القاهرة 12 ديسمبر 2017 الساعة 11:26 ص
كتب: د/محمدالسيداسماعيل
ظل هناك طموح لدى العديد من الشعراء ومنذالعصرالعباسى ان يجعلوا من الأسلوب البسيط اليومى المتداول شعرا ويروى ان بشاربن برد كتب فى خادمة له تسمى "ربابة " : " ربابة ربة البيت / تحط الخل فى الزيت – لها سبع دجاجات / وديك حسن الصوت" وعندما عوتب فى ذلك قال ان هذه الأبيات اكثر جمالا عند ربابة من " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل " ومن الشائع ان البلاغة هى مطابقة الكلام لمقتضى الحال والمقصود بالحال هنا حال المستمع او القارىءوكان الجاحظ يقول " كلام الناس فى طبقات كما ان الناس فى طبقات " .
وفى العصر الحديث كان يحيى حقى اشهر من دعا الى انشودة البساطة التى لاتعنى الاستسهال اوالخفة فى تأمل الانسان والاشياء والمشاعر فالبساطة ايضا مركبة و لها مستوياتها لكنها تخدعك بوضوحها هذه مقدمة لازمة للحديث عن ديوان "عزيزى الكونت دراكولا" للشاعر المبدع عادل سميح واذا مااستحضرنا الصورة الذهنية التى يستدعيها دراكولا مصاص الدماء فسوف نكون ازاء مفارقة واضحة حين يخاطب الشاعر هذه الشخصية بعزيزى الكونت لكن هذه المفارقة تنحل اذا ماتم التعامل معها.
على سبيل السخرية وهى حيلة شعرية قديمة منذ قال احدهم وكأنه يمدح " لاترج خيرا ولاتخرج لمكرمة / واقعد فأنت الطاعم الكاسى " وهو فى حقيقته هجاء مستبطن لم يخف عن حسان بن ثابت فيما يعرف بالهجاء الذى يشبه المدح .
واستدعاء دراكولا يستدعى ثنائية الشر والخير وهو مانجده فى بداية الديوان وبعد الإهداء مباشرة "لأننا طيبون /لن يسمحوا لنا بالمغادرة /ولن يمنحونا فرصة ان نفر /ناسين اننا ايضا يمكننا ان نصبح اشرارا مثلهم، ( " عزيزى الكونت دراكولا " عادل سميح ص 7ميريت 2015) فعلى الرغم من الهيمنة البادية للشر فى هذه السطور فاننا نستشعر هوان اقترافه امر متاح لهؤلاءالطيبين الذين لايودون سوى الفرار بذواتهم النقية المسالمة التى تأبى الشر.
لم يعد الشرهو تلك القوة القاهرة القدرية التى لايستطيع احد مواجهتها او – على اضعف التقديرات – الفرار منها او الابتعاد عنها من هذه الزاوية نرى الشاعر يتلمس –بذكاء - الجانب الخفى من شخصية دراكولا فهو شخصية تعيسة او "محض العذاب وخلاصة الأ
لم "(ص23) حين بلغ الصراع ذروته وبدا الأمر هكذا "حياتك او حياتهم " وبهذه الصورة يتكشف وجه دراكولا الانسانى خاصة حين يتذكر الحضن الدافىء فى صدر حبيبته هربا من بردالشتاء والسير متخاصرين تحت اشعة الشمس وبافتقاد كل هذا تصبح وحدته فى قصره البعيد نوعا من القتل البطىء الذى يجعل من طلب القتل الحقيقى ضرورة املا فى الخلاص " وطلبا للسكينة..ربما طمعا فى الخلود"(ص29) .
وامتدادا لهذا نلاحظ شيوع تيمة الموت وتشيؤ الانسان حتى يغدو جسده منفصلا عنه كأنما حياة صاحبه لاتعنيه بينما كرسى المكتب يتطلع اليه ظنا منه انه يستريح قليلا .هناك تشيؤ للانسان وانسنة للاشياء وهى وضعية تجعل الشخصية مهمشة مستشعرة – دائما - باغترابها ولهذا تشيع تيمة الموت وانشطار الذات والتناقض بين صورة الطبيعة وصورة الذات فحضور الانثى البهية المشرقة المتعالية من المفترض ان يستدعى الحياة والحيوية والجمال لكنه فى قصيدة "قسوة" يستدعى الموت يقول :" ايتها البهية / حلوة طلعتك / بهى اشراقك / بعيدة فى الأعالى ودونك الموت /الموت ذاته "(ص41).
هذه الانثى المتأبية المتعالية تثير الألم لأنها صعبة المنال حيث يحول الموت بينها وبين الشاعر وهى صورة تتجاوب مع ميراث شعرى طويل تتردد فيه تيمة المرأة الممنوعة التى يصعب او يستحيل وصالها .كما نجد أثرا للصوفية فى قوله "كلما تقربت اليك باعد بيننا خطوك وكلما اشرقت كان بيننا حجاب "وفى قصائد أخرى نجد تجاوبا بين الرؤية الشبقية والروحية فالشاعر لايقدمهما بوصفهما نقيضين بل متكاملين حين يقول " خفبفة انت كالهواء / رشيقة كمهرة فكت عقالها / تعدو بشكل متعرج على صفحة الروح / وكنت كطفل لايعرف الفرق / بين الفراولة والجمر /قبضت على شفتيك فهاج البحر "(ص36).
والحقيقة ان هناك تعددا فى صورة المرأة بشكل واضح على نحو ما رأينا فى المرأة التى تعيش فى الأعالى والمرأة التى تعدو على صفحة الروح وتثير البحر بوصفه معادلا موضوعيا لذات الشاعر والمرأة القاسية التى تقترب من السادية كما يبدو فى قصيدة "سكين" "...دعك من كل هذا ولنفترق على غير موعد / مكتفيا بسكينك المغروزة فى قلبى " (ص17).
وتقوم هذه السطور على مايسمى ببلاغة الحذف حيث تبدأ بمجموعة من النقاط الدالة على وجود كلام سابق والسطر الأول نفسه يبدو تعليقا على كلام سابق محذوف للعلم به هذه النهايات الدامية المؤلمة تجعله فى حالة من عدم اليقين والشك فى كل شىء ولو كان احدى الظواهر الطبيعية :" ربما / أقول ربما / تمر الشمس من هنا / فأصطلى قليلا / ويستدفىء قلبى " (ص57).
وتفضى حالة عدم اليقين هذه الى مايشبه الكابوسية من خلال تفعيل الخيال حين يقول –مثلا- " انا زجاج هشمته الريح / فلماذا اذن كلما احدق فى الفراغ أرى الغريب الذى جاء بالأمس يجردنى من اسمى / ذاكرة تتهدم /كونا يتساقط / فى بساطة ان تشعل عود ثقاب / مدنا تهجر الخرائط / وتجلس على ركبتى " (ص38).
وفى مقابل ذلك يبدوالتوحد مع الطبيعة وتأكيد قيمة العطاء احدى امنيات الذات بوصفها خلاصا من صراعات العالم وانهياراته المتتابعة " لماذا لم اكن ارجوحة طفل / يسعد بها ساعة من نهار /لماذا لم تخلقنى شهابا فى السماء / يمر دون ان يثير انتباه احد /لماذا لم اكن قطرة ماء تشربها عصفورة عطشى "(ص21) .
هذه نظرة سريعة فى ديوان عادل سميح ويبقى ان اشير عليه بضرورة التخلص من المعجم الرومانسى الذى يظهر فى بعض القصائد وانا واثق من قدرته على ذلك لامتلاكه موهبة حقيقية لاتخطئها العين