القاهرة 13 يونيو 2017 الساعة 10:26 ص
تحمل مظلتها الصغيرة ذات المثلثات الطولية البيضاء والسوداء. تسيربجسدها القليل بسرعة تحت زخات المطر المتساقطة تحت سماء طوكيو الغائمة. أرنو إليها من بعيد سعيداً. أهبط مسرعاً من السيارة السوداء الكبيرة. أقترب منها حيث تقف تنتظرني. تبتسم. غير مصدقة أنني أخيراً أمامها. تسقط المظلة من يدها. ومن يدي أيضاً. نتعانق بقوة. نطيل العناق. نغيب عن الوجود حولنا. لا نلتف لدهشة الموجودين وسط الشارع المتحلقين من حولنا.
نسير سوياً يدها في يدي. تقبض على يدي بقوة. لا تريدني أن أهرب منها هذه المرة.كل مرة أتعلل بحجج واهية. كذلك أمسك بيدها، أيضاً، بقوة، مستسلماً، دون وعي مني، دون مقاومة.
نتجه إلى القصر الإمبراطوري الكبير حيث نحب أن نبدأ زيارتنا لطوكيو. نستعيد ذكرياتنا. نقف قرب حافة القصر.نرى المجرى المائي الذي يُستخدم كتحصين دفاعي يحميه من أي اقتحام أو هجوم. نراقب قطرات المطر. تتساقط على المجرى المائي. دائماً يمنحنا القدر تلك اللحظة الرائعة. نشهد ذلك الجو الغائم في نهاية شهر مارس عادةً. نعد قطرات المطر ككل مرة. نسمع صوت المطر. نرقب قطراته. تتزاوج مع ماء المجري محدثة صوتاً رقيقاً.يخفت صوت شغاف قلبينا. نسير في اتجاه الساحة الموجودة أمام القصر. طفلان يلهوان. نستعيد لحظات البهجة التي جمعتنا من قبل. لا نريدها أن تهرب من بين أيدينا هذه المرة.
كانت آخر نلتقي فيها في طوكيو منذ عامين. حينها كنت في رحلة سريعة إلى سنغافورة. في طريق عودتي،توقفت في مدينتها الكبيرة الخالدة. تضم حبيبتي الجميلة، نعومي تازاوا. تحنو عليها. تحنو على حبي الخالد وقلبي النابض بالحياة دوماً بين حشايا قلب تلك المدينة الكبيرة.
ذهبنا في الليل إلى تناول العشاء. إلى نفس مطعمنا القديم المفضل لنا في طوكيو. المطعم الذي يعود إلى القرن التاسع عشر من نهايات عصر إيدو. عندما انتقلت العاصمة من العاصمة القديمة كيوتو إلى العاصة الجديدة طوكيو التي كانت تعرف بـ"إيدو" من قبل. أحضر النادل وجبتنا المفضلة: السوشي. أحضر لنا شرابنا المفضل، الشاي الأخضر في كوب خشبي كبير. أحضره ثلاث مرات كالعادة. أحضر لنا ما نحب: الفول الأخضر المسلوق ذي الحبة الكبيرة. أحضر لنا الشوسي بعد طول اشتياق. وكذلك الشراب البني الذي نغمس السوشي فيه، فيعطيه مذاقه الساحر.
نتناول السوشي بهدوء.باستمتاع. أنظر في عينيها. أرى الشوق يطل منهمابحب وبقوة. أعلم. لا تريدني أن أرحل هذه المرة. جميل أن تبدأ قصة حبنا وتستمر على البعد، رغم مرور السنين.صمدت على تقلبات الزمن. يبقي حبنا حياً. لا يريد أن يموت. حياً بذكرياتنا ورغبتنا القوية في أن نجعله مستمراً ومثمراً.
يقترب وجه نعومي من وجهي أكثر. أغوص في سحر عينيها الدافئتين القادمتين من الشرق الأقصي والمحمَّلتين بروعته وغموضمه، ولمسة الغرب أيضاً. أنظر في عينيها أكثر. أتاملها. ألوم نفسي على هجرها وعدم الإقدام على تلك الخطوة. هربت منها كثيراً. لم أقدر على اتخاذ هذا القرار بالزواج منها. لماذا لم أضع حداً لهذه العلاقة مع هذه المرأة؟! لا أستطيع الحياة دونها! لا أريد أن أرتبط بها. أخشى أن يذهب حبي لها في سلة الذكريات! يضيء وجهها البيضاوي الأبيض الصغير وسط شعرها الأسود القصير. نبوح بحب كبير عائش.نتحدى السنين. تشع عيناهاوسط إضاءة المطعم الخافتة.بريق عينيها يأخذني إلى عالم آخر غير أنا الذي فيه.
تعمل في أحد المتاحف الخاصة في طوكيو. حصلت على درجة الدكتوراه في جامعة ليفربول العريقة. حيث التقينا للمرة الأولى. كانت أول يابانية تحصل على درجة الدكتوراه في المصريات. أصبحت أول أمينة متحف في في المصريات في اليابان.
تبدو مختلفة تماماً عن الإنجليزيات اللائي عرفتهن قبلها، أو حتى الأوروبيات جميعاً، أو حتى الأمريكيات الزائرات للمدينة أو للجامعة. لفت نظري إليها نشاطها الكبير، ودأبها الذي ليس له مثيل، وذكاؤها الشديد وإرادتها القوية، وابتسامتها المرحبة، وخجلها الشرقي القريب لنا، وحنانها الذي يحتوي العالم بأكمله بين جوانحه.
بدأت علاقتنا في تلك المدينة الإنجليزية العريقة. أثارت إحساسي. جعلت مشاعري تتجه نحوها. تعلق قلبي بها. بعد أن كنا أصدقاء، صرنا عاشقين. لا يفارقان بعضهما البعض ليل نهار. هي دفقة المشاعر والأحاسيس في حياتي الجافة في غيابها.
ننهي طعامنا في المطعم العريق. نخرج إلى الشارع الكبير. تتأبط ذراعي. تتوقف وسط الشارع الخالي في قلب الليل. تنظر في عينيَّ طويلاً. أطبع قبلة فوق شفتيتها. بعد برهة. نفيق من القبلة. تسألني:"هل ترحل هذه المرة أيضاً؟". أحضتنها بقوة. أقول :"لا". نغيب في قبلة طويلة. نكمل بعدها سيرنا في الشارع الطويل نحو مترو الأنفاق. نذهب إلى شقتها الجميلة في منطقة أُوانوو. تطل على حديقة أُوانوو العامة.حيث المتاحف وقاعات الفنون وجامعات الفنون الجميلة.