القاهرة 27 يونيو 2017 الساعة 06:56 م
محسن يونس
الدور كان يسمح له بارتداء لبسه العادى قميص وسويتر فوقه ، وبنطال ولا شىءآخر لتسريحة شعره أو لازمة معينة فى الحديث ، إلا أنه اقترح على المخرج أن تكونطريقة كلامه بها شىء من التلعثم أو ما يسمى عسر الكلام ، يمكن أن تضاف لحالة هذاالشاب الطيب رقيق الحال الذى يلجأ للعمل كالمرمطون لدى هذا الباشا صاحب الأصولالتركية القديمة ، يضاف إلى ذلك بالطبع وبشكل عام أن تكون الملابس التى يرتديهاتشى بطبقة دنيا ينتمى إليها الشاب رغم التحاقة بإحدى الكليات فى جامعة من جامعات العاصمة، لا شىء فى الورق المكتوب يقول باسمه أو بلد منشأه ، لأنه يبدو ألا أهمية لمثلهذه المعلومات داخل مشاهده التى سوف يؤديها أمام ممثل كبير السن ، معروف بأداءأدوار البشوات عامة، وعلية القوم خاصة لو كانت محتوية على كم من التسلط والاعتدادبالرأى ، أو ما يسمى صلابة الدماغ ، ويبدو أن تناول هؤلاء الأفراد بانتمائهم يتجاوز تشخيص عصبيتهم على أنها مجرد تجاوزاتفردية هنا وهناك ، بل إن المسألة تعكس خللاً منهجياً ، يصل لحد الطبع الذى يجرىمجرى الدم فى عروقهم ، كان هذا ما تناوله من وجهة نظره مع المخرج فأقره عليها ، أماكاتب المشاهد فانتابته الشكوك تجاه هذا الفهم ، ولكنه كان منصاعا ، فلم يرفضه رفضاقاطعا ، وأراد ألا يبدو خاويا فقال إنه لا ينكر أن بعضهم كائنات جوفاء ، ممتلئة منالداخل بالفراغ ، لا يتوقفون عن الحديث والحركة للفت الأنظار ، يريدون القول بأنهمموجودون فإن اقتربت منهم، وتفاعلت معهم وجدتهم فراغ كما قلت ، وبعضهم لا بأس به منالدفء الإنساني والثراء الروحى ، المخرج قال له بشكل قاطع وعدائى إنه قدم الورقالمكتوب ، وبهذا وصل إلى نهاية السباق ، وأن هؤلاء البعض الذى يعبر عنه الباشاالعثمانلى فى الورق بقايا البقايا مازال موجودا ، والتفت إلى فريق العمل ، وصرخ :أكشن أى بداية تصوير المشهد ووقائعه ، حيث كان الشاب فى هذه الليلة يسأل الباشا ،بتبسط على غير العادة ، ربما يكون الباشا هو من أغوى الشاب بهذا السلوك لغرض فىنفسه ، لأنه على غير مثال سابق شرب شايا من كنكة الشاب ، ولامست شفتاه كوبا زجاجيارخيصا يملكه الشاب هكذا دون التأفف وإعلان قرفه من استعمال حاجات الغير ، وهذاالغير أدنى مرتبة فى السلم الاجتماعى والثروة والجاه ، خاصة أن هذا الشاب حديث عهدبمعرفته ، فهو يعمل عنده شهور الصيف ، ويمكن أن تمتد إلى شهور دراسته حيث يمر عليهكل يوم ساعة يؤمر فيها بقضاء بعض الأمور ، الراتب صحيح على القد ، ولكنه يفىبمتطلبات واحد مثله ، يأتى سؤال الشاب عفو الخاطر، ولكنه فى تلعثمه يشى بخوف منجرأته غير الطبيعية والمجهود الكبير الذى يبذله ليتجاوزهذا الخوف ، هو فى أوقاتأخرى لم يكن يجرؤ على طرحه ، و الباشا أيضا لم يكن يسمح له : " ماذا تحب ياباشا؟ " فعقد الباشا وجهه كطبيعةصارت طبيعية ورد : " أنا لا أحب ، أنا الذى أُحب .. أنا باشا عثمانلى ولد"
هرش الشاب شحمة أذنه وقال له :" مفهوم يا باشا لكن ألا تحب إطلاقا ؟! "
تلمع عينا الباشا بعد أن فكر لحظة: " أحب سيارتى البلايموث ، والسهرة فى الكلوب مع أصحابى ، ولعب البريدج .."
تساءل الشاب : " البريدج ؟ "
أزال الباشا بعض الغبار المتوهم من فوق أحد كتفيه : " نعم هي لعبةُورقٍ كلاسيكيَّة يا جاهل ، عن طريق أربعةِ أشخاصٍ ، كلُّ زوجٍ ضدُّ الآخر باثنتينوخمسين بطاقةَ لعبٍ ، البريدج لعبة الأذكياء والصفوة "
كان رد الشاب على حسب فهمه فقال : " آه الكوتشينة ؟ "
قابل صياحه الغاضب بابتسامة ملفتا وجهه حتى لا يراها فيزيد غضبه: "كوتش فى عينك ولد جاهل ، هذه لعبة الطبقات الشعبية والعاطلين والحرامية "
" مقبولة منك يا باشا ، لكن الصور المرسومة على الورق كثيرة وغريبة؟!"
بطريقته العنجهية ، وإشارة الإصبع السبابة : " اسمع ولد أنا أتبسط معكأنا عندى أرق ، والنوم يجافينى ، المهم ولد الصور أصلها ملوك وملكات وفرسان منثقافات القرون الوسطى ، لكن فيه ولد نظرية ثانية تقول إن الإثنى عشر ترمز للإثنىعشر رمز للزودياك ، فهمت ولد ؟ "
قلب الشاب راحتيه ، دون افتعالوبشكل لا يفهم منه غباء أو قلة علم الباشا : " لم أفهم يا باشا كلمة الودياك.."
صاح بغضب شديد : " ولد جاهل ،الزودياك هو دائرة الأبراج ، أو الإثنا عشر شهرا من السنة ، الأربع علامات ترمزإلى الأربعة فصول من السنة ، والاثنان والخمسون ورقة لعب ترمز إلى الاثنين و الخمسينأسبوعاً فى السنة ولد ، و ثلاث عشرة ورقة لعب فى كل نوع ترمز إلى الثلاثة عشرأسبوع ، التى تكون كل فصل من فصول السنة ، أتعبتنى ولد ، هل فهمت ؟ "
" فهمت باشا ، لكن كيف عرفناها ؟ "
حدج الباشا الشاب ماطا شفته السفلية أولا ، ثم اضطر أن يشرح أمام هذا الجهلبشىء يتصل بتاريخ عائلته فقال : " من ولد عرفها ؟ تقصد من ولد ؟ نحن الباشواتنعرفها ، أنت وأهلك لا تعرفونها "
قال الشاب بتسليم : " مضبوط باشا لكن أنا أسأل عن وجودها هنا فى البلد"
رفع يده عاليا ولوح بها كأنه يهش شيئا مر أمام وجهه وقال : " أجانبولد لعبوا الهوست فى مصر فى البداية أيام الحملة الفرنساوية ، لكن الاحتلالالإنجليزى أدخل البريدج الحديث، تعلم جدودى اللعبة على أيديهم ، تعرف إن العائلةالكريمة خاصتنا عثمانلى كانوا هنا فى البلد "
" أعرف يا باشا وهل هذه لا يعرفها أحد ؟ "
" خدموا الخلافة والباب العالى ، قواد جيش ، محتسبون ، المحتسب مهنةعال ولد ، لنا أطيان ، أبعديات ، هوووه ، هووووه .. "
إجابة الشاب بها بعض المكر ، وفى هذا يحافظ على تلك المسافة التى يطلبهاالباشا مهما تبسط : " مضبوط يا باشا كل هذا معروف ، مع أن بعضهم يقول إن آفةحارتنا النسيان "
سعل الباشا ثم أبدى تبرما وغيظا ، زنات ناموسة ظلت تحوم حول رأس الباشاوضايقته ، صفعها فجأة وأخطأ ، تلقى قفاه نتيجة الخطأ ، ضحك الشاب رغما عنه ، فتلقيعقابه فورا، ضربة على صدره ، وأمرا بألا يضحك فى حضرته ،إلى جانب التقريع بقولحامض مهلهل من كثرة الاستعمال ، أدلى به الباشا بلهجة جادة : " ولد .. الضحكمن غير سبب قلة أدب "
كانت الجنينة خلفهما يحط عليهاالليل ، وظهرت أشجارها كأشباح سوداء ، صليل الكأس عند اصطدامه بزجاجة البيرة ،إشارة بأنها أصبحت فارغة ، هذه الحركة تنبيها بلا كلام يجعل الشاب يقوم على خدمتهدون تلكؤ ، أخرج بسرعة زجاجة أخرى ممتلئة بسائلها ، وغطي جردل الصاج الممتلئ بقطعكبيرة من الثلج بقطعة قماش بيضاء حاشرا أطرافها فى الجوانب ، خبطه الباشا فى صدرهلأنه نسي الأصول المتبعة ، وهى صب الماء النظيف من زجاجة موجودة من أجل هذا فى كلمرة ، ثم تجفيف زجاجة البيرة بفوطة موجودة لأجل هذا أيضا ، وبعدها يفتح الزجاجة ،ويقدمها إليه بكلمتين مختصرتين : " تفضل يا باشا "، ويمكن أن تكون عبارةمختلفة بعد أن يتجرع الجرعة الأولى ، ولكن عليه أن يكون حذرا من مراقبته بعينيه :" بالهنا والشفا يا باشا "
وربما يتوسع أكثر فيقول : " مطرح ما يسرى يمرى يا باشا " ، إلاأن الجملة الأخيرة كانت تجعل الباشا يبتلع جرعته وكأنه طعن ، لأنها تعلن عن انتماءالأدنى بالنسبة إلى انتماء الباشا ، المهم رفع الباشا الزجاجة ورفع معها وجهه ،ليرى على ضوء المصباح الذى أخرجه الشاب متصلا بسلك طويل من حجرته ، المبنية بجانبسور الجنينة من ناحية الشرق بعيدا عن الفيلا الكامنة هناك إلى شمال الجنينة ،تجمدت نظرات الباشا ، ولم يبتلع جرعته إذ رأى قطا بلديا عفيا وله رأس كبيرة ، صاحالباشا ليهشه : " امش خرسيس .. امش جربوع .. "
ربض القط فوق حافة السور ناظرا بعينيه اللامعتين بعدم اهتمام دون أن يتحرك، نهض الشاب ، هل كان يفكر بينه وبين نفسه أن الحيوان الأخرس لديه ملاحظات علىأقوال الباشا، ولذا هو يستهين بأوامره ؟ ، نتر يده كأنه يطرد هذا الخاطر الذىاعتبره سخيفا ، انحني إلى الأرض ملتقطا بعض الحصوات ، قذف بها نحو القط ، الذى ماءثم قفز فى الظلام مختفيا ، تجرع الباشا ثلاث جرعات متتابعة ، ولحس بلسانه جوانبشفتيه ..
اعتدل على مقعده ناظرا نحو الشاب ، مصوبا سبابته ، وقال إن القطة المسماة"قرمزة " بريطانية الأصل ، قال الباشا عنها إن أباه الباشا كان مديرالشركة أعالى البحار ، جاء بها من هناك ، ليس هى قرمزة الموجودة حاليا فى الفيلاولد، ولكنها الجدة ربما الخامسة أو السادسة ، لا أتذكر جيدا ولد ، نحن نحافظ علىالنوع ، لا خلط ولا اختلاط ، افهم ولد لا خلط ولا اختلاط ، زوجتى أنت لم ترها قبلأن تذهب إلى الجنة ، كانت من اسطنبول ، بقايا أقارب لنا ، أنا لعبت برا مع بنت منبنات الناس .. تساءل الشاب بمكر : " لعبت يا باشا؟! " ابتسم الباشا فرحا ، وأخذ ملء رئتيه هواء فبدا كأنهازداد حجما ، وقال : ولد عكروت ، فهمت قصدك ، لكن الحقيقة لم أنل منها شيئا ولدخبيث ، وأبى أشعل الدنيا بالحرائق ، ورفع كرباجه ، لولا الوالدة وقفت بينى وبينه ،ولكنها كانت معه فى رأيه ، حبسنى بالفيلا أسبوعين ، وجرى كتابة تلغرافات ومراسيلإلى أن سافرت معه إلى اسطنبول ، عرسى كان هناك ولد وسط أقارب أمان أمان ، هييييييه..
قال الشاب بصوت ودود : "والبنت يا باشا ؟ "
نظر نحوه بغضب صائحا : " بنت؟! أى بنت ؟! عبيط ولد ، نقاء العرق ولد افهم "
ببعض السخرية المبطنة قال الشاب : " والقطة طبعا ؟ " ، غضبالباشا ، وكاد يوقع بالزجاجة عندما أراد ضربه بصدره باليد الممسكة بها : "عفارم ولد ، لا يعشرها إلا ذكر من نوعها ، فى سهرة ثانية ولد أحضر القطة قرمزةوتراها "
مز الباشا خمرته ، وهو يقول بمزاج عال إن فى الفيلا قطة " راجدول" ولد كبيرة غير عادية ، أصولها من كاليفورنيا ، لها فرو طويل الشعر سميك ،وطويلة الجسم ، لكن فيها شىء عجيب ولد ، تساءل الشاب باهتمام : " شىء عجيب ؟ما هو يا باشا ؟ هل تتحول بالليل إلى حسناء مغوية؟! أنا سمعت حكايات "
أبدى الباشا ضيقه فورا ، وتقلقل فوق مقعده صائحا : ولد أنت تقاطعنى ، تتكلمكلاما أهبل، مثل كلامكم هناك فى بلدكم الصعيد ، العون والجنية والعفاريت ، كلامبزراميط ، اسمع ولد الصحيح ، القطة لاتشعر بالألم ، ويعني هذا أن الإصابة قد تمر بدون اكتشافها ..
استوثق الشاب من الباشا ، وأكد الباشا له أن القطة لا تشعر بالألم إذاأصيبت بجرح مثلا ، تعجل الشاب فى ردة فعله : " يااه يا باشا !! إصابة قد تمربدون اكتشافها ، كأنك تتكلم عن ناس كثيرين "
عاد يضربه براحة يده على نفسالمكان من صدره : " ولد أفق ، هذه أفكار هدامة ، لا توسخ سمعى ولد ، أنتتشتغل عندى تخدمنى ، تحافظ على مزاجى طيبا ، تأخذ الفلوس تعيش ، تلبس بدلة تروحبها الكلية ، لو سمعت أفكار الوبش تخرج برا .. "
تراجع الشاب سريعا بقصد تهدأته ، ومسح جوخه أيضا : " أفضالك لا تعد ياباشا "
شده من ملابسه وهو ملتهب الأعصاب آمرا : " ولد قم قبل أن أنهى الزجاجة، تعرف الجراج ، اغسل البلايموث بالماء والرابسو وارجع هنا ، نفذ حالا "
عندما رجع الشاب وجد الباشا يرطن لُغَةً مضحكة ، فيها خَليطٌ مِنَالأَعْجَمِيَّةِ والعامِّيَّةِ ، ويروح ويجيء فى المكان وهو فى كامل الغضب ، كانتالقطة قرمزة تلبى حاجتها الطبيعية، والقط البلدى يربض فوقها على حافة السور ، عاضاعلى رقبتها ، كانت أصوات الغنج تصيب الباشا بالجنون .. قرمزة .. قرمزة .. كامن ماىكات .. كااامن .. ذاتس رونج .. ذاتس رونج قرمزة .. يذهب نحو السور ، ويعود فاشلافى إنهاء فعلهما : " ستنجب أنواعا سيئة .. كيف خرجت الملعونة الخائنة من بابالفيلا؟! "
فى إحدى جولاته بين السور والطاولةوجد الشاب فى طريقه ، صرخ : " افعل شيئا ، ابعده عنها "
" دع الطبيعة تفعل فعلها يا باشا .. "
" ولد قليل الحياء ، قليل الأدب تحتاج أربيك .. "
صرخت القطة حينئذ بصوت فيه وجع وغضب ، كانت تبتعد عن الذكر ، ثم حاولت ضربهبقدمها الأمامية ، ثم انفلتت هاربة على طول السور ، انهار الباشا فوق المقعد ،وقال فى يأس وهو يمسح العرق عن وجهه : " تمت الخيانة وأنت تتفرج ولد ؟!"
فجأة نهض عن المقعد ، مشيرا نحو الغرفة : " ولد أنت تصطاد بنات هنا ؟"
ضحك الشاب فى البداية ، ولما رأي أن الباشا عنيد ، ويطلب إجابة منه مع أنهلن يصدقها طالما لا تتماش مع ما يعتقده ..
" أى بنات يا باشا ؟! أصطاد لقمتى أَوْلَى .. "
اندفع الباشا نحو الغرفة أولا ، بعد لحظة تبعه الشاب ، وجده يقلب فى كومةكتبه ، يمسك كتابا وراء كتاب يفر أوراقه ، ينتهى منها يقذف به : " ضبطك ولدتقرأ الكتب "
ظهر الضيق على وجه ، قال : " غريب يا باشا كأنك ضبطتنى بالجرمالمشهود!! "
لملم الكتب مع ذلك وأعاد ترتيبها ، وعينا الباشا مازالتا تفتشان ، إلى جانبالسرير عند وضع الرأس ارتكنت مخلاة من القماش السميك ، سأله الباشا عنها ، فأجابإنها تمتلئ بملابسه ، ضحك الباشا ، وتساءل أليس لديه دولابا ؟ لم ينطق الشاب إلاحينما ركلها الباشا قبل أن يميل نحوها محاولا فك عقدة رباطها : " يا باشا ..يا باشا " ، كانت تخرج منه تعنى لا تفعل ، هذا لاحق لك فيه ، فهمها الباشافقال له : " أنا سيدك ، ولى الحق "
وهو فى سبيله إلى إفراغها فوق السرير ، أمسك بها الشاب ونزعها بقوة :" أنت سكرت يا باشا .. عشر زجاجات بيرة ، وواحدة فوقهم لا أعرف صنفها "
صاح : " اخرس ولد .. أنت تتخط حدودك ، مالك أنت ولد ؟ أشرب على كيفى"
على حافة الشباك الداخلية وجده ، التفت بعنف نحو الشاب : " جرامافون؟!"
عندما ضغط الباشا الزر خرج صوت عبد الوهاب : " مضناك جفاهُ مرقده ، وبكاه ورحمَ عودُهُ .. "
كانالباشا مبهوتا : " أنت تعيش حياتك تسمع مغنى أمراء ولد؟! "
تراجعالباشا وهبط بمقعدته جالسا على حافة السرير ، لحظتها بان للشاب وجهه الشائخبتجاعيده ، وهذا الهم المقيم ، فى البداية لم يعرف ما يفعل ، رأي خطا من دموع فىهبوطه يتجاوز قمم التجاعيد إلى قيعانها حتى انتهى فى الفراغ ، أظن أن انفعالاتالباشا نتيجة للضعف الإنسانى ، وأن الجرامافون والأغنية والمغنى ذكروه بذكرياتعزيزة عليه ، مضت ومضى زمنها ، وبقى هو وحده ، ربما كانت زوجته المتوفاة أو أبواه، هل يجرؤ على سؤاله عن هل له أولاد ؟ تلكأ يقدم رجلا ويؤخر رجلا حتى انصرف السؤالدون أن يسأله ، أخيرا استطاع أن يقول إن عليه الذهاب إلى الفيلا لينام ، فالليل فىربعه الأخير، وهو يحتاج للراحة ، كان نشيج الباشا مسموعا الآن ، مختلطا بالسبابواللعنات المندفعة من فمه بحرقة تختلط بتشف يزحم فضاء الغرفة الضيق ، وظهرت فيهأسماء قادة جيوش، ومحتسبين ، وسفراء وشمرشجية وأغوات ومومسات ، فى لومه للجميع قالإنهم السبب فى وجوده ، والانتهاء بضياعه ، كان الشاب طيبا وخائبا وأسرع يقول ،وظنه أنه يطيب خاطره : " ماذا تقول يا باشا ، أنت مثل الفل .. "
رفعرأسه نحوه عقب تلك الجملة البائخة ، صارخا ومشيرا لكل شىء يذكره : " سأحرقمخلتك ومعها الجرامافون والكتب ، وسوف ترى .. "
اقترب الشاب منه ، مال لكى يحمل ساقى الباشا ليرفعهما عن الأرض إلى السرير، فى هذه اللحظة جرت وقائع مفاجئة ، ولكنها حدثت ، كانت السكين تخترق بطن الشاب حينمال نحوه ، أين كان يخفى هذه السكين ؟! لم تطل المفاجأة التى جمدت الشاب لحظة غدره، إذ أمسك بيد الباشا منتزعجا السكين ، لتذهب إلى طريقها الصحيح ..
فى السجن كان الشاب أكثر انسجامامع أن الباشا لم يمت ، أنقذوه لأن طعناته لم تصب الأجهزة الحيوية بضرر كبير ..
هل فكرت فى الاعتداء على الضابط الذى صفعك؟!
مصيبتك حارة يا ممثل ، هذا الدور الخاص بالباشا التركى والشاب كما عرضتهيفضح الكامن والخفى والمستتر جواك يا حلو ، لكن الحمد لله أنك لم تجعل التفكيرينتقل إلى الفعل وإلا كان زملاء الضابط استخدموك كما يستخدم الملاكمون كيس الرمل ،سوف نحكى لك حكاية ، لعلك تفهم وتقدر ما أنت فيه ، وشكم فورة الشباب واللجوء إلىالتعقل ، ولك أن تعلم أن لا مصيبة مهما كان حجمها تستمر ، فلها عمرها ، وسوف تنقضىأو تقضى لا محالة ، لا تهتم كثيرا بسلوكى الفوضوى أنا وزميلى ، فقد جئنا إلى هذاالمبنى كثيرا ، ولنا فى أرشيفهم ملفات ، وإليك حكاية الرجل والحفر لعلك تنشغل بهاوتبحث عن مغزاها هذه الليلة : أولحفرة قابلها لم يعطها اهتماما ، ربما كان ينظر لحظتها إلى أعماقه ، فلا شىء يمكنأن يجعل الإنسان لا يعطى اهتماما ، إذا هاجر نحو داخله واستقر فى مهجره ، إذن هذاشخص عجنت مادته من ماء وطين الفنانين والسحرة – الزعم بهذا يرجع إلى تاريخ طويليمتد من لحظة اكتشاف الإنسان لكينونته وماهيته وكل تلك الأوصاف التى يضعها العلمالذى سار فيه الإنسان سيرا حثيثا نحو التمكن من المعرفة ، هكذا نزعم وهو يزعم ونحننزعم وهم يزعمون – لكن تعال بنا لنخرج من تلك المتاهة إلى أصل الحكاية ، وهو وجودالحفر فى كل وجهة يتجه إليها الرجل ، تخرمت الأرض ، كانت كقطعة جبن رومى مملوءةبالثقوب ، يطل الرجل على عشر حفر يوجد فى قيعانها عشرة أشخاص ، ثمانية رجال وامرأتان ، بعضهم كان يحفرليجعل القاع أكثر هبوطا وغورا- لاحظ - والبعض الآخر كان يحاول الردم والصعود قريبامن الدائر الصلب من أرض الحفرة ، فيقترب رأسه من الخروج من إطارها ثم صدره – هللاحظت ؟ - لم يهتم الرجل بالانتظار للحصول على يقين من أن هؤلاء الذين يردمونحفرهم استطاعوا السير فوق أديم الأرض ، ضحك الرجل فى مواجهة العشرة وأتحفهم بقولسخيف يشبه الهامش التفسيرى ، ادعى أنه ينقله عن والدته : " أمى ربنا يرحمهاويبشبش الطوبة تحت رأسها كانت تقول وجه الدنيا مملوء بالحفر ، فلا تجزع إذا وجدتنفسك ساقطا فى حفرة "
هز من صعد بعد ردم حفرته رأسه ، ثم كأنهم تمعنوا فيما قال وفكروا ثم اتخذواقرارهم بالضحك الصاخب ، والذى يصل إلى حد أن يوصف بالضحك الهستيرى ، كانوا يغنونفى نفس واحد ، ويعيدون ويزيدون : " عليك الاتزان وتعلم ألا تسخر من الحفر" ، لأنه ببساطة وجد نفسه فى حفرةعجيبة تشابه حفر من كان يحفر لأسفل ، ولكن حفرته زادت عليهم بامتلائها طينا لزجاحزمه قرب صدره !!
فصل من رواية بعنوان ( سباحة فىبركة زئبق )