القاهرة 11 يوليو 2017 الساعة 12:28 م
إن كتاب المنصفات في الشعر العربي من الجاهلية إلى نهاية العصر الأموي، للباحث أحمد فرحات ، يثير العديد من التساؤلات حول الشعر العربي وقضاياه ، ومضمون الكتاب ينير جوانب تثرى تاريخ العرب وأخلاقهم، تتيح لنا أن نراجع كثيرا من المسلَّمات الشائعة؛ فها هم أولاء في "شعر المنصفات" يقفون موقفا نبيلا نادرا؛ فكما لم تمنع الهزيمة من الإقرار بالنصر للمنتصر – لم يمنع النصر كذلك صاحبه من الإقرار للمنهزم بالندية والبطولة!
وحسب هذا الكتاب أنه فتح نوافذ عديدة يطل منها الدارسون على التراث فيضيئون جوانبه، ويعيدون تقويمه من خلال المناهج النقدية الحديثة التي ترى أن "القدم والحداثة مقولة زمنية وليست مقولة فنية" وحينئذ سيجدون فيه جذورا"حداثية" راسخة تخصب الدراسات النقدية وتصبح دعائم قوية ينهض فوقها الدرس الحديث، ومن ثم يحق لنا أن نستشرف المستقبل المزدهر الذي نحلم به للدرس الأدبي تحت شعار"حداثة المحافظة وأصالة التجديد"
شعر المنصفات لون من ألوان الشعر العربي، نما وازدهر في حضن بيئة الحرب التي اتسم بها شعرنا القديم، والحرب إذا حميت أظهرت أبطالا في الفريقين، المنهزمين أو المنتصرين، ولا يعني انتصار فريق على الآخر أن الآخر لم يكن شجاعا، أو لم يكن بطلا بالمفهوم الصحيح للبطولة، فما النصر أو الهزيمة إلا ميدان للتنافس بين الفرسان، وعلى ذلك عرف أدبنا العربي القديم لونا من ألوان الشعر الإنساني الراقي، فمن حقه، وحق أبنائه أن يتباهوا به الآن، خاصة في عصر اتسم بما يعرف عنه بصراع الحضارات.
فإذا كانت آداب الأمم الغربية تزهو بأدبها وتسمه بالإنساني، والراقي، فمن حقنا أيضا أن نفخر بأدبنا ونجله، ونضعه في المقام الذي يستحقه.
يشير المستشرق الإسباني "هنري بيريس" إلى أن الأدب المشرقي يخلو تماما من الأفكار الإنسانية الراقية كالتي يتميز بها أدب الغرب، وهذه الفكرة نفسها نجدها عند "تيرنس"، وهو كاتب لاتيني من القرن الثاني قبل الميلاد(). وفي هذه الإشارة إجحاف لأدب المشرق العربي؛ فالشعر الجاهلي زاخر بنماذج من الأدب الإنساني الفريد، فما بالنا بالشعر العربي كله؟! وشعر المنصفات في الجاهلية يرد على إدعاءات المستشرقين وأكاذيبهم، ولهذا السبب أردت أن أدرس ضربا من ضروب الشعر الإنساني الراقي، الزاخر بالكثير من المثل العليا، لم يقصد قائلوها من ورائها تفاخرا أو محاولة لإثبات شجاعتهم، وإنما هو تقدير لمفهوم الشجاعة، وإعجاب بهذه الصفة النبيلة كما يقول د. أحمد الحوفي().
وتكمن أهمية موضوع المنصفات في أمرين: الأول: أن لهذا الموضوع قيمة تاريخية وأدبية عظيمة؛ لأن قصائده ترجع إلى عصر من أزهى عصور الأدب العربي، ويكشف تحليل هذه القصائد عن قيمة أدبية زاخرة بعناصر الإبداع الفني، وتفرد ملامحه وخصوصيته. الثاني: حاجة مكتبة الدراسات الأدبية إلى دراسات جادة حول هذا الموضوع، فعلى الرغم من أهميته لم أعثر على كتاب مستقل يتناول دراسة هذه الظاهرة، ومعظم ما قرأته عنه إشارات وتعليقات ومقالات قصيرة غير شاملة لدراسة جوانب الموضوع المختلفة.
وجاء الفصل الأول بمثابة التأسيس للدراسة؛ فتناولت شعر المنصفات في الجاهلية والإسلام؛ بداية من العصر الجاهلي، ومرورا بصدر الإسلام، حتى وصلت إلى العصر الأموي.
وجاء الفصل الثاني تحت عنوان: هيكل القصيدة المنصفة؛ وبناؤها الفني؛ وفيه تحدثت عن القصائد ذات المقدمة الطللية والغزلية، والقصائد البتراء، وحسن التخلص من غرض إلى آخر، واختتمته بدراسة عن مراحل ختام القصيدة المنصفة.
أما الفصل الثالث فجاء تحت عنوان: اللغة والأسلوب متضمنا لغة القصيدة المنصفة، وبعض الأساليب ذات الأثر الفاعل في تكوين هذه اللغة، واختتمته بالمعجم الشعري الخاص بالقصيدة المنصفة.
وفي الفصل الرابع تناولت تشكيل المعنى الشعري بواسطة التشكيل الزماني للقصيدة المنصفة، بدءا من الوزن والقافية حتى التصريع والترديد والتضمين ورد الأعجاز على الصدور.
وفي الفصل الخامس تناولت تشكيل المعنى الشعري بواسطة التشكيل المكاني للقصيدة المنصفة، واحتوى هذا الفصل على الصورة العقلية والمباشرة، وخصائص الصورة الشعرية الإيحايئة والواقعية والقصصية والحركية، واختتمته بدراسة عن مصادرالصورة.
واختتمت البحث بخاتمة لخصت فيها ما تم إنجازه، واستخلصت أبرز التوصيات وأهم منجزات البحث..الخاتمة
بعد كتابة هذه السطور عن شعر المنصفات يجدر بنا أن نعيد النظر في دراسة مفهوم كلمة الجاهلية، ففي الغالب تفسر كلمة جاهلية بأنها الجهل الذي هو ضد الحلم، وليس الجهل الذي هو ضد العلم، والجاهلية تعني السفه والغضب والنزق().
وبعد أن أثبتت الدراسة أن العرب تمتعوا بخلق الإنصاف، في حال الانتصار والهزيمة وتكافؤ الأقران، حتى الإنصاف الأدبي الذي كان يقف فيه الشاعر موقفا نبيلا مع أصدقائه وإخوانه. ولم تمنع الهزيمة من الإقرار للمنتصر بالنصر، وبأنه كان أقوى وأشجع. ولم يمنع النصر من الإقرار للمنهزم بأنه كان ندا وبطلا وشجاعا، مع التسليم بكل ذلك فإن الدراسة تدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الجاهلية، وأن الجهل لم يكن عن سفه وغضب ونزق.
موضوع الرسالة ذو قيمة أدبية وتاريخية، ويسد فراغا في مكتبة الدراسات الأدبية، ويرد على اتهام الأدب العربي بخلوه من القيم الإنسانية الرفيعة.
وقد أشارت الرسالة إلى الدراسات السابقة في الموضوع وأشادت بمعظمها، وحاولت جادة استكمال واستدراك ما فات تلك الدراسات من "منصفات" تفرد بها الباحث.
هذه فائدة، ومن جهة أخرى وضعت الدراسة شعر المنصفات جنبا إلى جنب مع شعر المجمهرات، والمعلقات، والمشوبات، والمذهبات، والمنافرات، والملحمات. وعرّفت بأبرز شعراء المنصفات من أمثال: عبد الشارق بن عبد العزى، والمُفَضّل النُّكْرِيّ ، وعَوف بن الأحْوَص، وعمرو بن قَمَيئَة ، و خِدَاشُ بن زُهَير، والعُدَيل بن الفَرْخ، وامْرُؤ القَيس السكوني، و أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت ، وأوس بن حَجَر، وغيرهم مما ورد في الدراسة؛ باعتبار أن"المبدع/القائل أحد الأطراف الأساسية في تحديد دلالة المقول، حيث يشكل-مع المخاطب، والحقائق التي تتعلق بذكرها الغرض، والعلامة اللغوية الوسيطة-جهات تلك الدلالة"().
استطعت أن أحدد خصائص هذا الشعر وصفاته ومعناه من خلال النص الأدبي نفسه، كما كشف تحليل النصوص الأدبية وتقويمها عن بيان وتحديد مصطلح "المنصفات". وكأن المعول عليه في بيان شعر المنصفات هو النصوص الأدبية نفسها. وهذه نتيجة علمية، وفائدة مهمة.
كما قدمت الدراسة ملحقا خاصا بشعر المنصفات، وهو كثير، واكتفيت بما ذكرت لعدم الإطالة. وهو شعر له طبيعة خاصة ومميزة عن غيره من الشعر الذي درسناه وندرسه، إذ من غير المفيد أن يدرس المعلقات آلاف الدارسين، منذ القدم حتى الآن، ويغضون الطرف -عن قصد أو غير قصد-عن لون من الشعر كل ذنبه أنه ظل مغمورا في بطون الكتب، ولم يجد من ينفض عنه غبار السنين، ويعمل على إبرازه لدى المتلقي. إن المتلقي الذي تلقى شعر عنترة والأعشى ولبيد وطرفة وامرئ القيس بن حجر بشيء من الإكبار لخليق به أن يقبل شعر امرئ القيس السكوني و المُفَضّل النُّكْرِيّ وعبد الشارق بن عبد العُزَّى والعَبّاس بن مِرْدَاس والعًدَيل بن الفَرْخ.
إن نظرة فاحصة في كتب من يدرسون الأدب الجاهلي لتكاد تخلو من دراسة باب أو حتى فصل يختص بشعر المنصفات على أهميته التي ذكرناها، على حين أن جميع الدراسات تكاد تجمع على دراسة شعر الصعاليك، وشعر المنصفات كشعر الصعاليك في الأهمية والأحقية بالدراسة. كلاهما ضرب من ضروب الشعر يبحر عكس التيار.
لا أزعم أن الدراسة الفنية هي ميزة هذا البحث، بل من المؤكد أن يدرس هذا الشعر من هو أفضل مني، لكني أقولها -بقلب صادق- لقد بذلت جهدا مضنيا في الحصول على المادة، حتى تمكنت من جمع كمٍّ كبيرٍ من هذا الشعر، وكنت أنوي تحقيقه، ولكن ذلك سيخرج بي عن نطاق الخطة المرسومة لهذا البحث. واكتفيت بجمعه والإشارة إلى جهود السابقين.
ولا أزعم أيضا أني جمعت كل شعر المنصفات، بل مازال هناك الكثير منه، لعل باحثا يضيف جديدا في هذا المجال. ومع هذا فقد درست شعر المنصفات دراسة فنية، بدأتها بهيكل القصيدة المنصفة، وبنائها الفني، وتجلى البحث في دراسة ثلاثة أشكال من القصائد: نوع اختص بالقصيدة البتراء، ونوع اختص بالقصيدة ذات المقدمة الغزلية وآخر اختص بدراسة القصيدة ذات المقدمة الطللية، وفرقت بين النوعين، كما درست خواتيم القصيدة المنصفة، وحالاتها المختلفة، وأثر ذلك في هيكل القصيدة المنصفة.
وفي فصل آخر تناولت اللغة والأسلوب في القصيدة المنصفة، وتجلت في دراسة اللغة الولوج إلى المعجم الشعري، وأهم ما يميزه. وعناصر تشكيله اللغويه. كما درست أسلوب التقابل، وأسلوب الشرط، كأسلوبين مميزين في نطاق القصيدة المنصفة.
وفي الفصلين الأخيرين تناولت تشكيل المعنى الشعري عن طريق التشكيل الزماني والمكاني للقصيدة المنصفة، حيث تناولت التشكيل الموسيقي من خلال دراسة الوزن والقافية، كمعلمين من معالم موسيقا الإطار، وتناولت دراسة التدوير والتضمين ورد الأعجاز على الصدور والتصريع كملامح مميزة لموسيقا الحشو. كما تناولت الصورة الشعرية وأنواعها العقلية والمباشرة ، وخصائص هذه الصورة الإيحائية والواقعية والحركية والقصصية()، كما درست أيضا مصادر الصورة الشعرية في شعر المنصفات.
(4)كلاسيكيات الشعر العربي. المعلقات العشر. دراسة في التشكيل والتأول. د. صلاح رزق. دار غريب للطباعة والنشر. 2009م.1/515.
(5)لصاحب هذه السطور دراسة منشورة في مجلة الآطام. بالمدينة المنورة. العدد 31 لسنة 2007م. حول هذه القضية . وانظر كذلك رسالتي للماجستير بكلية دار العلوم. جامعة القاهرة. 2006م.