القاهرة 31 اكتوبر 2017 الساعة 09:36 ص
بقلم: طلعت رضوان
طرح الأديب علاء الديب فى رواية (عيون البنفسج) الصادرة عن روايات الهلال سبتمبر99 مأساة المصرى الذى وُلد فى دولة عربية خليجية، ثم عاد إلى وطنه الأصلى مصر واستقربه بعد أنْ بلغ التاسعة من عمره . فهل السنوات التسع التى قضاها فى الخليج أثرت على تكوينه الفطرى بمصريته؟ وإذا كان هذا الإنسان (تامرفكار) كتب اعترافاته وعمره 24 سنة، فهل السنوات التى قضاها فى وطنه الأصلى مصر(15 سنة) أعادتْ إليه فطرته المصرية؟ وإذا كان قد وعى الفرق بين المجتمع العربى الذى نشأ فيه طفلا، والمجتمع المصرى الذى عاش فيه شابًا، فهل تخلّص من الانشطار بيْن وطنيْن وبالتالى بين ولاءيْن؟ بل إنّ الأكثرفداحة عندما يسأل نفسه فى لحظة مكاشفة عن حقيقة الهوية الوطنية فيقول ((أنا لم أعد أعرف ماذا يعنى أنْ أكون مصريًا؟)) ثم يسأل صديقــًـا له ((هل تستطيع أنْ تــُـقـدّم لى تعريفــًـا للوطن؟)) ولكن بعد أنْ طالت إقامته فى مصر، وبعد أنْ أطال النظرداخل ذاته قال ((كانت مواجهتى الحقيقية الأولى لفكرة أنْ أبحث لى عن وطن. مسقط رأسى فى الخليج. ولكن هنا (مصر) الوطن))
بدأتْ مأساة تامرفكارمنذ الأيام الأولى لعودته إلى مصر، إذْ عندما ذهب إلى المدرسة سخرمنه الأطفال المصريون بسبب لهجته الخليجية وطريقة نطقه
للكلمات، فنشأتْ عن ذلك عدوانية بينه وبين زملائه الأطفال. وكانت هذه تجربته الأولى فى الاغتراب.
ولأنّ الانتماء للوطن ليس انتماءً جغرافياً أوحتى تاريخيًا فقط ، وإنما تشكله عدة عوامل من بينها الإحساس بالعدالة وبحقوق المواطنة، لذلك كانت صدمة تامرفكارعندما دخل الجامعة، إذْ أنّ ((الجامعة التى أسمع عنها أوأقرأ عنها فى الكتب مكان غيرموجود الآن. الآن هى عربة أتوبيس مزدحمة)) ولأنّ أباه منفصل عن أمه. وأمه فضـّـلتْ الزواج من مليونيرثروته مشبوهة. وشقيقته انساقتْ وراء أمها فتزوّجت من مليونيرمن معارف زوج الأم. وهذا الزوج عامل لمياء معاملة العبيد، إزاء هذه التراكمات يعترف تامرفى لحظة مكاشفة مع الذات ((وسط هذا الزحام تأكــّـد لى أننى بلا جذور، مُـعلق فى الهواء. ليس لى طبقة ولاطموح. دخلتُ مع الأخوة الإسلاميين وخرجتُ من نفس الباب الدوارالطارد الذى ينتهى حيث يبدأ. لى دينى الخاص وفهمى الذى لايهتم به أحد)) وعندما تتعمق أزمته الروحية يقول ((العدوان على حرية الآخريزعجنى ويدمرنى))
فى ظل هذه الأزمة الروحية التى تعرّض لها تامرفكار، كان من الطبيعى أنْ تفشل قصة الحب العميقة والجميلة التى جمعتْ بينه وبين الفتاة البولندية (كارين) وكان يرى فى عينيها شعاعًا بنفسجيًا لذلك اخترع لها اسم (عيون البنفسج)
وفى الأوراق التى عثرعليها الراوى فى حقيبة تامرنجد بعض النماذج من كتابات هذا الشاب الذى مزقته غربة الانتماء الوطنى ثم غربة الانتماء الوجودى، حيث كتب ((نبحتْ مئات من كلاب ميكانيكية/ داخل عربات فاخرة ثابتة/ ليس بداخلها أحد/ رعب الشحاذين الجوعى/ فى قلب قرية سياحية فاخرة))
000
تُعتبررواية (عيون البنفسج) الجزء الثانى من مشروع علاء الديب عن العمل بدول الخليج، وعن هموم (المثقف) بشكل عام. كانت رواية (أطفال بلا دموع) هى الجزء الأول من هذا المشروع، إذْ أنّ تامرفى (عيون البنفسج) هو ابن منيرفكارفى (أطفال بلا دموع) وبالتالى نكون إزاء متوالية بدأها الأب الذى عمل فى دولة عربية لأكثرمن عشرسنوات. جمع ثروة هائلة من التدريس وبيع الكلام على شكل (مقالات) تكتب نفسها أوكلام ساكت كما يقول السودانيون.
تعبير(الوطن الثانى) تردّد أكثرمن 15 مرة على لسان منيرفكاربلذة مرضية. لقد دخل كهفــًـا حقيقيًا وجمع ذهبًا حقيقيًا، ولكن أى ثمن دفع؟ الثمن عبّرعنه فى لحظة مكاشفة مع النفس، فوصف (وطنه الثانى) قائلا ((منفاى الاختيارى الجميل. المليىء بالنقود. بينما الشوق لكفرشوق وحدها. قريتى المستحيلة. ورغم ذلك قرّر((الإعارة للأبد)) أى أنه يدخل الكهف مختارًا.
000
إهتم الأديب علاء الديب بمعالجة موقف (المثقف) من قضايا وطنه وشعبه. فنجد فى (عيون البنفسج) تعليقات بعض المثقفين عن الذين سافروا للعمل بدول الخليج ((وكان الرأى السائد أنهم خونة)) وهنا تبدوأزمة (المثقف) الذى يُبادربإطلاق الأحكام المطلقة. وفى رواية (وقفة قبل المنحدر) نجد المثقف المأزوم الذى هاجرمصرإلى أكثرمن بلد، وعندما ذهب للعمل فى دولة خليجية ووصل إلى الميناء الخليجى قال ((كنتُ وكأننى خرجتُ إلى حافة العالم. أوإلى أول الجحيم)) ولاحقته الكوابيس بعد أن تحوّلت عيون الآخرإلى جحيم. ورغم أنه ذهب ليعمل فى الصحافة فكان يشعربأنه ((كواحد من عمال التراحيل))
(وقفة قبل المنحدر) عنوان دال على أزمة المثقف المشطور، ليس بسبب الهوية الوطنية فقط بين الانتماء لوطنه الأصلى والوطن المُـفترض، وإنما هومشطوركذلك داخل وطنه الأصلى، فلا هوقادرعلى أداء دوره (كمثقف) ولاهوقادرعلى الاستمرارفى وطن يستبعد فيه النظام الحاكم كل الشرفاء من المشاركة الإيجابية. فبعد الفصل من المجلة التى يعمل بها قال الراوى ((نزعتْ التجربة الأولى الأمان من روحى. جعلتْ الكتابة الأسبوعية فى المجلة بلا أهمية وبلا ضرورة. جعلتنى أشعرأننى خادم لا أهمية له، يُبقيه (السيد) فى المنزل، حتى لايجوع أو حتى لايُسبب المشاكل))
كتب الأديب علاء الديب فى الصفحات الأخيرة من (وقفة قبل المنحدر) أنها ((قد تكون رواية أواعتراف أوأجزاء من سيرة، فيها كلمات لى وأقوال لغيرى)) وعن التغيرالذى حدث فى مصرفى السنوات من 52- 82 كتب ((أرى أنّ هناك خطأ فادحًا فى الطريقة التى وقعتْ بها هذه التقلبات والتطورات والتغيرات على رأسى فأفقدتنى اتزانى.. أفقدنى هذا التغيرالسريع المضطرب قدرتى على الانتماء. لم أكن مشاركــًـا ولم أكن مطلوبًا. وعندما سأله أحد الشباب: ماذا فعلت فى 67 وماذا فعلت بك؟ قال ((قتلتنى.. ومن يومها وأنا ميت. لم أعش بعدها يومًا حقيقيـًـا كاملا))
وعن هزيمة مصرأمام العدوان الثلاثى عام 56، كتب ((لقد كان النصرالكبير- الذى بدا لنا أننا حققناه- هوالبداية.. بداية الفخ الذى حوّلنى إلى طبل أجوف. أرى شرخ الزجاج الذى بدأ يتسع، الشرخ الذى لايرتق، أراه وهويتكوّن فى نفسى منذ أنْ عرفتُ أنّ النصرالذى حققناه ليس كبيرًا إلى هذا الحد.. وتعلمتُ كيف تتحول الثورة إلى نظام مشغول بحماية نفسه. كنتُ أشعرأننى أمتلك تلك الثورة وأننى صاحبها، ولكن الممارسة فى الواقع كانت تؤكد لى أنّ للثورة أصحابـًـا آخرين)) ثم يعترف بأنه يعيش حالة ازدواج فى شخصيته. وأنّ هذا الازدواج قضيته الشخصية وليست مسئولية الدولة أوالنظام.
وهنا يتأكد أنّ (المثقف) فى إبداع علاء الديب مشطور، إلاّ أنه يُحمّل نفسه مسئولية هذا الانشطار، مستبعدًا دورالدولة أوالنظام. ولكنه راجع نفسه فقال ((لا أحد يشعربمعنى التخلف، قدرذلك الكائن الذى يُطلق عليه (المثقف) الذى هوتركيبة غريبة تطمح دائمًا إلى أنْ تعيش فى المعانى المطلقة والمجردة للأشياء، أقدامه مغروسة فى طين الواقع، وعيونه الفاحصة المُـدرّبة، قادرة على اكتشاف ما فى واقعه من متناقضات مزعجة))