القاهرة 25 يوليو 2017 الساعة 09:45 ص
تأملات كثيرة أثارتها بداخلي طوال شهر رمضان المبارك متابعتي لمسلسل واحة الغروب، سيناريو وحوار مريم نعوم وأحمد بدوي وهالة الزغندي، إخراج كاملة أبو ذكري، وبطولة خالد النبوي ومنه شلبي وأحمد كمال وركين سعد.
وهو المسلسل المأخوذ عن رواية الأستاذ بهاء طاهر الرائعة( واحة الغروب) الصادرة عام 2007، والحاصلة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2008. وهي الروية القيمة التي شغفت بها جداً عند صدورها، مما زاد من رغبتي في متابعة المسلسل. وكم اتمنى على كل من أعجب بالمسلسل وأبطاله ولغته وعوالمه، أن يعود لقراءة الرواية ذاتها؛ فهي المنجم الثري الذي استمد منه كُتاب السيناريو والمخرجة كاملة أبو ذكري تلك العوالم والشخصيات والمقولات الرائعة، التي استمتعنا بها طوال عرض المسلسل.
وقد دارت تأملاتي في عالم (المسلسل / الرواية) حول نقاط تتعلق بالمكان والبشر، والعلاقة الجدلية بينهما. ومن خلال تلك التأملات في العالم الثري، تأكد لي أن أهواء ورغبات البشر لا تتغير، وأن الدوافع العميقة خلف طموحاتهم وسلوكياتهم، نبل بعدهم وسموه، ووضاعة البعض الأخر وانحطاطه، تكاد تكون ثابتة، مهما تغير الزمان والمكان؛ فلم ينتهي بيننا ولن ينتهي حضور وسلوك الضابط محمود عبد الظاهر وزوجته كاثرين، والضابط طلعت والضابط وصفي، والجميلة مليكة، والشيخ صابر والشيخ يحيى. كما لم تتحسن عندنا إلى اليوم ملامح الجغرفيا القاسية القاتلة لأحلام الإنسان، والخانقة لروحه وحريته.
الواحة كجغرافيا باطلة ..!
يحتل المكان أهمية كبيرة في تحديد الخصوصية المميزة للأفكار والتصورات الدينية والعقلية للإنسان؛ لأنه – كما قال الراحل عبد الرحمن منيف - ليس شيئاً جامداً أو محايداً، بل هو الحاضنة التي تتكون فيها الأفكار والعلاقات، وتُكتسب من خلاله الملامح وشكل السلوك. وبالتالي يترك المكان بصمته القوية على البشر وكل ما ينهض فوقه سلباً وإيجاباً.
والمكان في مسلسل واحة الغروب هو مصر في نهاية القرن التاسع عشر، والقاهرة والإسكندرية تحديدا في أعقاب هزيمة عرابي وفشل ثورته التي أعقبها دخول القوات البريطانية مصر واحتلالها عام 1882. ثم واحة سيوة المجهولة والنائية والقاسية، رغم بساطة الطبيعة والحياة فيها.
وأهم سمة للمكان في الرواية هو قسوته وتناقضات الحياة فيه، تلك القسوة والتناقضات التي جعلته جغرافيا مشوهة باطلة، غير صالح لانتاج حياة سوية، بعد أن ساد وانتشر فيه الخونة والآفاقين، فأصبح الخراب والدمار هو علاجها الوحيد.
ويمكن أن ندرك سمة المكان، وكراهية البشر له، ومصيره من خلال نبوءة الشيخ صابر عن الواحة، التي تصلح لأن تكون نبوءة لعموم مصر في تلك الأوقات، يقول الشيخ صابر: " مكتوب أيتها الأرض أن يأتي عليك وقت تكونين فيه أرملة منكسة الرأس، تحثو فوق رأسها التراب. مكتوب أنه سيمشي في طرقاتك الغرباء في زهو، ويمشي أهلك مطرقين رءوسهم. مكتوب أنه سيعلو صوت السفهاء، ويتكلم الحكيم في كمه".
محمود عبد الظاهر .. بطل الضد بامتياز..!
للأبطال الروائيين حياة خاصة بهم، وملامح لا يشبهون فيها أحداً غيرهم، وهو ما يصنع لهم أصالتهم وتفردهم. ومع ذلك فإن تأثيرهم في غيرهم وانفعال الناس بهم يأتي من مصدرين؛ المصدر الأول: أن تشبه تجربتهم الحياتية تجربة أبناء عصرهم أو اللاحقين عليهم من أجيال قادمة. والمصدر الثاني: أن يشبه حلمهم المُجهض أو المُتحقق حلم أبناء عصرهم أو أبناء العصر اللاحق لهم.
وهنا تكمن علة انفعالنا الشديد بتجربة حياة وانفعالات وتحولات بطل المسلسل محمود عبد الظاهر، حتى كدنا أن نصرح ونقول: كلنا محمود عبد الظاهر؛ فهو رجل عاشق للوطن و " بطل ضد " من أنصار قضية عادلة خذلها أنصارها وخانوها، وهي قضية الثورة على الظلم واستقلال الأرض والإرادة والتغيير والإصلاح حتى تصبح مصر للمصريين، وويصبح على أرضها ما يستحق الحياة.
وهنا تكمن علة أزمة محمود عبد الظاهر – وربما أزمتنا أيضاً - وما جعله رجلاً مثقلاً بهموم الهزيمة والفشل على جميع الأصعدة، رجل لا يكف عن الحوار مع ذاته، وجلدها بقسوة، حتى يصل في النهاية لقناعة مؤدها: أن الغلط يكمن في صميم الحياة ذاتها؛ فنجده يقول: " ما العمل يا شيخ وكل الحكمة لا تفيد في أن تُهدي الراحة إلى القلب، ربما الغلط في الحياة بالفعل ؟".
وعند تلك اللحظة يُدرك محمود عبد الظاهر أن الموت هو السبيل الوحيد للنجاة، وإعادة تجديد الحياة، فيقوم بتفجير المعبد المقدس وهو بداخله، لتنتهي حيات، بعد تدمير أهم مقومات المكان، وهو المعبد الذي وجد فيه رمزاً لماضي وثقافة لأبد لهما من التددمير والزوال.
وبالموت تتوج رحلة محمود عبد الظاهر المُضنية، ويحصل على السكينة البعيدة المنال في الحياة؛ فنراه على أعتاب الموت يقول: " لم يكن هناك ألم .. وتوهج فجأة نور داخلي ، نعم، الآن يمكن أن أرى كل شيء، أن أفهم ما فاتني في الدنيا أن أعرفه!".
ولكن ربما غاب عن محمود عبد الظاهر أن الهروب للإمام بتدمير الماضي وعناصر المكان، لن ينتج إلا مزيداً من الدمار، وعدم الكمال في الحاضر والمستقبل؛ ففي كل سياق إنساني وطني وحضاري يتحتم نقد الماضي، وهدم وترك ما هو جدير بالهدم والترك، وإعادة البناء على ما هو جدير بالبقاء. وأزمة محمود عبد الظاهر تكمن في كونه خلط بين أزمته الشخصية المتمثلة في إفلاس ووالده وهروب جاريته الحبيبة نعمة، وأزمة وطنه المتمثلة في هزيمة عرابي بسبب الخيانة، فلم يستطع أن يسموا على الأولى من أجل الثانية، فدمر ذاته ودمر الواحة، ولم يخدم الوطن.
كاثرين .. تراجيديا الحب في الزمن الخطأ ..!
مفارقة أدب بهاء طاهر الإنسانية الكبرى، أنه يجعلك تؤمن بقيمة الحب، وأهمية المرأة في حياتك، لكنه أيضاً أكثر أدب يجعلك تكفر بهما، وتهرب منهما، فلا قصة حب أو زواج تستمر أو تكتمل بسبب مفارقة اللقاء في الزمان والمكان الخطأ، وبعد أن يصبح الطرفان مثقلين بتشوهات وميراث تجارب حياتهم السابقة.
وكاثرين بطله واحة الغروب، وزوجة الضابط محمود عبد الظاهر، هي امرأة ذات نضج عقلي وحضور روحي وجسدي مميز، وقد جمعت بين الرهافة الأنثوية والقوة، وحاولت بكل ما تملك أن تكون سنداً وحماية لزوجها المأزوم والهارب من هزائمه الشخصية والوطنية.
ولكن علاقتهما كان محكوم عليها بالفشل، لأنهما التقيا في الزمان والمكان الخطأ، وكل منهما مثقل برواسب ماضيه وتشوهاته.
ربما كانت كاثرين أكثر رغبة من محمود عبد الظاهر في تجاوز ذلك الماضي، وأحتواء زوجها والبدء معه من جديد. ولكنها مع ذلك حملت شغفاً للمعرفة والتجريب، سبب لها ولزوجها أضراراً كبيرة، وكتب نهاية مؤسفة لعلاقتهم، حتى وجدنا محمود عبد الظاهر يقول عنها: " هي التي أغوتني أم أنا الذي أغويتها. هنا انتهت علاقتي بكاثرين إلى غروب، وأصبح موت مليكة بيني وبينها".
اليوزباشي وصفي وفلسفة الخيانة ..!
اليوزباشي وصفي هو بطل وطني زائف بألف وجه، انحيازه فقط لطموحه الشخصي، وفي سبيل ذلك الطموح، هو قادر على التدليس وخلط الأوراق وفلسفة الخيانة، من أجل الانفصال عن هموم مجتمعه ووطنه، وخدمة السادة مهما تغيرات وجوههم وجنسياتهم؛ هكسوس، فرس، مماليك، أتراك، إنجليز
موت مليكة .. الموت حل مراوغ ..!
المرأة في المجتمعات المغلقة المتخلفة هي " المرآة " التي تتجلى فيها ومن خلالها كل أمراض المجتمع، وهي من تعيش الخراب وتدفع ثمنه وترويه، وهذا ما صنع مأساة " مليكة " ابنه واحة سيوة، وإحدى بطلات مسلسل واحة الغروب؛ فهي نموذج يُجسد أجمل وأشقى النساء في مجتمعنا، فلا هي طفلة ولا هي امرأة ناضجة كبيرة، ولهذا هي جميلة، ولهذا هي تعاني في مجتمع قاسي لن يفهم أبداً روحها وأحلامها.
ولهذا كان موتها غير المتعمد على يد أمها، حلاً لجميع الأطراف، حل دائم لمليكة يقضي على اغترابها في جغرافيا الواحة القاسية والخانقة، ويحملها إلى رضوان حبيبها المفقود. وحل للرجال والنساء القساة من سكان الواحة، يهبهم نصراً يعيد النظام للواحة وثقافتها وعلاقاتها الاجتماعية.
ولكن موت ملكية، واتفاق جميع الأطراف على طمس حقيقته وغلق ملفه، لن يقدم إلا حلاً مؤقتاً للواحة وسكانها، وسوف تظل كل ملفات الواحة مفتوحة، ملفات الحب والحرب والموت، ولن يغلق ملف إلا وهو يحتوي على أسئلة مقلقة أكثر من احتواءه على أجوبة؛ فكل سكان الواحة أصلاء ووافدين، يهربون من تناقضات ماضيهم وحياتهم السابقة للأمام، مع أن أصل الداء يكمن في ماضيهم، الذي عجزوا عن مواجهته ونقده وحل أزمتهم فيه ومعه. وبدون ذلك سوف يظلون مسكونيين لا شعورياً بغواية الغروب، ونشوة الموت، ولن يكون لهم شروق حقيقي.
في النهاية، أظن أن الرسالة المضمرة في ذلك العمل الدرامي المتميز، المأخوذ عن رواية أستاذنا بهاء طاهر الأكثر تميزا، هو أن علينا أن نمتلك دائما شجاعة نقد ذاتنا ومواجهة تناقضات حياتنا وماضينا، وتشوهات المكان الذي نعيش فيه وجغرافيته الباطلة، إن أردنا تحقيق تغيير وتقدم إيجابي في حياتنا. أما الهروب للأمام فلن يغير من واقعنا شئ، وسوف يُعيد دائماً انتاج ما كان في حياتنا السابقة من هزائم وتشوهات.