القاهرة 13 يونيو 2017 الساعة 10:43 ص
تبدو العلاقة بين الهامش والمتن، في السرد بصفة عامة، على قدر بالغ من التعقيد والتشابك بالرغم من الحدود اللفظية والتعبيرية، والمكانية الفاصلة بينهما، ذلك أن التعامل مع الهامش يشمل العديد من جوانب الحياة التي يغلب فيها الهامش على المتن، ليصير في هذا العرف الجديد، الذي طالته التحولات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، متناً مشوهاً يحمل سمات الهامش والتحول في كل شئ، وذلك تعبيرا عن الهم الإنساني بكل أحلامه ومنعطفاته وإحباطاته وتصادماته مع الواقع ومفرداته الضاغطة على عصب الوجود..
ومن هذا المنطلق الفكري يبدو اتجاهنا في الكتابة عن "الهامش في الإبداع" أو "إبداع الهامش" المنطلق أساسا من ثقافة التعامل مع الهامش، والذي ينطلق من الفجوة القائمة بين مستويات الحياة/ المجتمع، والعلاقة بين تلك الأطراف لكي نسجل/ نرصد ملمحا غالبا على سمات الكتابة/ الإبداع بصورة عامة، والذي يحتفي بقيمة الهامش فكريا وأدبيا دوما على حساب المتن الذي بالرغم أنه يمثل مركز ثقل ككتلة قد تبدو متماسكة برغم ما يمور بها من خور قد يدفعها في اتجاه سمات الهامش، إلا أنه قد يصير هامشا بجدارة يستحق المزيد من سبر الغور وتحليل العلامات التي تؤدي إلى ذلك..
ذلك أن إشكاليات وجود هذا الهامش قد تحفل بالعديد من النماذج والإحالات والاتجاهات التي تحتفي بمفهوم العبث أو الوهم أو الدخول في دوائر عديدة متشابكة كما رأينا في نماذج البطولة في تاريخ الأدب الإنساني بداية من "دونكيشوت" ومحاربة طواحين الهواء، والتي حولت - فيما بعد - النماذج المهمشة من خلال الأعمال الأدبية إلى بؤر شديدة السطوع في المتن السردي، إضافة إلى النماذج التي قد نستطيع التعامل معها من خلال طرحنا لهذه الإشكالية المتشعبة، التي ربما تماهى فيها الهامش مع المتن إلى حد كبير، لتصير المشكلة هنا بالأساس هي مشكلة تهميش العنصر الإنساني وتغريبه عن مجتمعه، الذي ربما مثل أيضا في إشكالية من إشكالياته، متناً جديداً، وذلك ما سوف نحاول التعرض له من خلال السرد الذي صارت إشكاليات التعامل معه تخضع للكثير من المعايير الجديدة التي تحتفي بقيمة الفرد كنواة للمجتمع ومركزا لهذا الوجود، وإن كان من خلال المكان الذي تخضع له العلاقة سواء كانت طاردة أو جاذبة على حد السواء، فالمهمشون هم: المبعدون عن الصورة المضيئة. هؤلاء الذين ساهموا في إشعال جذوة الحضارة المصرية في مختلف عقودها ومراحلها وهم يقفون في الصفوف الخلفية.. جموع العامة.. الفلاحون.. المزارعون.. البسطاء.. جماهير الشعب التي تعمل في صمت ودون جلبة أو ضوضاء.. المصريون الطيبون الذين أسقطهم التاريخ من دفاتره وأوراقه, رغم أنهم هم الذين صنعوا أمجاده وبطولاته"
حيث يأتي هنا وبامتياز دور الإبداع الأدبي، على اعتبار أن الأدب هو المرآة التي يستطيع العالم من خلالها أن يرى نفسه، ومن ثم الدخول في دائرة التحليل وسبر الغور، واستشراف معادلات الوجود التي تلح وتطرح من خلال الأسئلة، وهي الإشكالية التي عملت عليها إبداعات الكتاب على مدار الزمن، لتمتد في عمق كل الحقول والبيئات التي تعانق الهم الإنساني، سواء كانت ريفا أو حضرا أو بيئة شعبية أو أخرى أرقى على المستوى الظاهري، أو اغترابا في حدود المكان أو غربة خارجه ومن خلال عنصر الزمن الضاغط للفرد الذي أصبح في مواجهة المصير سواء كان هذا المصير متشكلا في صورة اجتماعية أو مادية أو نفسية أو فلسفية أو تاريخية، ربما تخطت حدود المكان والزمان..
وهي التي تتنوع إشكالياتها بين المهمش مغتربا في محيط وطنه وخارجه، وداخل مجتمعه وخارجه، علاوة على التهميش النفسي والتهميش الثقافي، والهامش التاريخي وهامش وجود المرأة/ الأنثى في المجتمع، وغيره مما ستتعرض له هذه الدراسة التطبيقية التي بين أيدينا بفصولها المنفصلة المتصلة، الساعية إلى تكسير النمط المعتاد في تناول النص الأدبي، للتحول نحو حاكميته وسلطة وجوده من خلال ما يميزه من دلالات حية وإحداثيات وجود، وفلسفة تعامل إبداعي وإنساني على حد المساواة.. حيث تبدو فيها جميعا تلك العلاقة بين الزمان والمكان، ومساحة الهامش النفسي والمكاني على حد السواء، الذي تقع فيه الذات على نحو من الالتحام والتماهي مع التفاصيل الدالة المشتبكة أيضا مع اللحظة الآنية التي تشعل الحدث الروائي وتؤججه، وتفتح بابا للتداعي والعودة عبر سراديب الذات وتاريخها السُري، وتاريخها المُحدث في تواز وتبادل أدوار يتمثلان على نحو من اضطراب النفس وغربتها المشتعلة في ضمير السرد سواء كان ساردا أو مسرودا عنه، كشخصية رئيسية/ محورية يتحرك من عندها الحدث خارجيا وداخليا منبثقا من الذات التي تعني بتلك التفاصيل الرتيبة الدالة على التشظي والخروج من دائرة المتن إلى حيز الهامش، والتي تؤسس وتؤطر لتلك الأزمة/ الحالة التي يطرحها النص الروائي، على خلفية صراعها الداخلي وما تختزنه في وعيها المضطرب من ذكريات وتداعيات وصراعات غير معلنة مع الواقع المحيط إما بالرفض أو بالتعايش السلبي.
ومن خلال تقنيات سردية تتراوح فيما بين الرصد الدال على الفترة السردية المعاشة، استنادا إلى أن الرواية هي "أقدر فنون القول على تصوير التغيرات الاجتماعية، وكان كتاب الرواية إذا أوتوا التاريخية السليمة والنظرة الاجتماعية الثاقبة إلى جانب موهبة السرد وبراعة البناء الفني خير من يسجل التغير ويستشعر حركة المجتمع"
تجليات الحالة النصية:
إذن فالارتباط هنا بالمجتمع، يتوازى مع الارتباط بالأنماط السردية التي تفرضها تجليات الحالة النصية أو سلطة النص التي تفرض وجودها من خلال هذا النسق السردي الروائي.. ومن ثم تبدو طرائق التعامل مع النص الأدبي كوعاء إنساني يمتليء بما تفيض به القريحة الإنسانية المتمثلة في ضمير الكاتب المفترض أنه حامل لسماته وسمات هذا الواقع الجديد، المتجدد، التي تفرض على ضوء معطياتها سُبل التعامل مع هذا النص المتغير الجديد الذي يفرض سماته وطقوس إبداعه من داخله، ومن خلال هذا المكون الإنساني والاجتماعي والنفسي والأيديولوجي والتاريخي المترسب في وعي المجتمع/ الكاتب الذي يعبر عنه، بحسب هذه العوامل التي تعطي النص سلطته، حيث أن:
"سلطة النص تقوم على قدرة النص الأدبي على تحقيق معنى ما، يتمتع بقدر من الإلزام ويقبل التثبيت، ولو بصورة مؤقتة، في مواجهة فوضى القراءات التفسيرية للنص الأدبي التي انتهت عند أتباع نظرية التلقي والتفكيك، إلى إلغاء سلطة النص، بل إلى التشكيك في وجوده أصلا""
إذن، ومن خلال هذا التشكيك، فثمة التباس ورهان جديد متجدد مع كل طفرة من طفرات الكتابة على وجه العموم، يقترن بلا شك بعملية التحديات التي يواجهها النص الراهن، مع خلال صور عدة من الاشتباك والمقاومة، والتي تتحدد بحسب الجدية التي تُقام بها أعمدة العملية الإبداعية من حيث كونها إفرازا لواقع جديد متغير، ومتنام على حدود الكلمة المكتوبة بأنماط قد تختلف مع السائد أو تختلف بحسب السلطة التي يفرضها النص ومعطيات الكتابة ومحدداتها لدى الكاتب والمبدع، والمتطلع إلى ارتياد بقع جديدة من بقاع التحدي مع الكتابة النصية الجديدة، تلك التي تمتح من كل تلك العوامل المحيطة والمؤثرة على العملية الإبداعية بكافة أنماطها وأجناسها.
ومن هذا المنطلق يبدو هذا التشابك وهذا الرهان الإبداعي/ النقدي الذي نقدم به رؤيتنا التحليلية الساعية إلى سبر غور ورصد حالة الهامش بمفهومه الثقافي المتعدد من خلال مجموعة النصوص الروائية المختارة التي تمثل أجيالا متقاربة من الروائيين الإسكندريين، وبما تحمله سمات الكتابة وتقنيات التعامل مع النص السردي، والروائي تحديدا.. ذلك الذي يجعل الفن الروائي وعاءً كبيرًا متسعًا لاستيعاب مختلف المفاهيم التي تتعانق مع فكر ثقافة الهامش بما تحمله من أطياف وزوايا متعددة تصب في إشكالية وجود المتن كعلاقة ضدية اجتماعية تمتح منها الناحية التقنية في استبطان كافة الحالات النفسية والفلسفية والصوفية ومركزية المكان في مقابل هامشية الشخصية المأزومة الواقعة على حافة هذه البؤرة المكانية، والتي يتلاشى أمامها عنصر الزمن..
تلك العناصر التي يبرز وجودها من قدرة النص على التجلي أو إعطاء المفاتيح اللازمة لاقتحام الحالة الإبداعية بسبر الغور وتطويع الحالة النقدية لصالح النص لا لصالح المعطى النقدي أو النظرية النقدية التي قد لا يجدي تعاطيها من خلال نص أدبي لا يتمثلها ولا تمثل مفاتيحه بأي حال من الأحوال، اعتمادًا على التوجه ثقافيا نحو النص بكل حمولاته الفكرية واللغوية والاجتماعية، ودلالاته ومفاتيحه التي تنبثق من داخله، لينتج التعامل مع النص بهذه الصيغة أو الآلية، قراءة ثقافية تستقي من كل المفاهيم النقدية خلاصتها وتكاملها، ربما من خلال الاتجاه إلى النص ذاته، وكما أشار الدكتور محمد عبد المطلب في كتابه القيم "القراءة الثقافية" بأن: "القراءة الثقافية هي تلك التي تتجه إلى النص، تنأمله بهدف رده إلى الأنساق الثقافية التي تدخلت في إنتاج خطوط الدلالة، سواء تلك الخطوط الطولية التي تتحرك بالمعنى إلى الأمام، أو تلك التي تفسح الطريق أمامه، ومن هذه وتلك يتحقق ما نسميه (المعنى التكاملي) وهذه الخطوط تتعانق مع الخطوط الرأسية التي تحفر في الدلالة للوصول إلى منابعها العميقة أو المضمرة، أي الوصول إلى الطبقات الثقافية المترسبة في الأعماق"
من هذا المنطلق، ومن خلال تتبع/ تقصي الحالة السردية بكل معطياتها ودلالاتها، يأتي تشابكنا والتحامنا مع عديد النصوص الروائية التي تعطي تلك الخطوط والتقاطعات السردية التي تجسد مفهوم ثقافة التعامل مع الهامش من خلال الوقوع فيه، ومن خلال إشارات دالة تنطلق من متن النص الروائي لتعمق هذه الرؤية المنبثقة من أنماط إنسانية تنتمي كل منها إلى مجتمعها/ بيئتها، وستعاني كي تخرج من وهدة الهامش إلى عمق الانخراط بالمتن الذي يمثل حقيقة الوجود، برغم أنه يتحول في ضمير أغلب النصوص إلى هامش يستقي هامشيته من شدة تأثير الهامش الحقيقي الذي يتحول إلى متن يلتهم جل قدرة النص الروائي على التعبير والتجسيد لغويا ودلاليا كحقلين من حقول التعبير عن السرد وعن تلك الثقافة المجسدة للهامش..
فنرى في تعاطي الروائيين مع هذا المفهوم: هامش المرأة/ الجسد بكل دلالاته المادية والميتافيزيقية في رواية "أشلاء بؤرة العشاق" للروائي الراحل أحمد محمد حميدة، إلى جانب هامش الاغتراب وإشكالية وجود الآخر في رواية "بساط من وجوه وجباه" لمحمد محمود الفخراني، و"هامش الحياة.. فلسفة التخييل" في "ذهاب.. عودة" ليحيى فضل سليم.. كما تحتفي الدراسة بكتابة الهامش لدى عدد من الكاتبات الروائيات التي تعانقت كتابتهن مع هذا المفهوم بشكل ما أو بآخر في: "عودة الموناليزا" ومحاولات الخروج من الهامش.. للدكتورة حورية البدري، و"لم تذكرهم نشرة الأخبار" تهميش الذات الأنثوية، وتغييب المجتمع.. لانتصار عبد المنعم، و"العربة الرمادية بين الهامش النفسي والظلال المادية.. لبشرى أبو شرار.. كما يبدو "الهامش التاريخي، ومركزية الشخوص" في رواية "موجيتوس" لمنير عتيبة، والهامش السياسي الاجتماعي المختلط بالهامش الثقافي في "يا محني ديل العصفورة.. حكايات الهامش، وأدلجة الحالة النصية".. للشربيني المهندس.. و"الهامش الثقافي"، وتداعيات البطل المهزوم.. في "شارع النبي دانيال".. لمحمد خيري حلمي، وتجلي الحالة المسرحية من خلال النص الروائي من خلال "هامش الواقع، متن السخرية "الوسطاء لا يمتنعون".. لـ "أبو نصير عثمان"
بما يدفعنا للدوران في فلك الهامش بصوره المتعددة، وبحسب الآليات والإشكاليات التي تطرحها هذه النماذج من خلال مفاهيم أخرى تتعانق مع هذا الخط الرئيس والملمح الجاذب، والمترافد دائما مع إشكاليات الوجود وتنوعات الحالة النصية التي تطرح تجلياتها من خلال طرح روائي يواجهه طرح نقدي يتواكب إلى حد كبير مع تلك المعطيات والمرتكزات السردية التي تتشابك مع كل تجربة من التجارب الروائية المختارة للبحث.