القاهرة 04 يوليو 2017 الساعة 10:37 ص
إن الاشتغال على التاريخ في الدراما التلفزيونية ليس حديثًا، لكنه حيلة فنية يلجأ إليها كُتاب الدراما لتحميلها ما يريدون من رؤى ووجهات نظر يسعون لتوصيلها عبر العمل الدرامي، وتشهد ساحة العمل الدرامي التلفزيوني وجودا مكثفا للأعمال التي تعتمد في بنيتها الفنية على التاريخ؛ في محاولة للإسقاط الفني على الواقع الاجتماعي والسياسي. والدراما تقوم على مبدأ إعادة صياغة الفعل والحدث التاريخي في بناء جمالي؛ يتأسس داخل السياق الاجتماعي القائم، ويستهدف التأثير في المجتمع الحي، فيخاطب جمهوراً يعرفه ويكون حاضراً في هذا البناء الجمالي بزمنه وقيمه.
وقد اهتمت الدراما التلفزيونية منذ عقود بإعادة صياغة التاريخ، لكن هذا الاهتمام لم يقتصر على تقديم التاريخ كما هو، وكأن كاتب السيناريو التلفزيوني يحل محل المؤرخ، فيؤرخ للأحداث أو يبحث في أسباب حدوثها وعلاتها، بل يجب أن يعي صُنَّاع العمل الفني أنهم يقدمون عملا فنياً يتكئ على التاريخ، ليقدم رؤيته الخاصة لهذا التاريخ، كذلك يقدم في الوقت ذاته رؤيته للحاضر الراهن، فالتاريخ ليس زمنًا مضى وانتهى، بل هو عائش فينا، وقابع في هويتنا.
ولعل ما أثاره مسلسل"الجماعة 2" للسيناريست وحيد حامد أعاد طرح الأسئلة مجددا عن مدى مشروعية أن يكتب المؤلف نصا يتكئ على التاريخ ولا يحاسب كوثيقة تاريخية، ويطالب بمدى مصداقيته في وصف أحداث قرّت تاريخيا أصبحت جزءا من تاريخ وماضي أمة من الأمم. فإلى أي مدى يكون من
حق المبدع أن يعيد كتابة التاريخ وفق رؤاه الخاصة وأيديولوجياته الفكرية؟ .
أثار هذا المسلسل سخط وغضب اتجاهات فكرية ثلاثة قلما تتفق فيما بينها على قضية من القضايا !! لقد أثار تحفظ الناصريين والوفديين والإخوان المسلمين، لما طرحه من رؤى ومواقف لجمال عبد الناصر وعلاقته الملتبسة بالإخوان المسلمين وسيد قطب والهضيبي والنحاس باشا وعلاقته بالملك والسؤال الذي يطرح نفسه كيف لكل هؤلاء أن يجتمعوا على رفض سيناريو صرّح كاتبه أنه اعتمد على العشرات من الكتب والمراجع التاريخية ليوثق ما جاء به من أحداث ومواقف نسبها إلى شخصيات تاريخية لها تاريخ معروف ومكتوب، ليس في كتابات المؤرخين فقط، بل في كتابات وشهادات وسير ذاتية لأشخاص عاصروا هذه الأحداث وكتبوا علاقتهم بها، وصوروا بأقلامهم صورا ذهنية عن أصحابها؟!.
تابعت المسلسل وأنا كلي حيرة وتعجب، أخذت أحلل الخطاب الثقافي الذي يريد وحيد حامد أن يرسله عبر رسائل مختلفة، في الجزء الأول كان الخطاب واضحا، كان يحاول أن يكشف عن تاريخ العنف الذي شاب حركة الإخوان المسلمين، والاغتيالات التي قاموا بها قبل ثورة 1952، وكيف تبرأ منهم حسن البنا نفسه" ليسوا إخوانا ولا مسلمين"، ولم يُثر الجزء الأول جدلا واسعا مثل الجزء الثاني، ربما لأنه لم يخرج عن المألوف والمعروف عن تاريخ نشأة الإخوان وعلاقتهم بالإنجليز والملك فاروق، وكان مفهوما طبعا، لأن وحيد حامد الليبرالي من المتوقع منه أن يكتب عن الإخوان من زاوية رؤية تدينهم وتدين تاريخهم السري، لكن الجزء الثاني كان الأكثر جدا، فتحليل خطاب المسلسل يكشف عن رغبة واضحة في تشويه عبد الناصر، وربما يكون هذا مفهوما لو عرفنا أن وحيد حامد كان ساداتي الهوى، يكره كل ما هو ناصري، فإضافة إلى رفضه لخطاب الإخوان وكراهيته الواضحة لهم، كذلك الأمر بالنسبة لرموز ثورة يوليو، فلم يسلم من تشويهه لا ناصر ولا نجيب ولا النحاس باشا، إضافة إلى أنه اعتمد على مراجع تاريخي معروف بانتمائه للإخوان المسلمين وهو ما اتضح من الإدانة الشديدة لنظام عبد الناصر التي وصلت إلى حد التجني أحيانا، فلم يعرف يوما عن عبد الناصر أنه كان ضعيف الشخصية أو منسحقا أمام أحد أيا كان، فما بالنا بشخصية مثل شخصية سيد قطب، لقد تعمد وحيد حامد أن يظهر جمال عبد الناصر خانعا مستسلما منهزما أمام سطوة سيد قطب وهو ما ينافي كل ما ورد عن الرجلين في مذكرات كل الذين اقتربوا من مجلس قيادة الثورة ومن جمال عبد الناصر.
هذا عن الخطاب الثقافي الذي يقدمه المسلسل، أما عن الخطاب الجمالي، فأتصور من قراءة الصورة في العمل والاستماع إلى الجمل الحوارية أن العمل أقل فنيا وجماليا من الجزء الأول من ناحية ومن أعمال أخرى تركت صدى كبيرا من ناحية أخرى، فالرؤية الإخراجية لم تكن على المستوى المطلوب. لم يقدم شريف البنداري رؤية بصرية وإخراجية تتمايز أو حتى تتشابه مع الجزء الأول الذي أخرجه محمد يس، فأداء الممثلين المبالغ فيه، والجمل الحوارية التي كانت تطول حتى تصل إلى درجة الخطابة المنبرية إضافة إلى أن الممثل محمد فهيم الذي قام بدور سيد قطب لم يكن يمثل، إنما كان يحاكي ويقلد ويتقمص شخصية سيد قطب وهو أقل درجات التمثيل فنية، فليس مطلوبا من الممثل أن يكون الشخصية، بل أن يصور لنا الضخصية بطريقته وأدائه هو، فيترك بصمة خاصة تميزه عن فنان آخر يؤدي ذات الشخصية في عمل آخر مثلا.
كما أن الموسيقى التصويرية لم يكن لها دور حقيقي في تجسيد الصراع الداخلي للشخصيات، بل كانت مجرد خلفية لم تضف الكثير للعمل.