القاهرة 03 اكتوبر 2017 الساعة 10:46 ص
بقلم : د. بوزيد الغلى
يشعر المشاهد العربي بشيء من الانتماء والحميمية والحنين عندما يتسلى بمشاهدة سلسلة تمتح من التراث ، و تستعيد أحداث الماضي برؤية معاصرة تنتصر لقيم الخير و الجمال و الحق . ولا أجد غضاضة في القول، إن من أمتع الأعمال الدرامية البدوية التي ملأت السمع و البصر ، سلسلة " ذباح غليص " التي تستعيد فصولا من الصراع و التحالف بين العشائر وأهل الديرة بزعامة (رميح ولد غليص ) ضد غرمائهم ، طلباً للثأر أو الدية أو رداً على الاعتداء بدسيسة من الأجانب الذين تحركهم نوازع الرغبة في السيطرة على الماء الذي قد يشعل الصراع حوله حروبا مستقبلية ، و قد وجدت السلسة الشيقة تغزل في مغزل واحد مع سلسلة أخرى مغربية لا تضاهيها من حيث جودة التصوير و قوة السيناريو و قدرات الممثلين على تجسيد المشاهد، لكنها تشترك معها من حيث تسريد الحروب " القبلية " وتحويلها إلى مادة سائغة للإنتاج الدرامي .
و قبل أن ننبري لبسط مقاربة نقدية للسلسلة الحسانية " غزي إنيمش" ، يجدر بنا أن نقرب إلى الأفهام دلالة العنوان المنتمي إلى الثقافة الحسانية .
عتبة العنوان : غزي إنيمش
يمثل العنوان عتبة العمل الدرامي الرئيسة التي لا يمكن الولوج إلى عوالمه دون المرور به، ولا شك أن عنوان السلسلة عبارة عن مركب نحوي مشكل من كلمتين ( غزي + إنيمش) منتميتين إلى المعجم الحساني ، تدل الأولى على الغزوة أو الحرب بين قبيلة و أخرى ، وقد احتفظ ضباط الشؤون الأهلية بالكلمة في مؤلفاتهم ، ولم يعمدوا إلى استعمال كلمات بديلة لها ، فتحدثوا عن الغزّي وجمعه غزيان بهذا اللفظ : Razzias ، ومن المؤكد أن الغزيان أو الحروب بين القبائل قد شاعت زمن " السيبة" التي تعفف الشيخ محمد المامي عن تسميتها بهذا الاسم، فسماها : الفترة ،مشيراً بطريق الدلالة إلى فتور وتراخي قبضة السلطة عن الأطراف والأصقاع البعيدة
ورغم أن السلسلة لا تشير من قريب أو بعيد إلى الفترة التي دارت فيها أحداث " غزي إنيمش " ، فإن المهتمين بتاريخ الغزيان يجمعون على أنها امتدت لفترة طويلة قبل مجيء الاستعمار، كما أن كاتب سيناريو السلسلة قد رجح كفة التخييل على التأريخ، عندما أسند الغزي إلى الفتاة " إنيمش" ، وسماه باسمها على غير العادة في إطلاق أسماء الغزيان على مناطق دارت بها رحى الاقتتال (غزي لكَرارة) أو أسماء أحداث مؤثرة في مسار الحرب مثل (غزي الدقيق ...). و تنم " إنيمش" التي أطلقت في السلسلة على البطلة الرئيسية عن أصول الكلمة الصنهاجية الأمازيغية، إذ أنها كلمة تحيل على الجمال الآسر ، بينما تدل كلمة " فيجي" على كل ما يريح الخاطر ( كل شي يفجي لخلاك )، وذلك من قبيل السرور بالنظر إلى طفل صغير أو شاب وسيم . ولهذا عهد أهل الصحراء إطلاق " فيجي" على الوليد الذكر .
ملخص أحداث العمل الدرامي :
تدور أحداث السلسلة حول "مخيم" (فريك) تعرض أهله لغزوة مفاجئة من قبل فرسان مسلحين، أسفرت عن هروب " إنيمش" وإصابة والدها الذي سيقوم أحد الشعراء بنجدته و الإشراف على مداواته حتى يتماثل للشفاء ، في حين ستواجه " إنيمش" مصيرا مجهولا تكثف السلسلة في حلقاتها الثلاثين أطواره ، بدءا من الاختطاف والتعرض لأبشع أنواع التنكيل والإهانة وانتهاء بالإنقاذ من قبضة آخر الآسرين على يد رمز النجدة و الفتوة في السلسلة ؛الشاب الذي سيتزوج منها ،وتنجب له غلاما سيلقى حتفه بطلق ناري غادر صادر من غرّ ليس سوى ابن خالته " فيجي" التي اكتشفت بعد ردح من الزمن أنها أخت إنيمش المختفية التي غير الزمن ملامحها، إذ اختطفت صغيرة، و هاهي تعانقها وقد صارت ذات عيال .
ولقد تخللت السلسلة أحداث كثيرة تسير بالتوازي مع قصة عائلة " إنيمش " التي شتتها "الغزي" قبل أن يلتئم شملها إثر تعرف الأب على ابنتيه (إنيمش و فيجي) بعد أن ساقه القدر اللطيف إلى إنقاذ طفلة تئن تحت جرف من شدة القيد الذي كبلها به ابن خالتها العاق الذي سيصير " أمزواكَ" مخافة اكتشاف أمره قبل أن يعود إلى مضارب الخيام بعد انكسار شوكة "المسلحين" الذي انضم إليهم في الفلاة ؛ كي يلقى حتفه تحت ألسنة سياط أبيه .
غزي إنيمش : رؤية نقدية
يحسب لفريق إنتاج السلسلة أنه امتلك الشجاعة لفتح ملف شائك كفت الأقلام ، إلا قليلا، عن تناوله من زاوية تاريخية أو سوسيولوجية، ذلك أن فترة الاحتراب بين القبائل المعروفة بالغزيان تتنازعها الروايات الشفوية ، و تنذر حولها الكتابات الموثقة خلا إشارات قليلة تضمنتها بعض المخطوطات و الكتب من أهمها " جوامع المهمات في أمور الرقيبات" الذي عرج صاحبه على ذكر بعض حروب الركيبات ضد خصومهم ، ولا يحل القول إن غزي إنيمش يتكئ على مادة تاريخية بقدر ما يتوسل بالتخييل الذي يحاكي أحداث الغزيان و لا يروم توثيق أحداثها، وقد يكون المخرج و كاتب السيناريو، بذلك، قد سلما من أية تبعات قد تنجم عن تناول تاريخ قبيلة محاربة بعينها ، و لنا أن نتناول السلسلة من زاوية النقد الثقافي باعتبار حمولتها الثقافية الغنية التي أثارت حفيظة بعض مرتادي المواقع الاجتماعية،خاصة الفيسبوك، فقد اتهم بعضهم مخرج السلسلة و كاتب السيناريو بالإساءة إلى التراث الثقافي اللامادي للصحراء و الصحراويين ، إذ كتب أحد الرواد قائلا : "غزي إنيمش أساء كثيرا لتاريخ وحياة مجتمع بني حسان... لغة وأحداثاً " ، بينما غرد آخر قائلا : " الغزي بالمفهوم التقليدي هو أن القبيلة تغزو مجال قبيلة أخرى،وتسيطر على الثروة وتعود و تقتسمها حسب قانون محدد ؛فالمحارب والمركوب والمدفع والمترجل وسوّاق الحية (الغنم) لكل منهم نصيبه ،أما غزي إنيمش فهو حكاية من حكايات قطاع الطرق .. ،(كلمة) الغزي مأخوذة من الغزوة أو الغارة على العدو لأسباب عصبية أو للسيطرة على المجال أو الثأر ،ولا يكون فيه التنكيل بالمرأة والكهل والطفل و لا حتى الحيوان" ، كما شاهدنا في غزي إنيمش.
قد يكون في بعض التغريدات السالفة شيء من القسوة التي تسببها الغيرة على التراث الذي يشكل وشم الانتماء و أسّ الكينونة، و ليس في نيتنا إطلاق حبل النقد على الغارب، بقدر ما نود وضع ملاحظات مؤسسة على ما لم ينتبه إليه كاتب السيناريو و مخرج السلسلة من أمور أساءت إلى العمل من وجوهٍ، رغم قوة بعض مناحيه .
اختيار أسماء الشخصيات:ليس من السهل على المشاهدين المنتمين للثقافة الحسانية التي تشكل عماد السلسلة لغةً و إيماءات و طقوسا غض الطرف عن الخرق الذي اجترحه كاتب السيناريو حين سمى الأنثى "فيجي" باسم معهود للذكور، وقد كان الأولى اختيار اسم من الأسماء المشتركة بين الجنسين مثل النعمة ؛ أما اسم إنيمش، فهو من الأسماء الغميسة التي يحسب للكاتب إحياؤها و إرجاعها إلى ساحة التداول.
فضاء التصوير :
يمكن التمييز داخل السلسلة بين فضاء داخلي و آخر خارجي . و قد تجسد الفضاء الداخلي أساساً في الخيمة التي تعمد المخرج إظهار مكونات الداخلية في مشاهد كثيرة، أما الفضاء الخارجي ، فتتنازعه البادية و الواحة، حيث دارت كثير من الأحداث في فضاء بادية أسا الزاهية بكثبانها و جبالها ووديانها ، بينما جرت أحداث أخرى داخل الواحة بنخيلها الوارف
وعيونها الجارية فضلا عن بيوت قصر أسا العتيق الذي لعل فيه رصاص المهاجمين على غير المعروف تاريخيا من دوران رحى الحروب بين " الفركان" في البوادي لا في دروب القصر الهانئة .
السينوغرافيا و توظيف الأدوات التراثية :
يقود الحديث عن السينوغرافيا إلى إبراز بعض ملامح قوة العمل من حيث توظيفه لأدوات الطهو التقليدية (المرجن ، أدوات الشاي التقليدية ) فضلا عن إبرازه زينة المرأة الصحراوية التقليدية (لحفول) ، لكن اختيار بعض الألبسة التقليدية الحاملة لأشكال تطريز حديثة للغاية، لم يكن موفقا و لا مناسبا للفترة التي يفترض أن تدور فيها الأحداث، كما أن اختيار الأسلحة (بنادق صيد و فروسية /تبوريدة) لا يناسب الفترة على الإطلاق، مع أنه بالإمكان العثور على الأسلحة التي كانت مستعملة إلى وقت قريب مثل : أكشام ، و الرباعية و بوحبة ...، فضلا عن كون عدد الفرسان لا يناسب مفهوم الغزي في الثقافة الحسانية ، إذ لا يطلق الغزي إلا إذا تجاوز عدد المشاركين في الوقعة ثلاثين فما فوق ، بل هناك يميز استنادا لعدد المحاربين بين " الغزي " و "أمجبور" و " إبجوان".
و قد استنتج الباحث عبد الحميد فايز أن الغزي " لا يشكل أسلوبا عشوائيا يعتمد على الإغارة ومباغتة العدو، وإنما ينطوي على حالة تنظيمية و مؤسساتية نموذجية يتسم بها مجال البيضان" .
الحوار و توظيف الأشعار :
يضفي الحوار على العمل الدرامي حيوية لا تكفلها الصورة رغم أهميتها البالغة ، وقد لاحظ متتبعون أن الحوار الضامر في بعض حلقات السلسلة جعل الصورة جامدة صامتة ، لكن ، ينبغي أن نشيد في هذا المقام بلغة الحوار التي كانت في المجمل بلهجة حسانية تؤمن الفهم لفئة واسعة من المشاهدين المغاربة غير الناطقين بها، وقد كان توظيف الشعر الحساني في بعض الحلقات ملائما للمشهد كما في لقطات الانطلاق التي تصور مشهد " طيْحة إنيمش" ، وتظهر الشاعر وهو يترنم بطلعة مشهورة تلخص مشاعر عدم الأمان من غوائل الزمان :
هذا الدهر اتفو بيه / مارتْ عنو غــــــدّار
مارت ما تورَ فيـــــه / حلاوَ ما تِمْــــــــرارْ
بينما لم نرَ وجهاً للتناسب بين بعض الأشعار و المشاهد المصاحبة لها في حلقات أخرى.
F. De Lachapelle, Les Teknas du sud marocain,Editions Faculté des lettres , Rabat,2001,page105
محمد سالم بابا الري ، كنز الذاكرة (معجم)، مطبعة آسفي، 2007،ج 1 ص 167
عبد الحميد فائز، النظام الاجتماعي للحرب في المجتمع البيضاني قبل الاستعمار، قراءة أنثروبولوجية وتاريخية، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية و الانسانية ، العدد 13، المجلد الرابع، صيف 2015، ص178
عبد الحميد فائز، النظام الاجتماعي للحرب في المجتمع البيضاني قبل الاستعمار(مرجع سابق) ، ص178
اخترنا التعبير الحساني " طيحة" ، ومعناها غارة لاقتناعنا بأن المشهد الذي لا يظهر فيه سوى عدد قليل من الفرسان ، ليس سوى غارة ، وهي المعروفة عند البيضان بالطيحة .