القاهرة 05 ديسمبر 2017 الساعة 10:14 ص
العربات تنفك من بعضها وتغادر القضبان لتتفرق فى صحراء واسعة .
الركاب يلقون الأطفال من النوافذ فيصعد البعض منهم باتجاه السماء و يطير البعض الآخر محاذاة القطار بنفس سرعته .
فكر أن يستعين بمساعده ثم عدل عن فكره ، عندما لم يجده بجواره فى كابينة السائق
لم توقظه كعادتها منذ عشر سنوات هى عمر زواجهما قبل الوردية بساعة وربع بالضبط، لم تدلك له ظهره وساقيه ، قام غاضباً وكأن شيئا لم يحدث بالأمس وكأنها لم تضع رأسها برأسه لأول مرة.
شم رائحة الثوم تملأ الغرفة ،اعتاد كل يوم أن تطحن له فصين من الثوم يبتلعهما على الريق ، فالثوم كما علمها من ليلة زواجهما يطهر المعدة ويشد الأعصاب .
تجول فى الشقة يبحث عن مكان الثوم فاكتشف أنه لايعرف الكثير عن محتويات الشقة، دخل المطبخ وجد الأنية كلها نظيفة وفارغة، فتح الثلاجة لم يجد مايؤكل فأغلقها بعنف وهويسب تلك المرأة التى أواها وجعلها ست البيت بعد أن طلقت مرتين لأنها كالأرض البور، ماكان ينتظرأبداً أن تتمرد عليه !
يعرف أن يومه لن يكون مريحا فهو لايأكل أو يشرب خارج البيت ، فى سفرياته الطويلة تزوده بما يكفيه ،رحلته اليوم تبدأ من محطة مصر ونهايتها أسوان.
بينما تعقد له رباط الحذاء همست
- مش هايبقى زى أبوه
وصله همسها فسألها مندهشا
- بتقولى إيه؟
رفعت رأسها فخرج صوتهاً واضحاً حاداً
- حازم مش هايبقى سواق قطر
- وأنت مالك!!
دفعت قدمه بقوة وانتصبت واقفة
- ابنى
- مش ابنك وأنت عارفة
جلست قبالته على الكرسى وعيناها ثابتتان فى عينيه
- عارفه إنى عاقر اتجوزتنى خدامة لك وله ، بس حازم ماعرفش أم غيرى وقلبى ماحبش غيره ومش هتضيعه- كفاية
- أنت اتجننتى! من حقى أحدد مصير ابنى
لأول مرة يلاحظ أن عينيها واسعتان ورقبتها طويلة
- مش من حقك ، هو اللى يحدد مستقبله ، مش عاوز يبقى سواق قطر، كفاية دخلته الصنايع غصب عنه ، هايكمل تعليمه
- هايعمل له إيه التعليم ، هايبقى عواطلى زي اللى على القهاوى، القطر هايعرفه الدنيا ويقويه عليها
اكتشف أنه لم يسمع صوتها من قبل ، نبراته غريبة عليه ،أحبالها الصوتية تنتفخ وكأن امرأة أخرى عاشت معه طوال تلك السنين
- حازم هايكمل
- هايستلم شغله فى المصلحة ،ماصدقت القرار صدر بعد وساطة ومحايلة
- مش هايعمل حاجة غصب عنه ، كفاية أمه ماتت مقهورة من جبروتك
ماخطر على باله لحظة أن يأتى يوم تغضب فيه تلك المرأة التى صدق من رشحه لها أن نفسها هادئ،طيبة غلبانة، مكسورة لقلة الخلفة وعايزه تعيش.
عندما كان عفيا فحلا فى سنوات زواجه الأولى لم تتمنع عليه أبدا ،مطيعة تترك له جسدها ، عكس أم حازم ، كانت تعنفه وتسبه وتتركه عاريا وتغادر البيت مرات كثيرة حتى لايجبرها على تقليد الأوضاع الشاذة فى الأفلام التى أدمنها ، كانت سعادته تزداد كلما تألمت زوجته الجديدة رغم استسلامها
سألته يوما متعجبة من زواجه منها قبل عام على موت أم حازم قال لها ببساطة شديدة
- و هاتجوز قبل اربعينك لو ربنا افتكرك
عندما أوقف السكر اندفاع الدم فى شرايينه أصبح يعنفها مع الفشل المتكرر، هى الباردة دائما، لاتعرف طرق إثارته ، لاترقص، لاتغنج مثل الجوارى ، تصمت وهى تعلم علم اليقين مثلما يعلم تماما أن لاسبب لعجزه سوى السكر.
يصاب بالرعب ، لو علمت مصلحة السكة الحديد بالسكر فى دمه ، ستمنعه بلاشك من قيادة القطار ،هل يمكن أن تبلغهم ؟ مارأه فى عينيها بالأمس يخيفه أن تتهور وتفعلها
قبل وصوله لمحطة مصر أحس بألم شديد فى ساقيه ونشفان فى الريق، رائحة الثوم لاتفارقه طوال الطريق ،فكر أن يعتذر عن وردية اليوم ، سيتصل برئيس الوردية يطلب أجازة، رأى الشماتة فى عينى رئيس الوردية والسعادة على وجه مساعده،كل من حوله فى المصلحة يضربون به المثل فى الالتزام ويتندرون على عدم تعلله يوما بمرض أو ظرف لأى سبب ليتخلف عن الوردية ، كان يزهو عليهم بقدرته على مواصلة العمل وردية أخرى .
لايحب مساعده رغم أن المساعد الشاب لايمل من نفاقه والإشادة بقدراته الخارقة والاستفادة الضخمة والشرف الكبير الذى يحظى به من ملازمته فى العمل ،يحلم باليوم الذى يلازمه حازم فى نفس القطار مساعداً بدلاً منه.
صدر القرار بتعيينه أخيراً إكراماً له لكن المرأة المجنونة طلع لها صوت وأصبح لها كرامة وتعصّي ابنه عليه.
لايعرف كيف اتسعت كابينة السائق لتسع كل هؤلاء الركاب ، القطار تقريبا بأكمله تسلل إليها ، يهتفون فى صوت واحد
- هايكمل –هايكمل
رن فى أذنيه الهتاف القديم ،بنفس الإيقاع الذى كان يردده المصريون فى ميدان التحرير وأمام شاشات التليفزيون ، كان يحب مبارك ويلعن كل من فى الميدان ، منع حازم الذى كان صبيا أن يخرج من باب البيت رغم بكاء الولد
هل سينتصر حازم وأمه و يفرضان عليه إرادتهما؟
رائحة الثوم تسد أنفه وتمنع الهواءعنه رغم سرعة القطار فيكاد يختنق ،الهتاف يعلو والأعداد تتزايد ، يلمح زوجته تهتف معهم و تحرض حازم على الهتاف ، يرى المساعد ورئيس الوردية وكثيرين من العاملين بالمصلحة يعرفهم جيدا ، أطفال من الذين يطيرون بمحاذاة القطاردخلوا الكابينة ،أحاطوا برقبته وكادوا يسقطونه أرضاً.
غيامة سوداء ثقيلة تنزل أمام عينيه تحجب عنه الطريق ، أصبح القطار يسيرمسرعا دون تدخل منه فأدرك أن مكروها سيحدث بين لحظة وأخرى.