القاهرة 28 نوفمبر 2017 الساعة 10:08 ص
يخطط القدر لنا خطانا –كما صرتُ أعتقد- في كثير منها، ولا ندري بأي أرض يمكن للمرء أن يقضي أيامه القادمة، منذ ساعات قليلة كنت في قرية ربما لا يدر عنها أهل قرية أخرى في نفس نطاقها، والآن في أقصى الأرض بعدًا عنها إن جاز لي التعبير، هُنا في ولاية "ماتو جروسو دو سول" في واحدة من المزارع الكثيرة المنتشرة بطول البرازيل، قاطعًا آلاف الكليو مترات، لأصحو هذا الصباح على غير العادة في البكور، إذ كانت تقترب الساعة من السادسة صباحًا، وأنا الوحيد –كعادتي المصرية- الذي ما زال نائمًا عن الجنة التي أشرقت عليها الشمس في الخامسة هذا الصباح.
القهوة الصباحية:
استقبلني صديقاي بالابتسام وتحية الصباح، وكررا "أهلاً بك في الفازيندا"، والفازيندا في لغة أهل البرازيل هي المزرعة الكبيرة وليست الحقل أو الحديقة. تحركنا نحو بناء ملحق كان فيما مضى يُستخدمه "العُمال" في البيت، وهو مجهز بمائدة للطعام ومطبخ كبير، وحجرات صغيرة لمبيت العمال. ألقت "إلكساندرا" مدبرة البيت التحية حين كانت تضع إبريق القهوة البرازيلي بطعمها المميز ورائحتها النافذة التي ملأت أنفي كله، وبدأ الصديقان يحكيان لي عن تاريخ المزرعة القديم، والذي يمتد منذ الاحتلال البرتغالي الذي سيطر على كثير من الأراضي البرازيلية، وأفلح في تغيير لغة السكان الأصليين من "التو بي" و "الجواراني"، ومع الاحتلال عرفت أرض البرازيل حقبة سوداء من تاريخها إذ كثرت تجارة الرقيق "العبيد الأفارقة" الذين لهم تاريخ طويل هُنا في البرازيل من النضال لأجل الحصول على حريتهم، وما زال هؤلاء الأفارقة يُشكلون نسبة كبيرة من سكان البرازيل، وإن كانوا يتمركزون في مناطق بعينها لعل من أشهرها ولاية "باهيا" –وتنطق بإهمال الهاء- وخاصة في مدينة سلفادور، وأخبراني بأنني متى توجهت إلى "باهيا" سأكون عُدت إلى أفريقيا من جديد، "في باهيا أنت في بيتك الإفريقي الكبير".
Chove… chove:
بدأنا في تناول الفطور، والذي يتكون في غالبه عند البرازيل من الخبر –قريب الشبه من الفينو الفرنسي- والزبدة، والجبن، والبيض المقلي وبعض الحبوب ومسحوق "المانجوكا" وهي من ثمرة محلية بالبرازيل، والكثير من القهوة، وبشكل عام يمكن أن يختلف الإفطار اختلافات طفيفة لكن الخبز والزبدة والقهوة هما أساس الإفطار، فهناك من يُدخل أنواعًا من المربات المحلية أو سلطات الفواكه والمعجنات.
كانت غيوم كثيرة تتكاثف فوق المزرعة، فسألت عن الفصل المناخي، وعرفت أننا نستعد للدخول إلى فصل الصيف الماطر في بعض أيامه، وأن الربيع بدأ بالفعل وهو ماطر في كثير من الأوقات، ويبدو أن الصديقين كانا في انتظار المطر لأجل عُشب المزرعة، فقال الدكتور: "ادع يا شيخ مختار المطر يجي"، ابتسمت وقلت: "المدد يا أهل المدد"؛ ضحك صديقي وقال: "بركاتك يا شيخ المرشدي"، إذ يعرف أن مسقط رأسي هو مقام العارف بالله "محمد بن عبد الله المرشدي" أحد أقطاب الصوفية والذي زاره ابن بطوطة وكتب عن زيارته، ثم استطرد يشرح فكرة "المدد" لزوجته، ويبدو أن بعضًا من رومانسية الفكرة راقت لها، فطلبت أن أعلمها بالعربية النداء: "مدد يا مرشدي"، وخلال الحديث بدأت نتفٌ من المطر ما لبث أن زادت حتى صارت هطلاً، وأنا كالطفل أصرخ: "يا أبو سرّ باتع"، وصديقي يكاد أن يستلقي على ظهره من الضحك، ومعنا زوجته التي قالت ببراءة: "يبدو أن شيخك ما زال يعمل جيدًا يا مختار". هنا يُعد نزول المطر فاتحة للخير إذ تعتمد المراعي في هذه الجبال والتلال على ماء المطر لأجل العشب الذي ترعاه الماشية والخرفان والخيول في المزرعة، بل يجعل من كل هذا الامتداد الشاسع سريعًا مرجة خضراء تسُرُ الناظرين، وهو ما كان بعد يومين حين اعشوشب المكان كله بلون أخضر، حتى أنني فيما بعد حين كنتُ أقوم بالتمشية اليومية وبعض التمارين كنتُ كلما أنظر إلى البيت أراه بدرًا أبيض في وسط سماء خضراء.
بوكو آبوكو:
مرت ساعات الصباح ونحن منشغلون بترتيب البيت وكما تقول القاعدة الذهبية التي ألزمت بها نفسي منذ وصلت إلى هُنا: "بوكو آ بوكو"، والمعادلة في عاميتنا المصرية "واحدة واحدة"، بدأ البيت تتضح لي معالمه ، وحجراته الواسعة ، وهو ما آذن للصور على جدرانه أن تحكي لي عن تاريخ العائلة التي سكنت هنا منذ عشرات السنين، قبل أن يتحول الأحفاد إلى المدن الكبيرة كري ودي جانيرو وساو باولو وغيرهما، ويتركوا المزرعة للعمال الذين صاروا بحسب قانون العمل والمزارع الجدد يعملون ساعات محددة بتعاقدات تراقبها الحكومة. هُنا لا بُدَّ من الإشارة أن صديقي أخبراني بأن كثير من مُلاك المزارع لم يرق لهم صيغة القانون الجديد، وأنه حين صدر أثار جدلاً واسعًا في البرازيل كلها، وغيّر في كثير من طبيعة العلاقة بين أصحاب المزارع والعاملين فيها إلى الحدِّ الذي اضطر بعض المُلاك إلى بيع مزارعهم أو هيأ للعمال أن يصبحوا شركاء في بعض الأحيان في ملكية المزرعة وماشيتها.
طبق الغداء:
يُشتهر في البرازيل أن يبدأ تقديم وجبة الغداء من الساعة الحادية عشرة ظهرًا، وهو بالنسبة لشخص مثلي جاء من ثقافتنا المصرية بدا عجيبًا جدًا، إذ تعودتُ على الغداء فيما بعد الثالثة إن لم يكن الخامسة بعد العصر، لكن بالنظر إلى موعد تناول الفطور في السابعة واليقظة في السادسة ربما يمكن قبول الأمر على بعض الشكّ، والطريف في ذلك أنَّ مدبرة المنزل التي جاءتنا قرب تمام الثانية عشرة كانت تعتذر بشدة عن تأخر موعد الطعام، وهو ما جعلني أظن أن البرازيليين يقدسون مواعيد طعامهم ومنضبطين في مواقيتها مهما كانت الأسباب، وهو أمرٌ اكتشفت حقيقته فيما بعد، حيث يُلزم قانون العمل بساعة إجبارية لتناول طعام الغداء لا تتجاوز الواحدة ظهرًا، حتى أننا حين عُدنا بعد أيام المزرعة، لاحظت أن المطاعم تبدأ بالفعل في تقديم وجبات الغداء قبل الثانية عشرة، وهو ما ذكرني بالمطاعم المصرية التي لا تفتح بالعادة قبل الثانية عشرة.
يتكون الغداء في البرازيل بوجه عام من ثلاثة أشياء هي العمود الفقري لمائدة الغداء في غالب البرازيل، إذ يُعتبر الأرز والفاصوليا السوداء ومسحوق "المانجوكا" هو أساس الطعام هنا، ثم تبدأ تنويعات من أطعمة مختلفة وسلطات ولحوم يتم تقديمها بعدة أشكال حسب الحاجة وغالبها من لحوم الأبقار بشكل أكثر عن لحوم الخنزير، حتى أنني بدأت أفهم كيف اتخذت شركة "حلال" للحوم من البرازيل –في ولاية باهيا- واحدًا من أكبر مجازها في العالم كله، وكذلك يُقدم للغذاء الأسماك المختلفة التي تجيء من سواحل البرازيل الممتدة مع الأطلنطي أو من أنهار عدة في البرازيل، وهُناك الخضروات التي يتم طهيها لكن بطرق مختلفة ربما قليلاً عن الطرق العربية.
ويغيب في ثقافة الطعام البرازيلي فكرة "التوابل" بشكل عام باستثناء منطقة "ولاية باهيا" التي تستخدم التوابل الحريفة، وحين حاولت السرَّ وراء غياب طعم البهارات الجافة التي تعودنا عليها في الناحية الشرقية من العالم، كان الجواب دائمًا يأتيني: "ما الحاجة إلى التوابل ما دامت كل الأطعمة طازجة وخضراء"، وهو ما علل لي استخدامهم للكسبرة والجرجير والخس الأخضر والنعناع أكثر من استخدامهم للكمون والشطة، وإن كان الفلفل الأسود يحضر بوضوح في الطعام البرازيلي مثلما يحضر البصل والثوم في كثير من الطبخات البرازيلية.
ركن الموسيقى:
كُنا نتناول القهوة في حديقة البيت والتي يقع في واحد من جوانبها جزء من غابة صغيرة تقع في حدود مساحة المزرعة، وهو ما جعل الكثير من البغبغاوات البرازيلية الخضراء وعصفور "السابيا" وغيرهما من طيور مختلفة الأنواع تسكن في تلك الأشجار، لتحولها إلى قاعة موسيقية لا تتوقف فيها عن عزف أصواتها وأغانيها البديعة، فيشعر الجالس أن ثمة سيمفونية طبيعية تُعزف بلا توقف في الليل أو النهار، لا يوقفها الحرّ أو المطر الذي استمر في الهطول على المزرعة على فترات ليست متباعدة كانت تسمح الغيوم خلالها للشمس أن تنشر نورها وحرارتها، فيظلّ الجو معتدلاً بين الحرارة وبرودة المطر، ومنعشًا للروح يغسل عنها الثقل والقلق، ينشر عليها ثوبًا من سلام وطمأنينة غير اعتياديين وهدوء لا مثيل له، فأنت في مأمن من ضوضاء المدن وصخبها، ولا يمكن للضجيج الذي كان يملأ روحي إلا أن يستسلم للجنة ويصغي السمع لصوتها الذي لا يتوقف عن الغناء، كأنه يقول: "استمتع يا ميخا بالطبيعة، واغسل كل درن روحك للأبد".
راحت الشمس تودع المزرعة بهدوء وتؤدة سمحا لي أن أتأمل جمالها وأتذكر الأيام الخوالي في الإسكندرية حين كانت كل يوم تودعها لتغرق في بحرها الأزرق، وها هي الآن تغرق في هذا البحر الأخضر إيذانًا بأول ليلة لي في المزرعة، لاكتشف سحرًا مُضافًا إلى سحر الطبيعة هُنا في النهار، وهو ما سأبدأ به الحلقة القادمة، فسلام على كل روح تركت زمامها لتغرق في الجمال والطبيعة والسحر.