القاهرة 31 اكتوبر 2017 الساعة 09:24 ص
رغم كثرة الفلسفات وتنوعها فى تفسير السلوك الإنسانى .. يبقى الموت هو الحقيقية الراسخة، التى لا يمكن إنكارها أو الاختلاف عليها .. وتبقى حياة الأنسان " رهينة " بين بوابتين هما بوابة " الرحم " وبوابة " القبر " .. وبينهما أحداث كثيرة، قد يطول أمدها وقد يقصر .. لكنها فى النهاية مجرد " أكذوبة " تقع بين " حقيقتين " هما حقيقة " الولادة " وحقيقة " الموت"..!
لقد أدرك " عِبدِ لَّه " حقيقة " الموت " دون غيره من شباب القرية، وأراد أن يتعرف عليها عن قرب ؛ فقرر أن يعمل " خادماً " للموتى "و " كاتماً " لأسرارهم .. !
ورغم أن مهنته كانت " منبوذة " من أهالى القرية، إلأ أنه كان دائم الدفاع عنها، والإعتزاز بها. وكان إذا سُئِل عن مهنته يقول:" أنا سيد هذه القرية .. وخادم تلك المِقبَرة " ..! وإذا سُئل عن سبب وصف تلك المهنة بـ" الوضيعة " يقول :" الموتى لا يعايرون " خُدَامَهم " ولا ينكرون محاسنهم.. وهم على يقين بأنهم لن يعودوا للحياة ثانية، وربما إن عُرِضَت عليهم العودة رفضوا ..! أما أحياء القرية فلا يحبون الموت، آملهم فى الدنيا كبير .. لا ينقطع ما داموا أحياء .. وحين كُنا نسأله هل ترغب فى الموت يا " عِبدِ لَّه " يبتسم، ثم يطأطأ رأسه وينظر إلينا فى شجن ثم يقول" بالطبع لا .. !
لا أتذكر يوما أننى قدر رأيته ضاحكا، وجهه دائما شجى .. كنت لا ألتقيه إلا فى لحظات " الدَفن " .. لم يشارك يوما فى تشييع " جنازة " دائما كان يسبق " الموتى " إلى المقبرة .. وإذا سُئِل عن هذا يقول:" سبقتهم لأُمَهِدَ لهم الطريق إلى الأخرة ..!
وحين جاء لأخذ " العَلِيقَةَ " يوم الحصاد، وجدته يطالب والدى بـ" عليقته " وكأنه صاحب حق، فسألته من أنت أيها " اللاحَاد " أى " دافن الموتى " حسب ما كان يدعى فى القرية - فأجابنى – وقد تحشرجت " العبارات " فى حَلقِه - بصوت لم أسمعه من قبل :" أنا الذى يُولَدُ كل يوم .. ويموت فى كل ساعة .. ويشعر أنه مولود من ألف عام .. أعترف بأننى إنسان قديم جداً .. وأن حداثتى شيئٌ عَارِض .. أعيش اليوم بينكم " قديم " فى بيئة حديثة .. وحين وُلِدتُ كنت " حديثاً " فى بيئة قديمة .. صراعى مع الكون دائما محتدم .. سبقته حين كُنت طفلاً ، والأن يبدو أنه قد سبقنى .. !
رغم أننى أموت فى كل لحظة، إلا أنهم يتهموننى دائما بأننى " حيٌ " ..! يبدو أننى الميت الوحيد فى هذا الكون، وربما أكون أنا الميت الحى .. أو الحى الميت .. أعتقد أن الفارق بينهما بسيط؛ لذا لم أستشعره .. لكننى أعتقد أيضا بأننى أنا الميت الذى لم يسرق الموت منه سوى " الروح " حقاً إننى قديم جداً ..!
واستطرد قائلاً: لا شيء يربطنى بـ" حداثتكم " سوى " رائحة النهر " التى حين تناسيتم " نشوتها " تراجعت إلى الجنوب حيث يُبنى السَد، فاختفى من فمى طعم الحياة شيئاً فشيئاً، وحَلًت رائحة الموت ..! الفارق بيننا كبير. بالضبط كالفارق بين الموت والحياة .. فأنا من جيل " صَلَّى " للنهر و "كُوفئ " حين حافظ عليه .. وأنتم من جيل صفق " لـ" الماتش " ..!
غريب أنت يا " عِبدِ لَّه " .. ألِهذا كله يهابَك الناس ..؟! قال " عِبدِ لَّه " ليس لهذا فقط .. الناس لايخافون من الموت بقدر خوفهم على الحياة.. أنا أجسد لديهم " شبح الموت " الذى يحرمهم من لذة الحياة .. أنا الوحيد الذى أن غِبتُ لا يشعر أحد بغيابى .. وإذا مِتُ لا يبكون عَلَي .. لا يذكرنى الناس إلا فى حالات الحزن .. لم أُدعَ يوماً لحضور " فَرَح " .. وجودى قد يفسد فرحتهم ، لا لشيء سوى لأن حضورى يذكرهم بالموت .. !
أنا الوحيد الذى حين زوجوه ؛ شعروا بأنهم يزفون " ابنتهم " إلى الموت .. رغم أننى الوحيد الذى – حين يموتون - له شرعية النظر إلى عورتهم .. أنا حامل المسك وساكب العطر، وأول من يقرأ لهم الفاتحة، أنا أخر من يأخذهم فى حضنه من البشر. أنا الشخص الذى لا يحبه الناس ، وبالرغم من ذلك إذا تحدث صدقوه .. وإذا تواعدهم أهابوه.. فالناس لا تُحِبُ الصادقَ دائماً .. الناس تحب من يخالط " صِدقَه " بعضٌ من المرواغة ... !
يتعاملون معى وكأننى كائن لا يعرفه الموت.. وأنهم إلىً حتماً قادمون .. وأن أسرارهم سوف تكون معى " إن شئت فضحت .. وإن شئت سترت " هم لا يخافون منى بقدر خوفهم من أفعالهم التى خبؤها عبر السنين .. وقد أنبئتهم " الكتب " بأنه فور نزول " الميت " إلى المقبرة تحل إليه " بشائر " الأخرة .. وأنا أول من يراها ..!
لم يكن لـ" عِبدِ لَّه " صاحب ولا صديق فى القرية .. عاش حياته فى عزلة قاتلة .. كان رغم فهمه لطبيعة الموت " بخيلاً " وأشد حرصا من أهل القرية على الحياة .. لم يرزق من الدنيا سوى بنت واحدة .. وحين نصحناه بأن يتزوج الثانية لتنجب له " الولد " قال قريتنا لا تحتاج إلى رجال .. وإذا جاء الرجال؛ فلن يترك أشباه الرجال لهم مكان ..!
وكان إذا مرض " عبدلَّه " لا يذهب أبداً إلى مشفى القرية.. دائما يتحرى الدقة والأمانة فى الطبيب .. وكان يقول مشافكم تمرضنا حتى الكتب التى تكتبونها تجهلنا .. وحين كنا نصادفه فى إحدى العيادات الكبرى يقول ذهابى إلى الطبيب ليس خوفا من الموت أو رغبة فى الحياة. وإنما أُريد إذا قُدِرت لى الحياة؛ أن أعيشها دون وجع ..!
كان " عِبدِ لَّه " يشعر بالموتى أكثر من الأحياء، كريم جدا فى الإهتمام بأهل القبور .. فكان لا يروق له النوم سوى بجوار المقبرة .. وكأن الفارق الوحيد بين حياة الموتى والأحياء بالنسبة له هو سور ضعيف من " الحجر " ..!
لم يتصور أهل القرية يوما بأنه سوف يأتى اليوم الذى يودعون فيه " عِبدِ لَّه " إلى القبر.. كان " عِبدِ لَّه " على يقين بأن القرية سوف تتزين لموته .. لذا فقد كتب على واجهة القبر " مات " عِبدِلَّه " لكن الموت لن يموت ..!