القاهرة 20 يونيو 2017 الساعة 09:43 ص
لأن الموسيقى قديمة قدم الإنسان ومن أول الفنون التى عرفتها الحضارة الإنسانية ،فقد تعددت وظائفها الحياتية ودخلت فى جميع مناحى الحياة حتى مع الجندية والعسكرية نجد لها تواجداً حينما استخدمها أجدادنا الفراعنة لحث مشاعر الجنود وزيادة حماسهم الوطنى
وأيضاً لتوظيفها لخدمة الجيوش المحاربة ضد أعداء الوطن باعتبارها أداة لتوحيد صفوف الجيش والإعلان عن بدء المعركة أو توقفها من خلال الإشارات المتفق عليها بين الضباط والجنود. وقد مرت الموسيقى العسكرية المصرية بتطور كبير وانتقلت عبر حضارتنا إلى الغرب ثم تراجع الحال مع الأسف،
ومع بداية عصر محمد على حكم مصر بدأت مرحلة جديدة للاهتمام بهذا النوع من الموسيقى بعد أن اكتشف ما آلت إليه من انهيار وانحدار طيلة القرون التى سبقت توليه الحكم حيث اعتمدت على التواتر الشفهى وانتقال الألحان بالتلقين فقط مما أفقدها كثير من قيمتها وإحساسها ومعانيها وانحدر الحال بالموسيقى والموسيقيين وأصبحت تقتصر على بعض الطبقات المتدنية وغير المتعلمة فأصبحت فى حالة رديئة تتنافى مع قيمتها،
لذا اهتم محمد على اهتماماً عظيماً بالجيش بكل فرقه وأسلحته ووضع الموسيقى كأداة منظمة لهذا الجيش على غرار الجيوش الأوربية ،حيث كانت الجيوش الأوربية لها فرقة موسيقية فى ذلك الوقت فسار على نهجهم وأرسل البعثات فى مختلف المجالات ،وكذلك جلب موسيقيين على قدر عال من الدراية والمعرفة الموسيقية لتدريس أصول الموسيقى وقواعدها ونظرياتها وطرق العزف على الآلات الموسيقية حتى يتمكن من تكوين فرق موسيقية فى الجيش المصرى لا تقل كفاءة أو أهمية عن نظائرها فى الدول الأخرى ،
وكان لديه إيمان بما تحققه الموسيقى من بث الهمم وإيقاظ الحماسة ورفع الروح المعنوية والوطنية فى نفوس الجنود وقادة الجيوش ،بالإضافة لرغبته فى تكوين جيش قوى فى كل الأفرع تتكون لديه عزيمة وهمة وحتى تكون الاستعراضات العسكرية للجيش تفيض بالحماسة على الأنغام الموسيقية الرصينة والإيقاعات التى تعزز شحذ الروح الإيجابية وتقوي إرادة الجيش نحو النصر، فأنشأ محمد على خمس مدارس لتعليم الموسيقى الجادة بمختلف
أشكالها لتزويد فرق الجيش باحتياجاتهم فى كل الأسلحة ،
وقامت هذه المدارس بتعليم الموسيقيين على أعلى مستوى فنى وتقنى بعد أن استعان محمد على بالخبراء الأجانب من فرنسا وألمانيا وغيرهما حتى يرتقى وينهض بالموسيقى المصرية مع الاكتفاء بالعنصر المصرى الذى وصل لدرجة من الكفاءة يستطيع من خلالها مد وتزويد الجيش بفرق مدربة بمهارة وحرفية عالية.
ولم يستمر محمد على فى الاستعانة بالعنصر الأجنبى طوال الوقت بل لمجرد مرور الأزمة التى عاشتها الموسيقى المصرية حتى تنهض من كبوتها بسرعة ،ووجد هؤلاء الخبراء المناخ المصرى جيد للتعلم لأن المصريين لديهم طاقة وموهبة كبيرة فساعد ذلك على الارتقاء بشكل الموسيقى وتدريس الأصول والقواعد فى مناخ جيد أسفر عنه الاكتفاء بهذه الخبرات المصرية ،وساعده على تحقيق ذلك الشعب المصرى الذى أبدى استعداداً طيباً للنهوض بالفن باعتبارها انعكاساً للواقع ونهضته التى شعر بها المجتمع فعلياً آنذاك.
ولم تقتصر الموسيقى فى الحياة العسكرية على المشاركة فى الاحتفالات والمراسم التابعة للسلطة أو الحاكم بل شاركت فى العديد من المراسم الأخرى والمناسبات السارة وحتى فى مصاحبة بعض الجنائز العسكرية لكبار المسئولين والشخصيات الكبرى فى المجتمع وبعض شهداء الوطن ممن يضحون بأرواحهم من أجل أمتهم ،كذلك تستخدم الموسيقى فى الإدارات العسكرية المختلفة كلغة تعبر بها عن أعمال الكتائب والسرايا وحركات الضباط والجنود ،وهذه النوبات الموسيقية الصادرة عن آلات النفخ النحاسية المعروفة بالأبواق فى جميع المعسكرات هى أكبر دليل على أن الموسيقى هى لغة كل الشعوب فى أنحاء العالم ،فرغم اختلافات الألفاظ اللغوية إلا أننا نتحد جميعا حول مفهوم لغة الموسيقى السامية بنغماتها السبع الفريدة وقد تخيرتها الجيوش لترافق الأعلام فى هالة من الألحان والأنغام الراقية المنضبطة فى إيقاع مميز معبراً عن المواقف الوطنية بهمة ونشاط وحماس.
وهناك بعض القواسم المشتركة فيما بين الحياة العسكرية والمدنية يجب توافرها منها الإبداع والتجدد والعطاء الزاخر والتفانى إلا ان بطبيعة انتمائهم للقوات المسلحة ولشرف الجندية المصرية أصول فى الوطنية المفرطة نظراً لعقيدتهم المغروسة داخلهم فى حب الوطن وحمل لواء الأرض عرض
وهو ما نحتاج على تكثيفه وتدعيمه خلال الفترات القادمة فى المؤسسات المدنية المختلفة فى الدولة ونتمنى أن ترعى القوات المسلحة هذه الحملة بتقديم عروض موسيقية فنية لفرق الموسيقات العسكرية المختلفة تجوب شوارع المحافظات متألقة بالأغنيات الوطنية التى تدعم روح الجسارة والبطولة لدى طوائف الشعب وتعيد لنا الحماسة والقوة والانتماء للوطن.
ونظرا لاقتراب هذه الفرق من الشعب المصرى فسيتحول الأمر لتصبح فرق الموسيقى ملكاً للشعب وليست ملكاً للجيش وحده لأنها ستغزو قلوب السامعين وتمدّهم بالغذاء الروحي الذي نفتقده في زمن التقهقر الفني ،
وبمشاركة الموسيقى العسكرية المدنيين فى مناسباتهم المختلفة يعمل ذلك على إظهار الجانب المعنوى والروحى بل والوجه الثقافى والإبداعى للقوات المسلحة بعيداً عن المدافع والدبابات والقوى العسكرية ذات البعد الآخر المدافع عن أمننا وأماننا داخلياً وخارجياً باستخدام كل الوسائل الممكنة حتى ولو بالقوة، فالعلاقة بين الموسيقى العسكرية وبين أبناء الوطن ليست وليدة الصدفة أو تعود لفترة زمنية قريبة بل تمتد جذورها لآلاف السنين حين ساهمت فى تاريخ مصرنا المجيد على مر العصور المختلفة منذ عهد الفراعنة وكانت قد شاركت بطبيعة دورها البارز فى تحقيق انتصاراته وبث روح العزيمة والنصر فى جنودنا الأبطال.
وخلال الأيام القليلة القادمة نشهد احتفالات ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة فى أجواء مبهجة وتحرص أكاديمية الفنون على مشاركة فرق الموسيقات العسكرية فى احتفالاتها الوطنية لإضفاء البهجة والود بجانب الروح الوطنية الخالصة التى تتولد للجمهور حينما يستشعر أن فرق الموسيقات العسكرية جزء من لحمة ونسيج هذا الوطن بل تدعم الروح الإيجابية ،
ولهذا نشكر كل القائمين على إدارة الموسيقات العسكرية على ما يبذلونه من جهد لاستعادة صورة مصر المشرفة التى احتلتها فرقنا كمركز أول على العالم خلال الستينيات من القرن الماضى والآن تعاود نشاطها ومهارتها فى المسابقات والمهرجانات الدولية ،فتحية لجيشنا العظيم ولقادته الأجلاء وتحية لفرق الموسيقات العسكرية التى ساعدت عى جلب النصر خلال عصور سالفة ،وسيظل جيشنا العظيم هو حامى حمانا داخلياً وخارجياً ،قاهر الظلم والاستبداد والتطرف والإرهاب بكل صوره وأشكاله السياسية والفكرية والاجتماعية.