القاهرة 31 يوليو 2017 الساعة 04:07 ص
أحمد فتحي رزق
القصة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة صلاح هلال للقصة القصيرة
دائما ما كانت تتشاجر مع أبيه لشراء نصف كيلو من اللحم وعمل الطبخة الأسبوعية . وتنتهى المعركة بالسباب والضرب , وتليها الدعوات والحسبنة من الأم، فينزوى جانبا ويشكو لربه وهو فى السادسة من عمرة . لماذا خلقتنا فقراء ؟
كبر وتعلم حتى انتهى من دراسته المتوسطة, وشجعه أخوه الكبير آنذاك على السفر للعراق, فاستقر به الحال فى بغداد أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ورغم ذلك كانت الأمور اعتيادية, ما يؤرق نومته مشاهد الجنائز اليومية أثناء الحرب وأصوات العويل. .
عمل فى أحد المطاعم فى قلب بغداد بدوام ليلى حيث السهارى والسكارى وكان راضيا على أية حال, إلا أنه ذات يوم تحرش به زميله المصرى وتخوف من شكوته لصاحب المكان, فمازال صبيا يافعا يخشى على نفسه من هؤلاء الشواذ، كما كان يسمع عنهم فى القصص والروايات أثناء رحلته من السويس للعقبة لدخول العراق وقتها.
تكرر المشهد الأخير من زميله، فقرر أن يبلغ مديره أو المالك. وبالفعل صعد للدور العلوى للرجل وبدأ بفتح الموضوع, ففاجئه, إيش أخبارك, مبسوط ويانا, وإحنا كمان مبسوطين بيك خوش ولد خوش ولد, تعال تعال , وأجلسه على أريكته، وبدا على الرجل الارتباك حيث كان عاريا من منتصفه الأسفل، فشاهد ما لم يشاهده من قبل. فزع، وجرى، حتى وجد نفسه خارج المكان دون أن يبدل ملابسه التى حضر بها هذا الصباح وأخذ قالبا من الطوب بيده وصاح أمام الجميع : أريد أجري وإلا حطمت لكم الزجاج. )
لم يجد المالك من حل سوى أن يعطيه راتبه ويتركه يرحل. تمّ حل المسألة، وأخذ راتبه وانصرف إلى إحدى الساحات المجاورة. انطلق صوت آذان الفجر من المسجد القريب. توجه للمسجد، لم يكن أمامه غير ذلك, نام قليلا بعد الصلاة، لكن خادم المسجد أخرجه بقسوة.
ذهب للبحث عن عمل فى كل الأماكن. لم يجد. تذكر أنه يوما ما عمل نقاشا للحوائط مع أستاذه فى المدرسة الصناعية بمصر. اقترب من الميدان الذىي تجمع فيه الحرفيون والعمال. توجه إلى ربه هامسا: ربى إنى تركت أهلى وبلادى طمعا فى رزقك الواسع، فاللهم أسألك التوفيق. .
جلس مع العمال، وبدأ يتعرف بهم. عرف أن أصحاب أعمال يأتون لهذا المكان، ليأخذوا صاحب النصيب للعمل فى أعمال البناء والهدم والنقاشة وغيرها. .
نزلت امرأة من سيارةأجرة وتفقدت الحاضرين, ثم قالت : أبغى نقاش زين بالفيلا حدانا , ولم يحرك ساكنا بعد أن تجمع الكثير حولها للفوز بالمقاولة. .
نظرت إليه وقالت : تعال تعال إيش إسمك. كان فتيا، مفتول العضلات. ابتسم في طيب وسماحة، وقال: أنا علي,لكنى غير محترف وأخاف أن يفسد العمل.
قالت : ماعليك تعال تعال , هيا.
ركب معها السيارة وانطلقا لأحد الأحياء الراقية، حيث تقطن السيدة. حين دخل إلى الحديقة تعرف على عامل الحديقة، لهجته المصرية أشعرته بالراحة.
رحب به، وبادره :هترتاح هنا , الناس دول طيبين قوى , وعموما أنا مسافر على مصر قريب, كدة أمشى وأنا مطمن . فرح واستبشر خيرا ..
انتظم العمل وسافر عامل الحديقة, ولم يكن غيره في المنزل مع السيدة وابنتها.
كانت ابتسام فى نفس عمره،و كانت تعامله معاملة طيبة، وتمزح معه، كثيرا, فقد مات والدها فى الحرب منذ عام،وتشعر بالوحدة. كانت تدرس بثانوية البنات فى القريبة من المنزل.
أحبها، لكنه لم يكن متأكدا من حبها له، رغم قربها الشديد منه. لم يكن يمتلك الجرأة على البوح، فربما يخسر عمله أو حياته. آثر الصمت والكتمان. كان يتوقع عودة العامل المصري قريبا،لذا كان يشعر بالقلق، فربما تستغني السيدةعن خدماته. عرف منها أن العامل الذي ذهب لزيارة أهله في مصر قد توفي. شعر بالأسى من أجله.
كان يشارك الفتاة اللعب والطعام والدراسة. شعر أنه جزء من هذه العائلة الصغيرة. شهور وسنوات مرت، حتى انتهت الحرب. علمت السيدة أنه يرغب فى إتمام دراسته الجامعية، فألحقته بكلية الهندسة والمعلومات. لم تشغله الدراسة عن أداء مهام عمله في رعاية الأسرة والمنزل.كان يعيش في ملحق خاص بالعمال. كان قلبه ينفطر حين يتصل بأهله في مصر. كانت أمه تلح عليه بالعودة، رغم أنه كان يرسل لها كل ما يتوفر معه من أموال. كان يخشى عليها إن علمت أنه لا ينوي العودة قريبا، فكان يقول لها حين يشاء الله سأعود يا أمي.
كانت ينتقل في دراسته الجامعية من عام لآخر، محققا أعلى الدرجات، وحين تخرج تمّ تعيينه في جامعة بغداد. كان زوج السيدة الجديد يؤمن بأحقيته في التعيين ما دام قد تخرجبتفوق، فلم يدخر جهدا في سبيل تحقيق ذلك، فهو أحد قادة حزب البعث، وله مكانة كبيرة تمكنه من فعل ما يريد.
لقد أعطوة الفرصة للحصول على الجنسية، ثم المشاركة فى تطوير بعض نظم الجيش حتى وصل لمرتبة عالية. تزوج من الفتاة التي شاركها صباها وشبابها.
ما لم يحسب حسابه يوم اأن يشارك في قتل عربي مثله. في يوم كان يشاهد مؤتمر القمة العربية، شاهد مثل غيرهمن الملايين العربية التراشقات والمناوشات قبيل الغزو العراقي للكويت. بدأ يتخوفمن اندلاع الحرب، ماذا لو هاجم حاكم العراق الكويت؟ هل سيشترك في قتل عربي؟ باح بمخاوفه إلى زوجته التي تعود أن تشاركه همومه.
قالت له : أنت عراقى الآن، ولابد من تنفيذ إرادة القيادة السياسية والرئيس صدام إنها بلادنا هىا لمحافظة التاسعة عشر بالعراق ولم يكن هناك كويت أبدا. ازدادت مخاوفه حين علم أنقوات مصرية وعربية ستشارك فى حرب تحرير الكويت كما أسموها ووجد أن الأمور قد تأزمت كثيرا ولابد له من مخرج سريع . إنه لن يشارك فى تلك المأساة.كانت وفاة والده هي نقطة النهاية في هذا الصراع النفسي. استأذن عائلته العراقية بضرورة سفرة للوقوف بعزاء والده, فقد غاب عن أهله كثيرا.
ترك زوجته وابنتيه. لم يصحبهم إلى مصر.
قابلته والدته بلهفة وفرح، رغم حزنها على الزوج, وارتمت فى أحضانه باكية،كإبنته الصغيرة. ضمها إليه، وقبل كتفيها ورأسها. حاول أن يخفف من حزنها قائلا:
البركة فيكى ست الكل ربنا يطول بعمرك وإن شاء الله سأعود بزوجتى وبناتى لأكون تحت إشارتك. ـ
مر شهر وهو لا يستطيع العودة للعراق. عرف أنه لن يتمكن منالعودة إلى العراق حتى تنتهى الأزمة وتخرج قوات التحالف من العراق، وتحل مشكلةا لأسرى. شهور مرت دون أن يتمكن من العودة. الشوق لزوجته وبناته يقتله، فعرض عليها أن تأتي إلى مصر، لكنها رفضت أن تترك أمها، وتحضر إلى مصر، فتركها فترة تعيد التفكير في الأمر. يطل الأمر كثيرا، فقط صدق حدسه، وسقط صدام. هوت العراق في جب عميق.عندها أتت الزوجة إلى مصر، مصطحبة أمها وبنتيها. لم يُعرف مصير زوج السيدة. فقد إثر سقوط بغداد. ولم يتأكد للسيدة مصيره. عاش مع عائلته الصغيرة في مصر. فكر أن يستثمر دراسته وخبرته مع الجيش العراقي، فتقدم لوزارة الدفاع المصرية بمشروعات لتطوير الجيش، فرحب به المسؤولون، واستقر به الأمر في مصر. تقين الآن من فضل دعوات أمه. وحمد الله على هذه الحياة الهادئة ف وطنه.