على وجهي. جميل أن أرى الوحل ينزاح عن ساقيَّ، ولكنني أكور كفي فوق جرحي لأحميه. يظل المطر يشيع السكينة في نفسي حتى يبدأ الرعد يزمجر، والبرق يلمع في السماء. يتساقط الماء على جسدي، وكأنه ينهمر من مئات الدلاء، بينما الرعد يدوي في الظلام، مرددًا صداه بين الجبال مرات ومرات. ينهمر المطر بغزارة تجعلني أدعو الله ألا يجرفنا جميعًا إلى النهر الكبير تحتنا. في حظيرة النساء، تتدانى حوالي عشرين امرأة مستدفئات ببعضهن البعض في أثناء العاصفة. أمسك فانتا بإحدى يدي، وسانو بالأخرى. تعلو الضوضاء حتى تبتلع بكاء الرضيعة. ما أن تكف السحب عن دويها، حتى نجد أنفسنا غائصات في الوحل حتى كواحلنا. نقضي الليل كله واقفات.
في الصباح، أحس بجرحي لا يزال ملتهبًا. يخيم الضباب على حظيرتنا. بشروق الشمس، تنقشع السحب الكثيفة، ويصير اليوم مشرقًا. النساء المواطنات، واللواتي ترتدي كل منهن ثيابًا وصندلاً في نعليها، يغرفن المزيد من الدخن المسلوق في حوض الطعام. نظل نحدق في الطعام ساكنات ومنهكات. أتخيل أنهن سيتركننا واقفات حتى يتغلب جوعنا على اشمئزازنا.
غير أن البوابة تنفتح فجأة. نؤمر بالخروج مسرعات، ونزول المنحدر عائدات إلى الماء. يقيدوننا، قاذفين بنا إلى القوارب، التي تبحر مباشرة نحو المياه الواسعة. تنكسر موجة بالقرب من قاربي، صافعة وجهي بالمياه. أظن أنني سأحتفي بهذه الجرعة الممتدة من المياه، ولكنني أشعر بالغثيان والاختناق، ثم أتقيأ المياه الحارقة. ملح. كل موجة تلهب الشقوق في قدميَّ، والجرح الذي في صدري.
تفزعني السفينة الكبيرة التي أمامنا، والتي تكبر وتكبر مع كل ضربة مجداف. يتضاءل أمام ضخامتها زورق يقوده اثنا عشر رجلاً، ورائحتها أكثر نتونة من رائحة الحظيرة التي وضعونا فيها على الجزيرة. تفزعني السفينة، ولكن ما يخيفني أكثر هو فكرة الغرق في تلك المياه العميقة المالحة، حيث لا يمكن لروحي أن تعود إلى أجدادي. دعهم يفعلون ما شاءوا بجثتي، ولكن على الأرض. فعلى الأقل، سترحل روحي عندئذ، عائدة إلى وطني وأجدادي، ومنهية غربتي.
يظل النواتي يصارعون الأمواج العاتية. نتقدم حتى نبلغ سفينة الرجال البيض. هي شيء ضخم عجيب، وبه صوارٍ باسقة كالنخيل. فوقنا على سطحها، وجوه تحدق فينا. من المواطنين، ومن البيض، جميعهم يعملون معًا. تضرب الأمواج جوانب السفينة العملاقة، التي تعلو وتهبط، ولكنها تبدو ثابتة، على نحو غريب، في بقعة بعينها من البحر.
يبدأ واحد من الأسرى يصرخ ويكافح، ولكن قدميه ورسغيه مكبلة بالحبال بإحكام، فيضربونه بالهراوات حتى يسقط ساكنًا. يرتعد الرجال والنساء. أما أنا، فأصير أكثر هدوءًا. قال أبي ذات يوم: "لا تخشي أحدًا.. بل اعرفيه."
يرتطم شيء ما بقاربنا. هو قارب صغير آخر، يبحر بجوار قاربنا. بين المكبلين من الرجال والنساء، أرى تشيكورا وقد انتشرت الكدمات في وجهه، الذي لم تعد ملامحه تنم عن أي شيء. رأسه متدلٍّ على صدره. يا له من أحمق. كان عليه أن يفر وهو على البر، بالقرب من بايو، التي يعرف أهلها وغاباتها. كان عليه أن يهرب قبل أن ينقلبوا عليه بوقت طويل. لا أحاول النداء عليه. أطبق أسناني، وأتأمل أهلي المكبلين جميعًا في الزوارق وهم يساقون عبر لوح خشبي طويل يرتكز بطرفه على جدار السفينة العملاقة. ألتفتُ ورائي لألقي نظرة أخيرة على أرض الوطن. الجبال تلوح من بعيد. أحدها يطل برأسه مثل أسد هائل. غير أن قواه جميعًا مشدودة إلى الأرض.