القاهرة 25 يوليو 2017 الساعة 09:34 ص
بعد ما يقرب من الأربعين عاماً على رحيله المُبكّر، لا تزال كتابات عليّ شريعتي خصبة، وحمى المعنى الرشيق لا يزال يسري في أسطره، وذلك الجلال البهي المحشتد بأسطره، بقي ينسابُ لقرائه المتجددين، بخشوع أهّاب، وديمومة متوهّجة.
في أحدث كتبه المترجمة للغة العربية (كتاب الصحراء) يبحر عليّ شريعتي بقرّائه في عودة شائقة إلى الفطرة الإنسانية غير المشوّهة، إلى النزعة السليمة للذات، عبر قراءة مُركّزة للمجتمع الإنساني عامة، والإيراني بصورة خاصّة، وللتاريخ الإسلامي وقضاياه وإشكالياته، ومحاذيره التراثية المتعددة الصور، فضلاً عن استدعاء مهم لجوانب من السيرة الذاتية لشريعتي، بداياته وطفولته وملاعبه الأولى الإمتاعيّة والتعليمية والتربوية.
إذ يُلحظ بعد تقليب صفحات الصحراء، الجانب السّيري غير المنظور في كتابات عليّ شريعتي الأخرى، حيث قريته الأم (مزينان)، المستلقية على ذراع زمن مضى، وملاعب الصبا، أو كما وصفها قائلاً: (كأنها حقّاً حيُّ عشقٍ صغير. وكما يُقال، بُنيت على شاكلة العشق. قبل مئة عام. ص37)، إذ نجد (مزينان) بوصفها إضمامة للرّوح، ومنبت للتشكيل الأوّل للذاكرة، وملعب للقفزات البكر، قبل الانغماس بأمور المدينة وأهوالها، رغم مصاعب العيش، والعوز الذي كان يدثّر مجتمع إيران عموماً، و(مزينان) المنسيّة خصوصاً: (إنّ أيام الطفولة هي أيضاً تمثّل العصر الذهبي لأيّ شخص! إنها أيام مفعمة بالبراءة والعزّة والمرح في تاريخ حياة كل فرد. وأنا أيضا، برغم طفولتي لم تقضَ ب"الذهب" بل انقضت بـ"الفولاذ"، إلّا أنها الآن تلمع أمام عين ذاكرتي لمعان الذهب؟ ص 48)، وهذا اللمعان لمرايا الطفولة، ما هو إلا حنين لها، وألفة معها، والارتماء في حضن الماضي، وميل للعزلة في حاضر أيامه
وبعد أن يستعيد بذاكرة دافئة أمكنته، ينتقلُ لاستعادة الأساتذة الأوائل من شريعتي الأب ومعلمين وأسلاف غمرتهم محبّة الصحراء، وتعلّقوا بها، غير آبهين بتغيّرات الأزمنة، وتحديثات الأمكنة، وتطوّر وسائل الحياة، نطالع ذلك بأسماء كالحكيم السّبزواري، والشيخ عبد الرّحيم، ومحمّد كاظم الخراساني، وغيرهم ممن يصفهم شريعتي بأنّ دمائهم تسري بعروقه: (أنا ولي هؤلاء الملوك الخالدين وبقية هؤلاء الفرسان الذين كانوا يوصلون أنفسهم إلى سقف هذا السماء القصير بمشاعرهم الخالدة وبأفكارهم المعراجية على رفرف الشوق. ص46)، إذ يسير شريعتي في كتاب (الصحراء)، مبتغياً أيام أسلافه الذي يزخرُ بهم قلبه بإرهاقٍ واعتزاز يلمسه المتلقي بشغف وحميمية، ملوناً تلك الصفحات باقتباسات شعريّة، وأقوال تأمّلية لحافظ شيرازي، وشمس التبريزي وجلال الدين الرّومي وطاغور ومهدي أخوان ثالث، وأيقونات الدّيانات السّماوية، والدّيانات الوضعيّة، كعيسى المسيح وموسى، والنبي محمّد وعليّ بن أبي طالب، وملّا صدرا، وبوذا وديكارت، وغيرهم الكثير، ممّا يحيل للقارئ حجم التلقي الثقافي الهائل الذي حازته مدوّنة عليّ شريعتي العقلية، فيما زادت الاقتباسات الشعريّة من توهّج منارة النصّ وتجلّي جماله، وأضافت مقاماً موسيقياً لسيمفونية الصحراء.
ومن هؤلاء الأسلاف وماضيهم الفخم، يتّجهُ شريعتي في فصل آخر باذخ عنونه بـ(من أعبدهم)، أمتد لما يقارب من الأربع وسبعين صفحة لسرد يومياته الباريسية حيث درس هناك، مع أساتذته في قسم علم الاجتماع في جامعة السوربون في بداية العقد السادس من القرن العشرين، وهو هنا يريد الإشارة إلى من أضاف إلى تكوينه المعرفي الأكاديمي، والسلوكي، الشيء الكثير، كيف لا وهو يأتي بصفحات تنسدلُ منها أسماء لها كيانها العلمي الرّصين على مستوى العالم أجمع، مثل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (ت 1962م)، الذي ساعده شريعتي في بعض بحوثه لسنتين في بدايات ستينيات القرن الماضي، إذ يقول شريعتي عن ذلك: (هاتان السنتان هما من أكثر حقب حياتي فخراً وسعادة، ولا يمكن نسيانهما. فقد ساهمتُ في إنجاز عمل عظيم مع رجل عظيم. ص 107)، إذ يُبيّن المُقتبس، حجم المحبّة الكبيرة من الطالبِ نحو الأستاذ، محبّة تتجاوز المألوف في مثل العلاقات هذه، إلى نوع من التعلّق الرقراق بين الابن والأب، بين المُريد والعارف، بين الغارف من علوم الغرب وقيمه، وبين الناهل من بهاء الشّرق وفيوضاته. كان شريعتي محبّاً ومتعاطياً لأفكار مفاخر السوربون العلمية، كغوروفيتش ولوفيفر و ج . ب سارتر، لكنّ ماسينيون كان الأجل مكانةً في قلب شريعتي، والأكثر إرواءً لظمأ شريعتي المعرفي.
ولو فتّشنا عن عليّ شريعتي بصفته عالم الاجتماع، تخصصه الذي نال به الدكتوراه من جامعة السوربون، نتصفّح فصل (الناسُ والأقوالُ)، إذ يقسّم شريعتي بحرفةٍ، وحذقٍ، معروفين عنه، المجتمع الإنساني عموماً، وفق أربع فئات، الفئة الأولى تُوصف بأنها ذات مظهر فخم لكن بجوهرٍ خاوٍ نتنٍ، كثيرة الأقوال، قليلة الأفعال، لو فتّشت جيداً في محتواها العميق ستجده مظلماً قذراً. وقد حازت مساحة نصيّة في التصنيفات الأربع للناسِ، هي الأكثر تقريباً من باقي الفئات، الفئة الثانية هم البسطاء الطيبون، إذ وصفهم شريعتي بأنهم كالبستان الشاسع بلا قيود أو حدود تبين نقطة انتهائه، يتيه الشخص في التجوال بينهم، ويقضي سنوات في التعرّف والاستكشاف بينهم: (كأن العُمر ينتهي، ولكن مشاهدة البستان لا تنتهي. كأنه لا نهاية لهذه المتاهات. ص 285). الفئة الثالثة متواضعة الحضور والتأثير، أو ما يمكن التوصيف به أنهم إن جاءوا لا يعدون وإن غابوا لا يفتقدون، وأشار إليهم بوصف عابر لا يستحق المكوث عنده.
الفئة الرابعة والأخيرة هي عن الأصدقاء الجيدين، وقد جاء ترتيبهم في الفئة الأخيرة يبدو لقلّتهم في مشوار عليّ شريعتي وحياته، فهم مخزن الأسرار، مهما بلغت مداها، والمستمعين للرأي والكلام والنقاشات وإن كانوا لا يحبذون الاشتراك فيهِ، لكنهم يستمعون بجدٍ ودفئ لأنهم أصدقاء: (وجود هؤلاء أمثال هؤلاء غنيمة! يا لغنيمة وجودهم. كم الحياة بحاجة إلى وجود أمثالهم. احتياج حيوي! ماذا أقول؟ هؤلاء هم معنى الحياة. إنهم روح "وجود" نا. ص 286).
أمّا رؤاه في الشّعر المكتوب باللغة الفارسيّة فيمرّ شريعتي بإفاضة على الشعراء المدّاحين، وكيف كانوا منذ القدم يَنساقون وراء الأغنياء وأصحاب الجّاهِ والسّعَةِ طلباً للمتع العينية والهبات المالية، مقابل قصيدة مدح فخمة بالعطاء اللغوي، والزخرف البلاغي:
(يا للشاعر المسكين، بعد ارتكابه ربيعية [قصيدة مديح] حسب الطلب، كان يأمل الحصول على صلة ليشتري بها لحماً وخبزاً لعشاء ليلة العيد، ليأكل مع زوجته وأطفاله أو ليدرك حفلة ماجنة مع حبيبته إلى جانب البركة. ص 290)، فيما كان رأيه في الشعر الحر قاسياً، وكلماته على من يتقنون كتابة هذا النوع من الشعر سوطاً جهنّمياً ضرب به مجاميع الشعراء، بقولهِ: (هؤلاء الذين يصنعون من العجز شعراً حرّاً، هم الذين لا يستطيعون حتّى قراءة الشعر القديم، أو لأن بعضهم يترجم الشعر الأوربي غامضاً، وأن هذه الترجمات مزدحمة بالأخطاء وعديمة المعنى. لذلك يظنّون أن كلّ من يقول كلاماً غامضاً ومن دون معنى فإنه أنشد شعراً حراً. ص 292)،
فيما انحازت ذائقتهُ نحو جهة الشّعر الصّوفي؛ نظراً لاتفاقه ورؤاه ورؤياه الجمالية والعرفانية والرّوحية التي تسكنُ فؤاده وتتملكهُ، إذ فيهِ محاورة بين بين النصّ وصاحبه، ومتلقيه، ليمتزجون في حالةٍ من التحليق في مديات سماوية لا حدّ لها، ولا وشائج تولد سوى وشائج الحبّ والتعاطي النبيل للعشق.
أمّا عن رأيهِ في الفنّ أو لنقل فهمه للفنّ بشكلٍ عامٍ فقد ظهره بمفهومه الروحي المتسامي الذي ينبع من ذات شريعتي وينبوعه الأخلاقي المعرفي، كيف لا وهو المتكئ على ميراث شاسع صوفي وعرفاني حيث ابن عربي وملّا صدرا، متنقلاً في روابي شعوره بين الانطباعي والتأملي والمتذوّق الحاذق للفن وتشكيلاته المتنوّعة.
فالفن عنده حاجة، وشوق جمالي غامر إزاء القبح المعنوي والمادي الذي يقع فيه بصره: فـ(الفن – قلم صنع أبناء آدم الذي ألقي به من "الجنة إلى "الأرض" – يسعى في تزيين الأرض القبيحة والكئيبة على شاكلة جنةٍ كانت مكانه اللائق ولا زالت كذلك. ص 326، 327).
وقبيل الاختتام ينبغي الاهتمام والتنبيه بالجهد الواسع الذي بذله مترجم الكتاب حسن الصرّاف في أوّل مشاريعه للترجمة من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية. إذ شخصت ترجمة (الصحراء) للقارئ وهي تنشدُ الجمال، والرصانة، وتبتعدُ عن الرطانة، والتلعثم اللغوي، تقصدُ جمال الفكرة وموطنها, وتبتغي إيصال هدوء شريعتي في صحرائه، وكونية حرفه، وذخائره المعرفية المتنوّعة، في أسلوب ممتع يكاد يخلو من الأخطاء والارتباك الأسلوبي.
إذ ينتقل المترجم الصرّاف في فضاء نصيّ ضيق، أعني بها الهوامش، لكن استغلها أجمل استغلال علمي ممكن، عبر إضافة الإيضاحات، والمعلومات المضيئة للمتن، والتعليقات، والشروحات التي كان يجتهد فيها بشكلٍ علمي رصين؛ من أجل تبيان فكرة المتن وتيسير تلقيها عند القارئ، وتسليط بقعة ضوء على النصوص والأسماء المتضمنة هنا أو هناك.
ختاماً أقول إنّنا ركّزنا على الخطوط العامة للكتاب، وللفصول والأفكار الرئيسة للكتابِ، غير أنّه بالتأكيد في الكتاب فصول أخرى على جانب من الأهميّة، وللمؤلف حالات وأفكار ورؤى معرفية ثرية ومتنوعة أخرى، نتمنى الوقوف عليها في استدراكات علمية قادمة.