القاهرة 27 يونيو 2017 الساعة 05:38 ص
ترجمة ـ عبد الرحيم يوسف
،
إن أغلبية الأخلاقيين والفلاسفة قد اتفقوا حتى الآن أنه لايمكن أن تكون هناك فضيلة دون إنكار للذات، لكن هناك مؤلف راحل – يقرأه الآن كثيرارجال عقلاء – له رأي مضاد، ويفترض أن البشر يمكنهم أن يكونوا أهل فضيلة بشكل طبيعيدون أي مشاكل أو قسوة على أنفسهم. يبدو أنه يتطلب ويتوقع الخير في جنسه كما نتوقعالطعم الحلو في العنب أو البرتقال الصيني، وإذا تبين أن أي واحدة منها ذات طعمحامض فعلينا أن نعلن بوقاحة أنها لم تصل إلى الكمال الذي تستطيعه طبيعتها. هذاالكاتب النبيل (لأنه اللورد شافتسبري الذي أقصده في كتابه "الطبائع")يتصور أنه بما أن الإنسان مخلوق ليعيش في مجتمع فلابد أن يولد مزودا بنوع ما منالحب للكل – الذي هو جزء منه – وبنزوع إلى السعي نحو خيره وصالحه. وفي متابعتهلهذا الافتراض يدعو كل فعل يتم بمراعاة الصالح العام فاضلا، وكل أنانيةتستبعد تماما مثل هذه المراعاة رذيلة. بالنسبة لجنسنا البشري ينظر (اللوردشافتسبري) إلى الفضيلة والرذيلة كواقعين دائمين لابد أن يكونا هما نفسهما في كلالبلدان والعصور، ويتصور أن أي رجل ذي فهم سليم – باتباع قواعد الحس السليم –يمكنه ليس فقط أن يكتشف أن العدل والصدقكلاهما موجودان في الأخلاقيات وفي أعمال الفن والطبيعة، بل أن يحكم نفسه كذلكبعقله بنفس القدر من السهولة والاستعداد اللذين يسوس بهما راكب ماهر حصانا جيدالتدريب بواسطة اللجام.
إن القارئ المدقق الذي طالع الجزء السابق من هذا الكتابسيدرك على الفور أنه لا يمكن أن يكون هناك نسقان أكثر تناقضا من نسق جلالته ونسقي.أعترف بأن أفكاره كريمة ورقيقة، إنها إطراء عال للجنس البشري، وقادرة بمساعدةالقليل من الحماسة على إلهامنا بأكثر الأحاسيس نبلا فيما يتعلق بمنزلة طبيعتناالسامية. المثير للرثاء أنها غير صحيحة؛ ولم أكن لأذهب بعيدا هكذا لو لم أكن قدأظهرت بالفعل في كل صفحة تقريبا من هذه الدراسة أن سلامة هذه الأفكار تتعارض معخبرتنا اليومية. لكن حتى لا نترك أقل ظل لاعتراض يمكن أن ينشأ دون رد فإني أنتويأن أسهب في الحديث عن بعض الأشياء التي لم أتناولها إلا قليلا حتى الآن؛ لكي أقنعالقارئ ليس فقط بأن الخصال الطيبة واللطيفة للإنسان ليست هي التي تجعله مخلوقااجتماعيا متجاوزا للحيوانات الأخرى، لكن علاوة على ذلك أنه سيكون من المستحيلتماما أن ترتقي بأي جماعات كي تصبح أمة حاشدة وغنية ومزدهرة، أو أن تبقيهم وتحافظعليهم في هذا الوضع عندما يرتقون إليه دون مساعدة مما ندعوه بالشر سواء الطبيعي أوالأخلاقي.
الأفضل لي كي أقوم بما أخذته على عاتقي أن أبدأ أولابفحص حقيقة العدل والصدق، أي الفاضلالذي تكلم عنه القدماء كثيرا؛ ومعني هذا مناقشة إذا ما كانت هناك قيمة حقيقيةأو تميز في الأشياء، بروز لواحد على الآخر، وهو الأمر الذي يفهمه جيدا كل منسيوافق عليه؛ أو أن هناك أشياء قليلة – إن وُجدت – لديها نفس التقدير الممنوح لها،وينطبق عليها نفس الحكم في كل البلاد وكل العصور. عندما ننطلق في رحلة تَقصِّينالهذه القيمة الجوهرية ونجد شيئا أفضل من آخر، وثالثا أفضل من ذاك، وهكذا .. نبدأفي الاستمتاع بآمال عظمى في النجاح. لكن عندما نلتقي بأشياء عديدة كلها جيدة جداأو كلها سيئة جدا، فإننا نشعر بالحيرة ولا نتفق دائما مع أنفسنا، ونتفق أقل بكثيرمع الآخرين. هناك عيوب مختلفة بقدر ما هناك مواطن جمال، حتى أنه مثلما تتغيرالأشكال والموضات ويتنوع البشر في أذواقهم وأمزجتهم؛ سيختلف الإعجاب أو الرفض لتلكالعيوب أو الأشياء الجميلة.
لن يختلف محكّمو التصوير أبدا في الرأي عند مقارنة لوحةجميلة بشخبطات مبتدئ، لكنهم كم اختلفوا بغرابة حول أعمال أساتذة الفن العظام !هناك فِرق وأحزاب بين الخبراء، والقليل منهم يتفقون في تقديرهم للعصور والبلاد،وأفضل اللوحات لا تعطي دائما أفضل الأسعار؛ فلوحة أصلية شهيرة ستساوي دائما أكثرمن أي نسخة يمكن أن تصنعها يد فنان غير معروف، رغم أنها قد تكون أفضل. إن القيمةالتي يتم تحديدها للوحات لا تعتمد فقط على اسم الفنان والوقت الذي رسمها فيه منعمره؛ لكن بالمثل وبقدر كبير على ندرة أعماله، وعلى ما يزال أمرا غير منطقي بشكلأكبر : نوعية الأشخاص الذين تكون اللوحات في حوزتهم وكذلك طول الفترة التي ظلتفيها ملك عائلات كبيرة، ولو كانت الرسومات الموجودة حاليا في (همبتون كورت) رسمتهايد فنان أقل شهرة من "رافائيل"، وكان مالكها شخصية غير عامة قد اضطر إلىبيعها؛ لم تكن لتدر عُشر الأموال التي تُقدَّر بأنها تستحقها الآن بكل أخطائهاالجسيمة.
بالرغم من كل هذا فإني سأعترف عن طيب خاطر بأن الحكمالذي يُتخذ عن التصوير قد يصبح ذا مصداقية عالمية، أو على الأقل قد يكون أقل عُرضةللتغيير والزعزعة من أي شيء آخر تقريبا، والسبب واضح؛ هناك معيار ثابت يقوم عليههذا الحكم. فالتصوير هو محاكاة للطبيعة، نسخ للأشياء التي يراها البشر في كل مكانأمامهم. أتمنى أن يسامحني قارئي الكريم إذا كان التفكير في هذا الابتكار الرائعيجعلني أقوم بتأمل في غير أوانه، رغم أنه معاون كبير للغاية في الوصول إلى مقصديالأساسي، ألا وهو أنه بقدر ما نحن ذوي قيمة مثل الفن الذي أتكلم عنه؛ إلا أننامدينون لنقص في مداركنا الأساسية لكل المتع والمباهج الفاتنة التي نتحصل عليها من ذلكالخداع السار. سأوضح ما أقول. إن الهواء والفراغ ليسا شيئين قابلين للرؤية، لكنبمجرد أن نتمكن من الرؤية بأقل انتباه نلاحظ أن حجم الأشياء التي نراها يتناقصدرجات كلما كانت بعيدة عنا، ولا شيء غير الخبرة المكتسبة من هذه الملاحظات يمكنهأن يعلمنا أن نقوم بأي تخمينات محتملة للأشياء على البُعد. إذا كان هناك شخص وُلدضريرا وظل كذلك حتى العشرين من عمره ثم حظى فجأة بنعمة الإبصار فسيشعر بحيرة غريبةأمام اختلاف المسافات، وسيواجه صعوبة كبيرة في التمكن بعينيه وحدهما على الفور منتحديد أي الأشياء أقرب إليه: عمود يمكنه تقريبا لمسه بعصاه أم برج كنيسة يمكن أنيكون على مبعدة نصف ميل. دعنا ننظر عن قرب قدر الإمكان من ثقب في حائط لا يوجدخلفه غير الهواء الطلق، ولن نتمكن من رؤية شيء غير السماء التي تملأ الفراغ، والتيتبدو قريبة منا مثلها مثل الجزء الخلفي من الحجارة التي تحدد الفضاء في الجزءالخالي منها. هذا الظرف – كي لا أقول النقص – في حاستنا للرؤية يجعلنا عرضةللخداع، وكل شيء – باستثناء الحركة – يمكن تمثيله بواسطة الفن على سطح ما بنفسالطريقة التي نراه بها في الحياة والطبيعة. إذا كان هناك امرء لم يرَ أبدا هذاالفن موضع التنفيذ فقد تقنعه مرآة على الفور بأن مثل هذا الشيء ممكن، ولا يمكننيتجنب التفكير بأن هذا الانعكاس من الأجساد الناعمة والمصقولة جيدا على أعيننا لابدوأنه هو الذي أوحى بأول تعامل مع ابتكاري الرسم والتصوير.
في صنائع الطبيعة تكون القيمة والتميز نسبيين، وحتى فيالمخلوقات البشرية ما هو جميل في أحد البلدان ليس كذلك في آخر. كم هو متقلب بائعالزهور في اختياراته ! أحيانا التيوليب، وأحيانا الأوريكولا، وأحيانا أخرى القرنفلهو الذي يحظى بتقديره، وفي كل عام تهزم زهرة جديدة في رأيه كل الزهور القديمة، رغمأنها قد تكون أدنى منهم منزلة بكثير في اللون والشكل. منذ ثلاثمائة عام كان الرجاليحلقون ذقونهم مثلما هم الآن تقريبا، طوال هذا الوقت كانوا يربون ذقونهم ويقصونهابأشكال شديدة التنوع، كانت جميعها لائقة عندما كانت مطابقة للموضة بنفس القدر الذيغدت فيه الآن مثيرة للضحك. كم يبدو رجل ما وضيعا وهزليا – حتى وهو حسن الملبس –إذا ارتدى قبعة ذات حافة ضيقة عندما يكون الجميع مرتدين لقبعات عريضة الحواف، ومرةأخرى كم تبدو قبعة شديدة الكبر فظيعة عندما يكون نقيضها هو الموضة لوقت كبير؟ لقدعلمتنا الخبرة أن هذه الموضات نادرا ما تدوم أكثر من عشرة أو اثني عشر عاما، ولابدأن رجلا في الستين من عمره قد شهد خمس أو ست ثورات منهم على الأقل، لكن بدايات هذهالتغيرات – رغم أننا قد رأيناها مرارا – تبدو دائما غير مألوفة ومزعجة من جديد فيكل مرة تعود فيها. أي امرء يمكنه أن يقرر أيهما أجمل – بعيدا عن الموضة السائدة –أن يستخدم أزرارا كبيرة أم صغيرة في ملابسه؟ إن الطرق الكثيرة لتخطيط الحدائقبتروٍ لا حصر لها، وما يمكن أن يُدعى بالجميل منها يختلف طبقا لأذواق البلادوالعصور المختلفة. من المقبول بشكل عام وجود تنوع كبير في أشكال مساحات العشبوالعُقَد والرياض، لكن المستدير منها قد يسر العين مثله مثل المربع، ولا يمكن أنيكون الشكل البيضاوي أكثر ملائمة لمكان مما يمكن للمثلث أن يكونه في مكان آخر،والتفوق الذي يملكه الشكل المُثمَّن على الشكل المسدَّس ليس أكبر بالأرقام مما لدىالثمانية وقت المقامرة من تفوق على الستة بين الاحتمالات.
مقطع من الفصل الثاني من كتاب (ثلاث دراساتحول الأخلاق والفضيلة) تأليف برنارد ماندفيل (1670-1733) وترجمة عبد الرحيم يوسف،الكتاب الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية لعام 2016 في فرع ترجمة الأعمال الفكرية