القاهرة 12 ديسمبر 2017 الساعة 03:37 ص
د أحمد محمود المصري
يقول هنري جيمس في فن الرواية:"إن على الرواية أن تنظر إلى نفسها نظرة جادة حتى تحمل الجمهور على إعارتها نظرة مماثلة"
ويقول نيتشة:
"إنني أستعرض جميع ما كتب فلا تميل نفسي إلا لما كتبه الإنسان بقطرات من دمه"
مقولتان مهمتان آثرت أن أستهل بهما قراءتي لرواية حافة الكوثر للكاتب المتميز علي عطا،نظرا لشدة انطباقهما عليها رغم كونها أولى محاولاته الروائية وإن لم تكن أولى محاولاته الإبداعية فقد سبقها ثلاثة دواوين شعرية بالغة التميز حققت لصاحبها شهرة كبيرة في عالم الشعر،وربما يطرح سؤال نفسه هنا وهو ما الذي يجعل شاعرا متحققا يلجأ إلى كتابة نص روائي؟والإجابة من وجهة نظري تكمن في أن هذه التجربة الفنية تحتاج إلى شكل فني مختلف عن الشعر وجد ضالته في الرواية،وشاعرنا الروائي ليس الأول ولن يكون الأخير من بين الشعراء الذين أغوتهم الرواية،ولكنه وبالتأكيد يعد واحدا من أفضلهم براعة وتمكنا من أدواته الفنية ولهذا قدم رؤيته الفنية في أبهى صورة مما يجعلنا نجزم بأن تجربته الأولى لن تكون الأخيرة وأنها ستكون بداية حقيقية لمشروع روائي بالغ التميز.
عتبة العنوان:
تخير كاتبنا عنوانا لافتا جاذبا يحمل شحنات دلالية وإيحائية تضيء المحتوى وتحفز مخيلة القاريء وتثير توقعاته،ويرتقي جماليا ليصبح نصا موازيا للنص المتن بل وينافسه في إحداث الأثر المناسب باعتماده على الاقتصاد في اللفظ والتوسع في الدلالة والقدرة على توظيف الرمز والإيحاء والإشارة مع إيجاز وتكثيف ليعتصر تجربة الكاتب الإبداعية في كلمتين هما "حافة الكوثر"
وقد صاغ الكاتب عنوانه في صورة مركب إضافي،وهو مركب وصفه بعض النحاة بأنه ليس كلاما لأنه لا يحسن السكوت عليه ولا يعطي معنى بمفرده،والحقيقة أن المركب الإضافي يتعلق طرفاه ببعضهما فتتحدد ماهية كل منهما بالآخر،وهو هنا يعطي قيمة بلاغية ودلالية تتمثل في القصر والتخصيص،بالإضافة أن هذا المركب يفتح أفق توقع القاريء لتقدير بعض المحذوفات التي قد تضاف إليه مثل:ماذا يحدث على حافة الكوثر؟أو نحن جميعا على حافة الكوثر،أو وطن على حافة الكوثر...
ولكن ما المقصود بالكوثر؟أهو النهر الذي أعطاه الله عز وجل لرسوله الكريم وورد ذكره في القرآن؟ربما ولكن الكوثرفي روايتنا مصحة نفسية يعالج فيها مرضى الاكتئاب والإدمان.
فما العلاقة بين الكوثرين؟وهل مصحة الكوثر تعد جنة المرضى الذين يعانون ضغوطا شديدة خارجه؟وإذاكان ذلك كذلك فلماذا وصفها الكاتب بالسجن في جزء من أجزاء الرواية ؟وهل تمثل الكوثر حلما للخلاص نسعى إليه جميعا شئنا أم أبينا؟وهل نعيش على حافة الكوثر في منطقة برزخية بين العقل والجنون والموت والحياة والأسر والخلاص؟
أسئلة متعددة تجيب عنها صفحات رواية كتبت بصدق وحرفية منحاها ما استحقته من ذيوع وإشادة.
عتبة الغلاف.
تعد لوحة الغلاف من أهم عتبات الرواية نظراً لكونها دالاً بصرياً موازياً يكتنز بين تضاريسه الإشارية عديداً من الإيحاءات السيمائية والتأويلات المحتملة لقراءات متعددة ومفتوحة فالغلاف يفترض قراءة تستند إلى الحس البصري الذكى وتفرض على المتلقى إحداث نوع من الارتباط بين ما هو كتابي وما هو تشكيلي .
وغلاف روايتنا مميزة للفنان عمرو الكفراوي تعبر عن التطلع إلى الخارج من خلف نافذة مضيئة في حجرة ضيقة مظلمة فهل الشاب الجالس خلف النافذة يراقب ما يحدث خارجها بعجز وسلبية؟أم يتطلع إلى الخلاص من أسره خلفها؟أم أن الحجرة المظلمة تمثل نفسه المكتئبة والنافذة الضوئية تعد أمله في الخلاص من سجن الاكتئاب؟أم أن النافذة والجدار خطان فاصلان بين الكوثر وخارجه؟وهل من يعانون هم من يعيشون في الكوثر أم من يعيشون خارجها؟وهل الكوثر وطن بديل لوطن يصعب العيش فيه؟
وقد صدر الكاتب روايته بتصدير لنيكوس كازانتزاكيس يعد مفتاحا للرواية وعتبة مهمة من عتبات فهمها هو:
"إنها لمعجزة إذن هذه الحياة كيف تمتزج بها أرواحنا عندما نغوص داخلنا ونعود إلى جذورنا ونصبح شيئا واحدا"
وتقع روايتنا في خمس وعشرين فصلا قصيرا اكتفى الكاتب بترقيمها ولم يضع لها عناوينا‘وتدور أحداثهابين المنصورة التي تمثل الماضي المفقود والقاهرة التي تمثل حاضرا مؤلما ،والكوثر التي صارت وطنا بديلا له ولسكانها.
وتعد الرواية بوحا لبطلها الرئيس الذي أصيب بالاكتئاب مما أدخله مصحة نفسية للعلاج ثلاث مرات متقطعة التقى فيها بشخصيات متنوعة نقل همومها وعذاباتها وبوحها على صفحات روايته متخذا من رسائله الإلكترونية مع صديقه الطاهر يعقوب تكأة للبوح ومحرضا على الحكي‘وعبر مستويات متعددة من الحكي تبرز رؤية الكاتب للحياة ومواقفه من الأحداث السياسية والاجتماعية وما شابهما من خلل وقبح‘بالإضافة إلى إبراز معاناة المبدعين من اكتئاب وتهميش وموت على الأرصفة .
ومن خلال البوح يحدثنا الكاتب عن ذكرياته في مدينة المنصورة مقارنا بين ما كانت عليه وما آلت إليه متحسرا على الماضي وواصفا اغترابه مع الحاضر وقد عبر عن هذا الاغتراب بقوله:
"المنصورة صارت مكانا غير الذي كنت أعرفه ازدحمت جدا بأحياء لا تخلو من قبح العشوائية ازدحمت ببشر لا أعرفهم ولا يعرفونني"
ومن ذكرياته في المنصورة إلى سكنه في منطقة عشوائية في القاهرة بين تلال من القمامة ومخلفات المباني ،ومروره بتجربة عاطفية ضاغطة وإحباطات متكررة لجيل بأكمله دفعته إلى دخول الكوثر للعلاج من الاكتئاب الذي أصابه ليدخل عالما بالغ الثراء هو عالم الكوثر .
ومن خلال الرواية يلقي الكاتب الضوء على مرض الاكتئاب مبينا أسبابه وأعراضه ونتائجه مؤكدا أن المريض النفسي ليس مجنونا يجب عزله أو الفرار منه،كما أنه ليس وصمة يخجل منها الإنسان ويسعى إلى إنكارها أو إخفائها.
كيف نصنف هذه الرواية؟
لعل السؤال الذي يراود القاريء بعد الانتهاء من قراءة هذه الرواية هو كيف نصنفها؟هل هي رواية سيرة ذاتية؟أم رواية تخييل ذاتي؟هل هي رواية اعترافات أم رواية بوح؟
يرى بعض النقاد أن هذه الرواية رواية سيرة ذاتية فهل هي كذلك؟هل تعتمد ميثاق الصدقية الذي أشار إليه فيليب لوجون بمعنى المطابقة بين ماهو كتابة أدبية وما هو واقع مرجعي؟
الإجابة بوضوح هي لا يؤكد هذا قول الكاتب على لسان بطل روايته:
"السيرة الذاتية شيء يخالف الحقيقة أو هي ليست الحقيقة أبدا"
وهذا ما عناه الروائي توفيق يوسف عواد في حصاد العمر حين قال :
"إن الكتابة تكاذب قائم بين الكاتب والكلمة،والحقيقة في السيرة الذاتية هي حقيقة الكاتب التي يتجاوز بها الواقع إلى الفن .
إذن نحن لسنا أمام رواية سيرة ذاتية بالمعنى الحرفي للمصطلح.
ويرى بعض النقاد أنها رواية اعترافات فهل هي حقا كذلك؟بمعنى أنها تقوم على تعرية الذات ورواية مثالبها وخطاياها بأسلوب اعترافي صريح من دون مبالاة للمواصفات الاجتماعية والقيم الأخلاقية التي يمكن أن تخل بها وتجرحها بجرأة تتفوق على أي حرج يضع صاحبها في حرج لا يحسد عليه.
هل روايتنا ينطبق عليها هذا الكلام بحذافيره؟ بالطبع لا .
إن مركز قوة هذه الرواية يكمن في قدرتها على التخييل الذاتي والتعايش بين المحكى الذاتي والمحكى التخيلي ،كما تكمن في براعة الكاتب ومهارته في صياغة التصورات والاسترجاعات التذكرية باعتبارها آليات من الانتقاء والاجتزاء تقتضيها فنية توليد الحقيقة التي يريد الكاتب أن يقدمهاإلينا.
إن الكتابة عن الذات ليست سهلة كما يظن بعضهم بل هي مغامرة غير حذرة على حد تعبير سيمون دي بوفوار.
نحن إذن أمام رواية تخييل ذاتي _رغم اشتمالها على كثير من الأحداث والشخصيات الحقيقية التي عايشها الكاتب _تستحضر ذات المؤلف من أجل خلق مسافة عن هذه الذات لتأملها من خلال وضعيتها التخيلية، وفيها تتحول ذات المؤلف إلى مادة متخيلة تحمل معها تاريخها الواقعى- بشكل ضمنى- غير أن وضعيتها فى النص تجعل منها ذاتاً أخرى بعيدة بعض الشئ عن المؤلف، إنها صوت المواجهة المحتمل لصوت المؤلف الواقعى.
وعلى هذا الأساس تكون الذات فى التخييل الذاتى موضوعاً للمواجهة وليس مرجعاً للتوثيق أو الحكى، التخييل الذاتى ليس سيرة ذاتية؛ لأن المؤلف لا ينشغل بمفهوم الحقيقة ولا يطلب من القارئ تصديقها. وإنما يسعى التخييل الذاتى إلى التركيز على البعد التخييلى لوقائع خاصة بالمؤلف وابتكار مسافة عبر تحويل الواقعى إلى مادة متخيلة لإنتاج معرفة حولها.
كما أننا أمام رواية بوح كما وصفها الطاهر يعقوب أحد أبطال الرواية تجد خلاصها عبر الكتابة على حد تعبير ايزابيل الليندي ‘وخاصة أن ذات الكاتب قد طحنت في تحرير نصوص الآخرين وإعدادها للنشر.
الشخصيات:
تكمن أبرز ملامح تميز رواية حافة الكوثر لعلي عطا فى هذه القدرة الفائقة لصاحبها على غرس الرغبة فى نفس القارئ ليقوم بتركيب الشخصيات وتشكيلها، بحيث يخلق فى ذهنه باستمرار ملامح الشخصيات وحركاتها وطبيعتها الجسدية والنفسية، مما يحولها إلى شخصيات نابضة بالحياة، تتحرك أمامه، ويشاهدهم بعينه، ويشتهى أن يتكلم معهم وأن يكلموه كل ذلك وهو يتابع سيرورة الشخصيات وأحداثها وتحولاتها عبر صفحات الرواية.
تزدحم الرواية بشخصيات كثيرة محورها شخصية رئيسة هي حسين جاد الصحفي والشاعر المريض نفسيا نظرا لتعرضه لضغوط اجتماعية وعاطفية مضطربة ،ومن خلال رسائل اليكترونية بينه وبين صديقه الطاهر يعقوب تتوارد الذكريات وينطلق البوح في شكل تداعي حر غير مرتب حسب وروده على ذهنه في محاولة لاسترجاع الأحداث وحث الذاكرة على الصمود ومقاومة التلاشي ،فتسعفه ذاكرته أحيانا وتخونه أحيانا أخرى فينسى بعض الأسماء،أو يخلط بينها،أو يستعين بمن ينشط له ذاكرته كاستعانته بشقيقه لتذكر بعض المواقف لصديق خاله الأستاذ عبد العزيز سعيد في خلط قد يكون مقصودا
وقد شهدت الرواية حضورا مكثفا لعدد كبير من المبدعين والمثقفين أمثال :صلاح جاهين ،سعاد حسني،أمل دنقل،حلمي سالم،صنع الله إبراهيم‘سلمى التكروري،غسان زقطان،إبراهيم أصلان،محمود درويش،أنسي الحاج،بابلو نيرودا،إيزابيل الليندي،كازانتزاكيس وغيرهم كثير،يضاف إلى هؤلاء عدد كبير من الشخصيات الذين التقى بهم الكاتب خارج الكوثر أو داخله ،وقد تعددت شخصيات الرواية وتنوعت كماً وكيفاً لكنها رغم هذا التعدد لم تتفلت خيوطها من أصابع كاتب ماهر استطاع بحرفية عالية أن يجعل منها شخصيات من لحم ودم وليس مجرد شخصيات ورقية راقدة بين السطور.
ومن أمثلة شخصيات الرواية خارج الكوثر : الجد توفيق ريحان،والجدتان ست الدار،وانتصار محمد الجمال،والخال محمد توفيق ريحان،والابنتين:حنان وحنين،والأخ ماهر،والأحفاد علياء وعلاء الدين ومنال،والزوجة دعاء مستجاب والزوجة الثانية سلمى السكري،والشاب الذي لقي مصرعه في الورشة،وغيرها من الشخصيات،أما شخصيات الكوثر فهي شخصيات متعددة استطاع المؤلف أن يعطينا صورة صادقة لواقعهم المأساوي عن طريق ذكر الأسباب التي أصابتهم بالاكتئاب وأتت بهم إلى الكوثر ومن أبرز هذه الشخصيات:
الشاعر حامد عبد الدايم الذي يعاني من عدم تقدير منجزه الشعري،ومحمود عبد الحميد القاص البائس،وطارق حجازي الذي فصل أجزاء المصحف ليتمكن من مراجعة محفوظه من القرآن فاتهم بتمزيق المصحف،وحسن توما الذي يدعي قرابته بحسين صدقي،وطارق مراد عميد هندسة المطرية،ورئيس المحكمة فؤاد سالم الذي يريد أن يحكم بشرع الله ‘ومجدي وقصة حبه غير المشروعة مع عمته،وبيشوي الذي يمزق ملابسه ويخطف أكواب الشاي من النزلاء،وغيرها من الشخصيات الكثيرة التي تسكن الكوثر.
وأبرز ما يلاحظ على شخصيات الكوثر أنها تمثل كل أطياف المجتمع بشكل يجعلنا نراها صورة مصغرة لوطن يعاني سكانه من ضربات موجعة متتالية،وعلى حافة الكوثر يقف المتربصون الطامعون في أرض الكوثر لا يتورعون عن فعل أي شيء لهدمها وتحويلها إلى أبراج سكنية.
حضور مميز للمرأة
هذه الرواية شهدت حضوراً مميزاً للمرأة لا على مستوى المساحة السردية ولكن على مستوى عمق التأثير وتوجيه الأحداث وقد ظهر هذا بوضوح فى ثلاث شخصيات نسائية بالغة التأثير فى أحداث الرواية هى الأم التي حملت على عاتقها مهمة تعليمه بعد تخاذل الأب عن القيام بهذا الدور، والزوجة دعاء مستجاب التي لا تهتم بما يكتب ولا تقرأ إلا في المصحف والأذكار، والزوجة الثانية سلمى السكري التي مارست عليه ضغوطا كبيرة ليتزوجها أولا ثم ليعلن هذا الزواج ثانيا وكانت سببا رئيسا من أسباب دخوله الكوثر.
نقد المجتمع ومحاكمته.
قدم لنا الكاتب من خلال بوحه الذاتي وغير الذاتي موقفه من المجتمع وما يحدث فيه من أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية ،معبرا عن ندمه الشديد على المشاركة في الانتخابات الرئاسية،وارتيابه في حركة تمرد والحرية التي كانت تتمتع بها،ورفضه لتفاوض المجلس العسكري مع الإخوان ،واعتراضه على حكم الإخوان،بالإضافة إلى إشارته أكثر من مرة إلى تفشي الفساد وظهور تجار الأراضي وتوحش المقاولين الذين يسعون إلى هدم كل شيء وبناء أبراج سكنية قبيحة وعشوائية تحقق لهم أرباحا طائلة،مع معاناة البسطاء من أزمات اقتصادية طاحنة،لكن ما يستحق التوقف أمامه هناهو إدانة الكاتب للواقع الأدبي ومعاناة الأدباء الشديدة مع الفقر والمرض والاكتئاب،فهذه شاعرة تنام على الأرصفة،وهذا مبدع يموت من البرد في شوارع لاتبالي بأحد،وهذه كاتبة تعاني مرضا نفسيا فصلها عن الإبداع وعن العالم بأسره،يضاف إلى هذا ما يشهده الوسط الأدبي من مجاملات فجة وخاصة فيما يتعلق بروايات الأكثر مبيعا،وعدم تقدير المواهب الحقيقية،ومنح الجوائز للمعارف والأصدقاء مما أصاب كثيرا من المبدعين الحقيقيين بالإحباط والاكتئاب.
ولعل هذا المصير المؤلم لكثير من المبدعين كان سببا في إصابة الكاتب بالاكتئاب ووقوعه فريسة لليأس بعد يقينه من استحالة الخلاص بالكتابة وقد عبر عن هذا بقوله:
"أنا مخطيء من يظن أن في الكتابة خلاصا؟فالأمثلة كثيرة على من كتبوا ثم انتحروا في النهاية أو ماتوا منسيين في مصحات أو حتى على أرصفة الشوارع.
لكن الطاهر يعقوب يعود من جديد لينتشله من الإحباط قائلا له:
"لكن هناك أيضا من نجوا بالكتابة وعددهم يفوق بالتأكيد أعداد من لاقوا ذلك المصير المؤسف"
وبالرواية كم كبير من المعلوماتية والمعرفية حول الاكتئاب وأسبابه وطرق علاجه وأنواع العقاقير المستخدمة في علاجه وأعراضها الجانبية ،كما تحفل بجانب تاريخي نراه بوضوح في التأريخ السياسي لثورة الجياع أو ثورة الحرامية على حد تعبير أنور السادات،ثم حادثة اغتيال السادات‘وتنحي مبارك ثم انتخابات الرئاسة وحكم الإخوان ثم عزل مرسي،ثم انتخابات الرئاسة الثانية،وغيرها من الأحداث السياسية والتاريخية.
كما تحفل بتأريخ لبعض الشوارع والأحياء مثل شارع الخلواتي،وحي المعادي‘ومسجد حسين صدقي،ولكن يعيب الكاتب المبالغة في هذا الجانب بشكل قد يبدو زائدا عن الحد مثلما نرى في ذكره لحقوق المريض النفسي كما حددتها وزارة الصحة وإن كان هدفه من ذكرها عقد مقارنة ومفارقة بين ماينبغي أن يكون وماهو كائن بالفعل.
زمن السرد
إذا كان التمثل الطبيعى لأى مسار زمنى فى أى عمل سردى يكون على النحو التالى: الماضى، الحاضر، المستقبل، فإن مقتضيات السرد فى هذه الرواية تطلبت وقوع تبادل واضح بين المواقع الزمنية، وهذا التداخل بين الأزمنة فى السرد يعد تذبذباً زمنياً يمنح النص جمالاً آخاذاً ويحرر زمن النص من أى قيود، لذا لجأ المؤلف إلى تقنية القطع والتناوب بين الأحداث وهذا القطع يمكن أن يحدث إرباكاً فى ذهن المتلقى إذا لم يكن المؤلف واعياً بتقنيات القطع والوصل، ذلك أن المؤلف عندما يلجأ إلى أسلوب القطع فإنه يخلق حالة من التوتر لمتلق فى حالة استرخاء يتابع سلسلة من الأحداث تجرى أمامه، لكنه يعاود دفعه إلى حالة الاسترخاء ليتابع سلسلة جديدة من أحداث يقطعها مرة أخرى محدثاً حالة جديدة من التوتر ليكمل حكايته الأولى التى تجعله مسترخياً وهكذا.
والمتلقى فى ظل نظام التناوب يظل مشدوداً ما بين حالتى الاسترخاء والتوتر لا يخرج منهما إلا بانتهاء الرواية، وعندما ينتقل المؤلف بين زمنين مختلفين وشبكتين مختلفتين من العلاقات الداخلية التى تربط أبطال كل حكاية فإنه يحاول إيجاد رابطة منطقية أو نفسية أو تاريخية أو سببية أو غيرها ليبرر هذا التوازى والتداخل بين الحالتين، وقد نجح الكاتب إلى حد بعيد فى استخدام هذه التقنية فى روايتهليتسق مع حالة البوح التي عبر عنها في روايته كما وردت على ذهنه.
بطولة المكان:
ولأن الشخصيات لا تتحرك فى الفراغ وإنما تحتاج إلى بيئة مناسبة لحركتها فإن روايتنا تحتفى بالمكان احتفاءً خاصاً جعله يلعب دور البطولة فى هذه الرواية، فالكوثر فى روايتنا تمثل العمود الفقرى الذى يربط كل عناصر الرواية، فهى ليست مجرد خلفية للأحداث بل هى عنصر من أهم عناصر الرواية إن لم يكن أهمها جميعاً، وهى معادل حسى ومعنوى للمجال الشعورى والذهنى للشخصيات، وهى بأقسامها المختلفة وما تحتويه من مساحات وشخصيات تسهم فى دفع الأحداث وتشكيلها وتصاعدها فهى ليست مجرد بيئة حاضنة للشخصيات بل تسهم فى دفع الأحداث وتشكيلها وتصاعدها وخاصة من الجانب النفسي حيث يغلف الشخصيات إحساس بالحزن المختلط بالحسرة والشعور الحاد بالفقد والاكتئاب.
لغة الرواية:
للغة أهمية كبرى فى البناء الروائى فهى المشكل الأول لكل عمل سردى، إذا غاب سحرها عن الرواية غاب عنها الفن والأدب معاً ولغة علي عطا لغة عذبة سلسة حزينة في أغلب الأحيان تتميز بالتكثيف والشاعرية وليس هذا بغريب على شاعر يجيد انتقاء ألفاظه ورسم مشاهده وصوره، كما تمتاز لغته بالشاعرية فإنها تمتاز بالثراء والتنوع بين الفصيح والعامي ، بين الأدبي والمعرفي، بين التخييلي والعلمي، ورغم إعجابي بلغة الكاتب إلا إنها لم تسلم في بعض الأحيان من الأخطاء البسيطة التي ماكان ينبغي لها أن تقع فيها.
التفاعلات النصية:
يرى فوكو أنه لا وجود لتعبير لا يفترض تعبيرًا آخر ، ولا وجود لما يتولد من ذاته بل من تواجد أحداث متسلسلة ومتباينة ومن توزيع للوظائف والأدوار إن التناص يتم على مستوى الشكل وعلى مستوى المضمون وهذا من خلال المحاكاة والتمثل والتوليف.
وقد اتخذت التفاعلات النصية عند علي عطا أشكالا مختلفة منها:
أ-التفاعل النصي مع آي القرآن الكريم
ومن أمثلته قراءة الضابط هشام في المصحف لقوله تعالى:
"وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف بعدكم ما يشاء"
وهوتناص له دلالته الواضحة على أن السلطة لا تدوم وأن الأمر كله بيد الله.
وكذلك التناص مع قوله تعالى:
"قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله والله يعلم ما في السماوات والأرض والله على كل شيء قدير"
بعد ذكره لجماعة تمرد وحركتهم المكشوفة.
ب-التفاعل النصي مع الشعر
ومن أجمل أمثلته هذا النص العذب لبابلو نيرودا المعبر عن التجربة السردية لبطل الرواية:
لهذا عليَّ أن أعود
إلى أماكن كثيرة آنية
لألتقي بي
وأتفحصني دون توقف
دون شاهد سوى القمر
ثم لأصفر بسعادة
واطئا أحجارا وأتربة
دون مهمة أخرى سوى الحياة
دون أسرة سوى الطريق.
ج_التناص السردي
ويتمثل في كثير من المقاطع الأدبية ذات الدلالة العميقة لكزانتزاكيس وإيزابيل الليندي وإبراهيم أصلان،أذكر منها قول إيزابيل الليندي التي تعد روايتنا في كثير من أجزائها تناصا مع روايتها باولا:
"صمت قبل الولادة وصمت بعد الموت والحياة هي مجرد صخب بين صمتين لا قرار لهما."
د_التفاعلات النصية السمعية:
ونراها في استدعاء بعض الأغاني المعروفة وربطها بأحداث الرواية،مثل أغنية بانو بانو لسعاد حسني وربطها بالحديث عن الاكتئاب باعتبارها من أشهر الفنانات المكتئبات،وأغنية سالمة يا سالامة بصوت محمد منير ،ثم أغنية منير التي اعتبرت أيقونة لثورة الخامس والعشرين من يناير،ونهايتها عميقة المغزى:
"ازاي أنا رافع راسك وانت بتحني في راسي ازاي"
براعة الختام:
للخاتمة أهميتها الضرورية بما تحمله من عناصر إثارة تخييلية للمتلقي هذا فضلا عن النهايات المفتوحة التي تفتح أفقا متجددا للاحتمالات والتدعيم المتكرر لمضمون الحكاية.
وخاتمة روايتنا خاتمة مفتوحة تطرح سؤالا تكرر أكثر من مرة على لسان أحد أبطال الرواية يسأله لكل من يقابله هو "ياعم هو التدخين ينقض الوضوء؟"
سؤال بلا إجابة يأتي بعد شكوى بائع الجرجير البسيط من ضيق الحال،وتكذيب بائع الطماطم غير المحدد هل هو لبائع الجرجير أم لمن يحكي عن إنجازات الثورة في التلفاز؟
وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إننا لن ينصلح حالنا مادمنا ننشغل بالقشور وسفاسف الأمور ونترك جوهر المشكلة بلا حل.
وأخيرا فإننا أمام عمل إبداعي راق جدير بالقراءة لكاتب مبدع له تجربته الخاصة ورؤيته المتفردة
التي تصلح لأن تكون نواة لمشروع روائي بالغ التميز.