القاهرة 18 يوليو 2017 الساعة 10:36 ص
بقلم :شعيب خلف
كتب سمير عبد الفتاح ( ): القصة ، والرواية ، والدراسة الأدبية ، أصدر من قبل ثلاث مجموعات قصصية هي علي الترتيب : سبع وريقات شخصية لعامل التحويلة 1993 / وتطهر الفارس القديم 1996/ وحارس الغيوم 1996 / والمجموعة التي بين أيدينا أخبار سوسو 2007 بالإضافة إلي مشروعين
روائيين وعدد من الدراسات في القصة والرواية .
في مجموعة (أخبار سوسو) نطالع صورة لمجتمع نعيش فيه جميعًا ، كلنا أصحابه ، وكلنا فاعلون فيه ، انجرفنا فيه نحو قيم غريبة علينا ، بل لم تكن في يوم من الأيام ضمن مواريثه المعتادة ، ومبادئ لم تكن أبدًا ضمن تكوينه , إن المجتمع الذي تعيشه المجموعة ، ويعيشه أبطالها أرضية مهمة وصالحة للسرد ، مسرحًا يجول فيه كثير من الرواة منذ فترة طويلة ؛ لكن بالطبع تختلف الرؤي والتوجهات ، يتبعها اختلاف في طريقة التناول والمعالجة من قاص لآخر ومن كاتب لغيره . هنا في هذه المجموعة تطالعنا صورة مجتمع يغيب فيه العدل ، وتسوده الرشوة والمحسوبية ، ويسيطر الفقر علي السواد الأعظم من الناس مما يجعل معظم شخوصه يعيشون حياة شبه مرضية ، يتواري أصحاب الحقوق في المكانة والمنزلة ، ويعلو ويتقدم الهامشيون والمتسلقون . تبدأ أول قصص المجموعة ( شتاء العمر ) بعبارة من إنجيل يوحنا (إذا فسد الملح فبماذا نملح ) وهي عبارة تحمل دلالات متعددة نراها تظهر معنا من خلال القصة التي لا يكتفي المؤلف بفساد الملح فقط ، ولكن فساد الطعام كله . يحكي السارد البطل حياة القهر التي يعيشها ( كنت أصعد السلم الحلزوني المظلم ، إلي غرفتي الصفيحية بالسطح القديم ....متحسسًا ـــــ بحذائي الميري المثقوب ــــــــ درجاته الخشبية المتآكلة ..... علي صدري خبز قديم ، وخضرة ذابلة وفلافل باردة لفت في صفحة قديمة من جريدة أجنبية " ص 5 .هذه حياة الراوي البطل ، وهو فرد لا يجعله القاص يعبر عن نفسه فقط ، أو ينطق بلسانه فقط ؛ بل هو من اختاره ليعبر عن الضمير الجمعي ، السلم الحلزوني له دلالات اللف في دائرة مفرغة ، هذه الدائرة تجعل صاحبها كأنه يمتطي طريقًا لا نهاية له، لأن النظر يكون بالتبادل بين ما انجزه وما بقي له في الاتجاهين الأعلي والأسفل ، في الأعلي ينظر لرهبة الارتفاع وثقله وفي الأسفل لمخافة السقوط وظلمة الرؤية ، ثم يأتي وصف هذا السلم بالمظلم ليضيف كآبة آخري ، تتبعها ثالثة من خلال الغرفة الصفيح بالسطح القديم ، ويتوالي ما يسوقه الراوي من تتابع للكائبة والحزن ، الحذاء الميري المثقوب ، درجات السلم الخشبية المتآكلة ، الخبز القديم ، الخضرة الذابلة ، الفلافل الباردة ، هذا ما جعله يصل إلي النتيجة الطبيعية لهذه الحياة الكئيبة ، يقول " تحصنت ببؤسي .. وبدا لي أن أي سجن حقير قد يكون أجدي وأبقي بعد أن تعادلت كل المشاعر وتخثرت كل الأماني " ص 7 . وما زال السارد البطل يقدم لنا بؤسه وقهره من خلال المكان الذي يعيش فيه ، حين نراه لا يصلح إلا لساكني القبور " رحت أفض القفل البارد وأفتح الباب الكئيب فصدمتني رائحة المقابر " ص 8 . هذه مواريث البطل ، وهذه الحياة التي يحياها ، لن تكون نتيجتها طبيعية ، ولن تكون سوية بأي مقياس من المقايس ، لا أحد يضمن شخصية من يحيا هذه الحياة ، ومن يعش هذه المعيشة . إن هذه الحياة حولته إلي جاحد عاق لأقرب الناس إليه : لأمه وأساتذته ، لأمه أولا التي لم يحضر جنازتها، هذا قطع للجذور ، وتخلص من الأصول ، وبعثرة للمواريث " لماذا لم تحضر دفنتها يا ولدي.... لقد نعتوك بالعقوق والمروق " ص9 ولأساتذته ثانيًا الذين يمثلون طريق التواصل الأبوي المنقطع أساسًا من خلال فعلته السابقة في وفاة أمه ، لقد كانوا يتوسمون فيه الخير لكنه خيب ظن الجميع ، فوقف في وجه أستاذه الذي لجأ إليه حين حار في مكان يبيت فيه ليلته ، وهو في طريقه لمنفاه في الواحات حين قاوم الفساد والكراهية " وحاول أن يدخل غرفتي بعشم لا أحبه فوقفت في طريقه ، وحين ذاك تراجع خطوتين مندهشتين وصاح متعشمًا وهو يحاول الابتسام" ص 8 .
ثم يقدم أستاذه نفسه له قائلاً " أنا عبد المعين، أستاذك في.. ـــــــــــــــ طظ !!" ص 10. إن المدرس في القصة يقف شاهدًا علي مجتمع تركه خلفه، مجتمع ينقسم فيه الناس إلي فقراء معدمين وآخرين متسلقين ، وأصحاب حظوظ، فمرة يقول له واصفًا حال من هم دونه "... ومع ذلك فأنت أفضل حالاً ممن بقي خلف البهائم... يمتصه الفقر ، وتنهشه البلهارسيا" ص 9 وعلي الجانب الآخر تظهر الصورة النمطية للمتسلقين من أصدقائه الذين علمهم أستاذه " ... البنهاوي ؟ !! ــــــــــ زميلك الذي كان يسرق الطباشير والأكل... أصبح وكيلاً لوزارة .... أما فتحي بعرور الذي أكمل الابتدائية بشق الأنفس فقد صار مليونيرًا .. ويسكن في قصر عظيم ..." ص 9 . ثم يقول " الولد المعتوه ابن نبوية هل تعرفه ؟ ... سافر إلي إسرائيل !!!ــــــــ إسرائيل ؟ ـــــــــــ نعم وبعث لأمه نقودًا ممنوعة من الصرف ...." ص 10 .
في قصة (هب ) يمهد للقصة بعبارة جلال الدين الرومي ( المرء مع من لا يفهمه سجين ) وهي تقدم لنا جانبًا كبيرًا من المعني الذي تحكيه القصة وتذهب إليه، وامتدادًا للصورة السابقة التي جمعت أشكالاً لطوائف مقهورة ، صورة لشخوص يعيشون الفقر والقهر، ويحيون في مفترق الطرق ، يعيشون الأوهام والخيالات المريضة. إن قصة (هب ) يحمل موضوعها الرئيس ما يتمناه كثير من الناس في أيام قل فيها الطموح ، وتمني الناس الأماني ، فالميراث الشعبي يضع (اللقطة ) دائمًا في مخيلته خاصة في أوقات ضيق الحال ومحبة التواكل ، وهذا ما قدمته القصة " علي مفترق طرق وقف رجلان بثياب رثة وهما يتضوران جوعًا وعطشًا ، ولم يكن في جيبهما ما يشتري خردلة حين صاح أحدهما فجأة : تري ماذا نفعل لو وجدنا ألفي جنيه تحت سيارة ؟ " ص 15 . كثير منا تمني أن يمضي في طريقه فيجد مالاً كثيرًا أو قليلاً ملقي أمامه ولا يجد له صاحبًا وحتى لو وجد !! طالما تمناه... فنادرًا ما يعود به إلي صاحبه . فكلاهما يضع إجابة للسؤال دون أن يكون ضمن هذه الإجابات: نبحث لهذا المال عن صاحب، الأمر الذي وصل بهما للاقتتال" أنت تجبرني علي ضربك !، وأنت تدعوني لقتلك !!" ص 19. وتنتهي القصة بسؤال جديد بعد ما جرته إجابة الطرفين للسؤال السابق من متاعب علي أصحابها. " هب أننا لم نجد أي نقود ؟!" فهمس الثاني وهو يشعر بنفس الخجل . – ما كانت داست علي يدك سيارة – ولا فقدت نصلي . – ولا نزلنا المجاري . – ولا دخلنا المطعم – ولا تورمت عيني – أه يا عيني...أه يا عيني !" ص19 .
في قصة ( النافذة ) يستمر المؤلف في عرض شخوصه المقهورين الذين يعيشون علي هامش الحياة، يغتصبون فيسكتون، يسلب أعز ما لديهم فلا يتحركون، ماذا يبقي حين تغتصب الكرامة والعزة " حين فتحت باب شقتي، وجدته أمامي ! يلبس (بيجامتي) الجديدة (وشبشبي) الذي هربته من بورسعيد قبل أن يصيبني المرض ، فيما تمددت زوجتي بقميصها الشفاف علي الأريكة ...وكدت أسأله عن اسمه وسبب وجوده في شقتي ، لكنه أشارـــــــــــ وهو ما يزال يضع ساقًا علي آخري ــــــــ أن أسكت فسكت " ص 21 ربما نقرأ صور القهر السابقة ، فتمر علينا دون أن نتقزز أو ننتفض لأننا تعودناها بيننا ، نعيشها ونراها أمام عيوننا ، أما أن يصل الأمر لاغتصاب العزة والكرامة ، ويغلف الأمر بالمرارة ، لأن هذا الاغتصاب والسلب كان لزوجته يد فيه ، فهي التي جلبت صديقها الجديد حينما فقد الأول صلاحيته " .. تفضلت زوجتي فأخبرتني إنه صديقها الجديد بعد أن فقدت صلاحيتي ، ولم يعد لدي ما أعطيه لأي امرأة " ص 22 . هل هو التغير الذي أصابنا ، أصاب أخلاقنا وكرامتنا ونخوتنا ، هل هي الثقافة الوافدة التي ينبه إليها القاص ، والتي غزانا بها إعلام الحداثة وما بعدها الذي زلزل قيمنا ومجتمعنا ، والمصيبة الكبرى أن الصمت هو رد الفعل الطبيعي لما يحدث " سمعته يبصق باتجاهي وشعرت برزاز بصقته علي وجهي " ص 22. لقد ورث صاحبنا الجديد المكان وما حوي ، والعقل وما وعي ، والوعي وما احتوي ، وترك للساكتين الندم ، وللصامتين وجوم الصنم " قال ورثنا زوجتك ... وشقتك بعفشها القديم ... مبسوط ! قلت في نفسي أستاهل !!"ص 23. ويأتي الحوار عن الديمقراطية التي نري حديثًا مطولاً عنها في قصة (الدرس الثاني ) " ألم تسمع عن الديمقراطية ؟ قلت أسمع... ولكن ما قيمة السمع لمن يعيش بين المواشي ؟ ضحك واستحسن بلاغتي " ص 26 .
في قصة (الدرس الثاني) نتابع التسلق و(الفهلوة ) وعددًا من سمات دخيلة والتي أصبحت سمات أساسية في المجتمع الحديث ، والذي يتواري خلفه أصحاب الحقوق بادئاً الكلام عن الديمقراطية " لم نكن نحب الديمقراطية ، أو نصغ لها سمعًا إذ كنا نظنها نوعًا من أنواع المشروبات الروحية ، بل إن بعضنا كان يخاف حتي من مجرد ذكرها " ص 37. ويمتد الأمر من خلال ما يعرضه من سمات عمت المجتمع في الفترة الأخيرة تحمل مع الديمقراطية عددًا كبيرًا من المفارقات " غير أن هذا كان يضايق مدير مدرستنا الذي رسب عدة مرات حتي حصل علي الثانوية ، ثم توقف عن التعلم ليعمل بالتعليم ، ويعلم من لا يعلم بعض ما يعلم ... استطاع أن يضع قدميه في التعليم الأساسي ، وبالوشاية والفطير المشلتت استطاع أن ينتقل للإعدادي ، وبالبرود والقصور الذاتي استطاع أن يصبح رئيسًا علي غيره " ص37 . ثم أفرد لها كلامًا كثيرًا علي لسان الطلبة والأساتذة من خلال عرض ساخر. إن موضوع الديمقراطية هو موضوع القصة الرئيس يتحدث فيه عن تعريفها والكلام عنها ، يصرح بلهجة خطابية أحيانًا كما يقول " إنه من الديمقراطية أن نستمع قبل أن نتكلم ، وأن ما قد نراه صواباً محضًا قديكون خطأ فادحًا"
ص 40 ، ثم يصنع (ديالوجًا) بين المدير والتلاميذ يسأل الأول عنها فيجيب : لذيذة ، فيجيبه أنا لا أسألك عن حلوي ، بطريقة ساخرة ، فيسأل الثاني بعد ذلك " .. ـــــــــ وأنت.. هل أنت ديمقراطي ؟! ــــــ لا يا أستاذ . ــــــــ جميل... ما رأيك إذن في الديمقراطية ؟ قل رأيك بصراحة ؟! ـــــ رأيي أنها مسلية ـــــــــــ مسلية ؟! نعم لأنها لا تؤذينا ... وتجعلنا نتشاقي ... ونشد الحبل ّ! ــــــــ الحبل ؟!ــــــــــــ وأحيانا تجعلنا نلعب "النطة " !، وليس بخاف علي أحد هذا الحوار وما يحويه ، ويشتمل عليه من سخرية في الحديث عن الديمقراطية ككلمة، وفكر، وتطبيق ، وأيدلوجيا مطاطة تحوي تحتها الكثير، ويخبئ في جيوبها الصكوك الجاهزة والإجابات المقنعة ، أما وضع المفردة في السرد بهذا الشكل بين مدير المدرسة والطلاب خصوصًا حين وضع في مقام سخرية هو وسؤاله ، فإن المعالجة السردية ربما لم تكن موفقة خاصة بعد أن طال الحوار وأصبح السؤال والجواب تقريريًا.
في قصة (القارب الأخير) يتحدث القاص علي لسان الراوي البطل عن حكاية مدرس الألعاب الذي يسوق تلامذته كالأغنام ، وما مدرس الألعاب إلا صورة لكل قائد يقود ، وكل سائق يسوق ، والأمر ذاته مع وظيفته التي تتحول من مادة لبناء العقول والأجسام إلي مادة للتظاهر والخيلاء" والأستاذ بسيوني مدرس الألعاب الذي لم يكن يعلمنا سوي عجين الفلاحة ولا يقودنا إلا بكرباج من سعف النخيل ويطيب له عند كل مفترق أن يوقفنا صارخًا متوعدًا ... فنتدافع ونتصادم كالعنزات الشاردة " ص82 . ثم يقول علي هذا المدرس الذي يقود والتلاميذ ضحاياه " فقد نجح الرجل في أن يضعنا في منطقة رمادية كاملة الفتور والحياد لا نملك فيها أن نحبه أو نكرهه " ص 82 ، إن الراوي هنا رجل حيادي هو الآخر لم يستطع أن يأخذ رأيًا قاطعًا هو وأصحابه عن مدرس الألعاب . وهل بعد كل هذا لا نملك أن نحبه أو نكرهه " ولو سألنا أحد ـــــــ والحال هذه ـــــــــ لماذا لم تقتلوه ؟ أو ترموه من أي قطار، أو في أي ترعة ؟ لما وجدنا أي إجابة يمكن اعتمادها " ص82.