القاهرة 13 يونيو 2017 الساعة 10:11 ص
جميل بشير هو رائد الموسيقى العراقية الحديثة، ولد في عام 1921 في مدينة الموصل الحدباء. ومنذ طفولته وحتى وفاته في لندن في 27 أيلول 1977 ظلت الموسيقى بمثابة مبرر وجوده الأساسي. تتلمذ في البداية على يد والده الذي كان صانعاً ماهراً لآلة العود وعازفاً مبدعاً تعرفه الموصل التي كانت مركزاً رئيسياً للموسيقى في الشرق الأوسط. إذ كانت ساحة لقاء وتفاعل بين الموسيقى العراقية وتيارات وأساليب الموسيقى التركية والعربية والكردية والإيرانية. وعندما غادر جميل بشير مدينته للدراسة في بغداد كان قد غادرها عازفاً ماهراً أصلا. لكن انتقاله إلى العاصمة العراقية لعب دوراً حاسماً في تطوره الكبير اللاحق. فقد تعلم الكثير من الدراسة في معهد الفنون الجميلة ببغداد واستفاد بشكل واضح من أستاذه الموسيقار الشريف محي الدين حيدر مؤسس ومدير المعهد، وظل يحفظ له اعترافاً بالفضل حتى عندما أصبح جميل بشير الموسيقار العراقي الأكثر شهرة، وعبّر عن امتنانه هذا من خلال نشره عدة تأليف موسيقية مجهولة لأستاذه، الذي بلور لديه نزوع المغامرة مع الألحان الصعبة والحرص على ايلاء الجانب التقني والعلمي أهمية خاصة في العزف كما اخذ عنه ضرورة تدوين النوتات الموسيقية لكل ما يقع بين يديه من الحان تراثية إضافة إلى ألحانه المبتكرة. وكان هذا الجانب يقصى عادة من حساب الموسيقيين العراقيين قبلئذ بسبب غرابته آو صعوبته
وفي معهد الفنون الجميلة أيضا استفاد جميل بشير كثيراً من الموسيقار التركي الكبير مسعود جميل الذي عمل لزمن في المعهد رئيساً لفرع الموسيقى، وظل كتاب «سماعي هماوند» الذي ألفه مرجعاً ثميناً لجيل من الموسيقيين العراقيين. فقد درس جميل بشير ستة سنوات في معهد الفنون الجميلة. إلا أن شهرته الموسيقية لم تنتظر تخرجه من المعهد إنما ذاعت بين الناس وهو طالب بعد. ومن الطريف ان نشير هنا إلى ما كتبه الشاعر السوري فخري البارودي عندما زار بغداد في 1943 حيث يذكر بانه حضر أمسية موسيقية تكريماً له أقامها طلاب معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعندما سمع عزفهم أثار إعجابه بشكل خاص طالب في الصف السادس يدعى جميل بشير قدم معزوفة اسمها «سماعي ديوان» أثارت دهشته لجمالها وعمق أدائها إلى درجة أن البارودي وقف بعد العزف وارتجل أبياتا من الشعر تكريماً للطالب جاء في مطلعها جميل بشير انك سوف تغدو بشير الانس بالفن الجميل قليل في البلاد اذا عددنا عباقرة الفنون بكل جيل
وبغض النظر عن بساطة هذا الشعر، فان ما توقعه البارودي حصل بالفعل. فبعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة عمل جميل بشير مراقباً للأناشيد المدرسية في وزارة المعارف. وبصفته هذه قام بوضع عشرات الألحان المخصصة للأطفال والتلاميذ ما لبثت أن عممت على مدارس البلاد وانتشرت بسرعة لما تتميز به من أصالة موسيقية وروحية جديدة. وقد جمعها مع النوتة فيما بعد ونشرها في كتاب بعنوان «مجموعة أناشيد المدرسة الحديثة»، صدر في 1949 عن مطبعة التفيض ببغداد. بموازاة ذلك واصل جميل بشير التألق في العزف على العود والكمان (وعلى البيانو فيما بعد). وحينما جرى تأسيس الفرقة الموسيقية العراقية الجديدة في العام 1948 اختير ليكون أهم عناصر هذه الفرقة التي ضمت أيضا خضر الياس، عازف الناي الكبير، وعددا من العازفين الآخرين. وقد سمحت له تجربته الطويلة في الفرقة بتطوير مهارة الارتجال الموسيقي لديه وأهلته للقيادة الموسيقية حيث كان يضطلع بنفسه بوضع نوتات الإلحان التي تؤديها الفرقة ويحرص على تدريب زملائه على تنفيذها بدقة بعد ان كان يقوم بتحفيظها لمن لا يجيدون قراءة النوتة منهم، كما سمحت له بتعميق معرفته بالتراث الموسيقي العراقي ليصبح احد ابرز الذين ساهموا في حمايته من الضياع وتطويره، اذ قام بتدوين أصعب الألحان القديمة لاسيما في مجال المقامات، من بينها مقام الراست الذي دونه من اول الى آخره وقدمه لأول مرة انطلاقاً من النوتة المدونة في أحدى حفلات معهد الفنون في أواخر الخمسينات.
ومن جانب آخر عمل جميل بشير على إضافة مقدمات موسيقية من تأليفه لعدد كبير من الأغاني الشعبية لتغدو اليوم جزءاً لا يتجزأ منها. كما رفد الموسيقى العراقية بعدد من الإلحان الجديدة والمبتكرة والمحافظة في نفس الوقت على الطابع العراقي. والى جانب دوره في الفرقة وفي مجال الإنتاج الموسيقي، عمل جميل بشير أستاذا للموسيقى، ولتدريس العود خاصة، في معهد الفنون الجميلة طوال فترة تجاوزت العشرين عاماً ساهم خلالها في تدريب وتكوين نخبة من الموسيقيين الذين لمعوا فيما بعد. وكتب عدداً من البحوث والدراسات الموسيقية التطبيقية أشهرها كتاب بجزئيين عنوانه «العود وطريقة تدريسه» نشره في عام 1961 وضمنه العديد من نوتات المقامات العراقية ولازال لحد ألان من بين أهم المراجع في هذا الصدد. ولقد تفرغ جميل بشير في العقد الأخير من حياته إلى الكتابة الموسيقية في بيته الذي حوله إلى «ورشة عمل» لتسجيل الأغاني العراقية.
من كل ما تقدم نستطيع ربما تكوين فكرة وافية حول المكانة الرفيعة التي يستحقها جميل بشير في تاريخ تطور الموسيقى في العراق. ودون الادعاء بأننا نعرف كل شيء عن هذا الموضوع سنحاول هنا الإشارة إلى الميادين الرئيسية التي توزعت عليها هذه المساهمة حسب معرفتنا الخاصة.