القاهرة 20 يونيو 2017 الساعة 11:50 ص
أصبحت الدراما الرمضانية جزء لا يتجزأ من التعاطي مع الشهر الكريم، وتطورت بتطور العقود والموضوعات وسبل طرحها، هذا العام نشهد زخم كبير في الأعمال الدرامية المقدمة، والزخم هنا بالمجاز المحمود، حيث أن الأعمال الدرامية هذا العام كثيرة وأغلبها يتمتع بالحبكة الفنية والاتقان المميز، فضلا عن التنوع الملحوظ في الأعمال الدرامية المقدمة، فما بين الجريمة والقراءة في التاريخ والعبث بخفايا النفس البشرية والاجتماعيات الواقعية يظل المشاهد في حيرة من أمره حتى يستقر على ما يلفت انتباهه للمتابعة.
في هذا السياق استوقفني أكثر من عمل للمتابعة، وبدأت رحلتي مع مسلسل واحة الغروب للمخرجة كاملة أبو ذكري، التي وضعت بصمتها في الدراما الرمضانية على مدار الأعوام القليلة الماضية، لم يقف المسلسل عند جمال الاسم فقط، المأخوذ عن رواية واحة الغروب للكاتب المصري الكبير بهاء طاهر، بل كان المسلسل بالفعل بمثابة الواحة الساحرة في تكوينها وعناصرها بداية من المعالجة الدرامية للمبدعة "مريم نعوم" و"هالة الزغندي" بالاشتراك في الحوار مع أحمد بدوي، إذا ما نظرنا إلى مسلسل واحة الغروب سنجد تعامل ناعم للغاية مع الرواية الغنية التي اغتنمت الفرصة وحصدت أول جائزة لجائزة الرواية العربية العالمية المعروفة باسم "البوكر"، هذا التعامل منح المسلسل فرصة ليكن تحفة فنية بدأ من السيناريو والحوار وصولا إلى الملابس والمكياج والتصوير والإخراج، حيث حافظ المسلسل على وتيرة الرواية وإيقاعها، الذي لا يتلائم بالضرورة مع نمط الإيقاع الدرامي.
فخلال أول عشر حلقات لم يفسح العمل عن باطنه بصورة مباشرة، إلا أنه قدم عالم امتزج بين التأمل العقلي والتأمل البصري، وهو ما نقله إلى مرتبة مختلفة جعلته ينتقى مشاهده بعناية، هذا المشاهد الذي لا تهمه الأحداث بقدر قراءته في أعماق النفس البشرية والتأمل في جماليات الصورة التي يراها. لهذا يعتبر مسلسل واحة الغروب من أفضل الأعمال التي قدمت خلال هذا العام بل يعد من أفضل الأعمال التي قدمتها كاملة أبو ذكري خلال مسيرتها الفنية.
يعتمد المسلسل على التطور الأفقي والخلو من الحدث أو بمعنى أدق زخم الأحداث وتراكمها، فتسير أحداثه بهدوء يسبق العاصفة تكمتلئ به روح بطله "محمود عبد العظيم" الذي يؤدي دوره خالد النبوي المشهود له بكفاءته، إلى جانب كاترين التي تلعب دورها "منه شلبي" والتي تمثل عالم الواقع الذي يهرب منه "محمود" كما هو الحال مع كافة ما يواجهه، ولكن القدر يسير الأحداث في سياق لا يريده محمود ، لذا فالعمل يوجد حالة خاصة ، قلما ما تناقشها الدراما العربية، وهي الأفكار الفلسفية والبحث عن الخلاص حتى وإن كان من خلال الموت.
وعلى مستوى قائمة مشاهداتي حل مسلسل "الجماعة" بجزءه الثاني في المرتبة الثانية للمتابعة، مسلسل الجماعة يستدعى الكثير من الأفكار والأقوال ايضا فور مشاهدته، ولكن اللافت ف المسلسل أنه لا يشاب جزءه الأول، حيث لا يرصد تطور مسار "جماعة الإخوان المسلمين" بل يقرأ من خلال تاريخها في العقود الماضية ما نعيشه في اللحظة المعاصرة، والعلاقة التي طالما جمعت بين السلطة الحاكمة "العسكرية"، نظرا لانتمائها للمؤسسة العسكرية، وطاقم الجماعة باختلافه، وحضور هذان اللاعبان الأساسيان في تطور مجريات الأحداث السياسية، وهو ما يفسر غياب أي طرف ثالث سواء كان ممثل في "اليسار المصري" أو الشعب أيضا.
فالملحوظ في قراءة حامد للواقع المعاصر من خلال الرمي بالدلالات على التاريخ والماضي، أن العلاقة المتأصلة، والتي لا تعجب الكثيرين، تكشف بطبيعة الحال تعامله المحايد والمشكك بالوقت ذاته في كافة الدلائل والأقاويل التي تخص تلك الحقبة من الزمن، ولا يخفى على أحد شخصية "جمال عبد الناصر" وذكائه المعهود الذي مكنه من تخطي كافة العقبات والشخصيات التي كادت أن تعيقه عن تحقيق ما أراد،في المجمل مسلسل الجماعة رغم القيل والقال الذي يحيطه يستحق المشاهدة والتأمل بأحداثه وتعاقبها بهذا الشكل اللافت، كما أنه يعد التجربة الإخراجية الأولى دراميا للمخرج الشاب "شريف البنداري" الذي قدم تجارب قوية سينمائية رغم قلتها، حتى الآن.
فضلا عن الإبداع التمثيلي، لاسيما في شخصية "زينب الغزالي" التي تلعب دورها الممثلة صابرين، وكذلك دور "حسن الهضيبي" الذي لعبه الممثل عبد العزيز مخيون، الذي شاهدناه بالجزء الأول من العمل، لكنه لم يخيب الظنون وقدم أداء مميزبه عن الابتذال، كذلك الثنائي "نضال الشافعي ورمزي لينر"، فيما اتسم أداء محمد فهيم، في دور "سيد قطب" الذي يعتبر قطب من أقطاب تطور الأحداث جافا واعتمد على التقارب الشكلي فقط، ونستشعر هذا الجفاء في شخصية "جمال عبد الناصر" التي يؤديها الممثل الأردني "ياسر المصري" الذي عرف في الأعوام الماضية بأدوار قيمة وأداء يعتمد على التقمص لا التظاهر والالتصاق بقشور الشخصية، ولكن إحقاقا للحق تعتبر شخصية جمال عبد الناصر عائق أمام أي ممثل لاسيما أنها ترتهن بصورة ذهنية لدى المشاهد باختلاف توجهاته، وكذلك شخصية سيد قطب التي لم يرها الكثيرون أو يتابع تحركاتها وتصرفاتها وإنما أطلعت الأغلبية على أفكاره والتي تكونت من خلالها الصورة الذهنية له.
وبالنسبة لى أعتبر أن الحصان الرابح هو مسلسل "هذا المساء" الذي يقدمه "تامر حسن"، مخرج قدم أعمال وثائقية لقضايا شائكة مثل اغتيال السادات وحسن البنا، كما تطرق إلى عالم سعد زغلول، فيما انطلق إلى عالم الدراما والسينما من خلال فيلم "قط وفار" مع المؤلف وحيد حامد كما استثمره حامد لتقديم قراءته عن الشارع المصري وتحولاته في فترة ثمانينات وتسعينيات القرن المنصرم بمسلسل "بدون ذكر أسماء" الذي جعل من "تامر محسن" مخرج تنتظر أعماله، كما هو الحال مع مسلسل "هذا المساء"، فبدون ضجة وبهدوء تام دخل تامر محسن إلى المشاهد بقصص مشوقة تجمع ما بين التشويق والاكتشاف وتجريد رغبات الإنسان بطريقة بارعة وسلسلة تسمى "السهل الممتنع".
مسلسل "هذا المساء" كما هو عنوانه يعد مشاهده حالة لكنها تجمع بين الجمال البصري والغوص في النفس الإنسانية بتناقضاتها وغرائزها، ولا عجب بأن محسن نفسه هو صاحب القصة فيما قدم "محمد فريد" وفريق كتابة تعتمد على سيناريو محكم وحوار مدروس رغم قلته.
ولم تقف قلة الحوار عائق أمام المسلسل، حيث اعتمد محسن على ممثلين بارعين، متقنين للانفاعلات المقننة التي تتلائم مع المناخ العام الهادئ الذي يصدره المسلسل لمشاهده، ولكن خلف هذا الأداء الهادئ هناك عاصفة من الانفعالات التي تهلك صاحبها، مصداقية الشخصيات وبساطتها تطابقت مع الممثلين بشدة، حيث إياد نصار وحنان مطاوع وأحمد داوود، ورفيق محسن في التمثيل "محمد فراخ" فضلا عن أروى جودة ووجه جديد خط خطوات أولى مميزة وهي "أسماء أبو اليزيد"، مسلسل "هذا المساء" لا يحتاج إلى الحديث وإنما للتحليل والتبصر في مشاهده التي تظهر للبعض أنها اعتيادية ومستهلكة ولكن ما يقدمه تامر محسن من تجربة يعكس القراءة المختلفة والتعامل مع النفس بطريقة تشريحية غير مسبوقة.
في السياق هناك العديد من الأعمال المتميزة هذا العام ولكن الإطالة في الحديث ليست من سمات الأمر، لهذا نكمل القراءة إلى المقال القادم.