القاهرة 13 يونيو 2017 الساعة 09:53 ص
كان توفيق الحكيم شديد الوعى بالخصوصية الثقافية لشعبنا، كما كان كثيرالتنوع فى الإبداع فكتب (فى مجال المسرح) أكثرمن مسرحية اجتماعية، وكذلك مسرحيات عديدة استمد مادتها من التاريخ، وكانت له تجربة فى كتابة ال (مسرواية) فى (بنك القلق) كما كانت له محاولات عديدة فى كتابة مسرح اللامعقول، مثل مسرحية (مصيرصرصار) ومسرحية (الطعام لكل فم) ومسرحية (يا طالع الشجرة) التى استلهم عنوانها من موتيفة شعبية مصرية، حيث كان الفلاحون يُغنون: يا طالع الشجره.. هات لى معاك بقره..إلخ.
فى تلك المسرحية سيدة تغزل ثوبــًا لابنتها.. فهل لدى تلك السيدة ابنة؟ وهل هى حامل وتنتظرلحظة الولادة؟ أم أنها خلقتْ عالمًا وهميًا وصدّقته؟ فى الصفحات الأولى لايُـفصح الأديب عن مكنون وجوهرتلك السيدة، ولكن عندما تخرج من البيت ولاتعود، وبعد أنْ غابتْ لمدة ثلاثة أيام، فإنّ الحكيم كتب
المشهد التالى بين المُحقق والخادمة. قالت الخادمة أنّ سيدتها خرجتْ من البيت لشراء الخيوط لتنسج ثوبًا لبنتها بهية، فسألها المحقق
: المٌحقق: بنتها؟
الخادمة: نعم بنتها بهيه.
المحقق: وأين هى بنتها بهيه؟
الخادمة: لم تولد.
المحقق: لم تولد؟ ومتى ستولد؟
الخادمة: لن تولد.
المحقق: وكيف تعرفين أنها لن تولد؟
الخادمة: كانت ستولد من أربعين سنة. ولكنها لم تولد.
المحقق: ما دامتْ قطعتْ الخلف ولم تلد ولم تولد.. فلماذا تنسج ثوبًا لبنتها التى لم تولد ولن
تولد؟
الخادمة: إنها تراها وُلدتْ كل يوم.. وتولد كل يوم.
فى هذا المشهد ترجم الحكيم– إبداعيًا– حالة الإنسان الذى يخلق لنفسه عالمًا من الأوهام ويـُـصـدّقه. ورغم أنّ تلك الأوهام تبدو- فى بداية نشأتها– على أنها عابرة وسوف تزول، فإنّ مكمن الخطورة عندما تــُـسيطرتلك الأوهام على الإنسان يومًا بعد يوم، فيكون أسيرًا لها، وبعد حالة الأسر، يكون من الطبيعى أنْ يُصدق نفسه، أى يُصدق أوهامه، لدرجة أنّ تلك السيدة– فى المسرحية- كما قالت الخادمة- أنها ترى ابنتها كل يوم.. وتراها تولد كل يوم.. رغم أنّ البداية تعود إلى أربعين سنة مضتْ. وبما أنّ الولادة الحقيقية لم تحدث، فإنّ الخيال– خيال هذه السيدة- أناب عن الواقع. فمن هى تلك الابنة (الرمزية)؟ ولماذا اختارلها اسم (بهية)؟ وهواسم يستخدمه الشعراء كناية عن مصر؟ ومامغزى أنها لم تولد ولن تولد، ثم التأكيد على أنها ((تولد كل يوم))؟ ألاتؤكد كل تلك الإيحاءات أنّ الحكيم كان يستشعرالخطر، إبان الحكم الناصرى، خاصة وأنه كتب تلك المسرحية عام 1962؟ فترة الحكم الشمولى، فهل يمكن أنْ تولد مصرمن جديد؟ وأعتقد أنّ هذا هومغزى قول الخادمة (الذى يبدومُــتناقضـًا من الناحية المنطقية) أنّ (بهية) لم تولد ولن تولد، ومع ذلك فإنها ((تولد كل يوم)) أى أنّ مصر- رغم كل المآسى التى تتعرض لها، تفرض وجودها بفضل شعبها، لابفضل حكامها.
مشهد: حواربين مفتش القطاروالدرويش:
فى هذا المشهد يستلهم توفيق الحكيم مفردات الواقع المصرى، ويغزل عليه رؤاه من خلال مايُسمى (اللامعقول)
وبينما مفتش القطارسأل الدرويش: هل تعرف ماذا أطلب من حياتى؟ فإنّ الدرويش يرد عليه بالأغنية التى كان الفلاحون يُردّدونها (أيام أنْ كان شعبنا يُنتج ثقافته القومية قبل غزوالراديووالتليفزيون لقرى الفلاحين) قال الدرويش لمفتش القطار:
يا طالع الشجره هات لى معاك بقره
تحلب وتسقينى بالمعلقه الصينــــــى
فما علاقة الأغنية بالسؤال؟ وهل فوق الشجربقر؟ إنه الخيال الشعبى، الذى يُـكمل ماعجزعنه الواقع، أوهوبديل الواقع. وهذا الحل (الشعبى/ الفانتازى) يراه علماء الاجتماع أنه درجة من درجات مقاومة بؤس الحياة، بغرض الاستمرارفى الحياة. لذلك كان الحكيم موفقــًا عندما جاء رد مفتش القطار– بعد أنْ سمع الأغنية: ((يظهرإنك عرفتْ)) والحكيم فى هذا الرد المُـختصر، ترك مساحة للقارىء ليُكمل باقى الجملة: أى أنك أيها الدرويش عرفتَ طلبى. بعد ذلك يستمرالحواربينهما على هذا النحوالبديع الذى مزج فيه الحكيم الواقع بالفانتازيا:
الدرويش: العارف لايُعرّف.
المفتــش: إذن لاحاجة بى إلى الشرح.
الدرويش: هناك فى ضاحية الزيتون.
المفتــش: ضاحية الزيتون؟
الدرويش: هناك سوف تجد...
المفتــش: أجد ماذا؟
الدرويش: الشجره.. فى الشتاء تطرح البرتقال.. وفى الربيع المشمش.. وفى الصيف التين..
وفى الخريف الرمان.
المفتــش: شجره واحده؟!
الدرويش: واحده.. كل شىء واحد.. هناك الشجره والبقره والشيخه خضره.
المفتــش: الشيخه خضره؟!
الدرويش: كل شىء أخضر.. كل شىء أخضر..
المفتــش: كل شىء أخضر؟ّ! هذا كلام مُـطمئِن..
الدرويش: إلى حين.
المفتــش: أترى شيئــًا مًــكــدّرًا؟
الدرويش: لاتــُـلق علىّ أسئله.
فى هذا المشهد– شديد الكثافة- فإنّ الحكيم– بسلاسة إبداعية- نقل القارىء من الشجرة التى تتربّـع فوقها بقرة، كما أراد خيال الفلاح المصرى، إلى شجرة عجيبة هى الأخرى، تطرح فاكهة الشتاء والربيع والصيف والخريف، أى أنها شجرة كل فصول السنة. ولكن السؤال هو: هل توجد شجرة (واقعية) لها تلك القدرة الخارقة على انتاج فاكهة كل الفصول؟ أم هى شجرة رمزية لشىء أبعد وأعمق؟ الاجابة– من خلال الحوار- إنها شجرة رمزية، رمزية لأى شىء؟ رمزية لما قاله الدرويش وهويتحدّث عن الشجرة حيث قال: هناك الشجره والبقره والشيخه خضره. فإذا كانت (الشجرة) رمزالخضرة والجمال والعطاء، والبقرة رمزحتحورالتى قدّسّها جدودنا المصريون، وكانت ترمزللجمال، وتــُـرضع الآلهة والبشر، كما جاء فى البرديات وعلى الجداريات العديدة، فإنّ ذلك الثنائى (الشجرة والبقرة) هوالتمهيد لما قصده الحكيم عندما وضع بعدهما مباشرة (الشيخة خضرة) فمامغزى هذا الاسم (والأدق هذا الرمز)؟ لا أغالى إذا قلتُ أنّ الحكيم كان يقصد (طبيعة الأرض المصرية) العفية القادرة على العطاء، وقد بنيتُ اعتقادى هذا من الحوارالذى داربين الدرويش والمفتش الذى سأل مُـندهشـًا: الشيخة خضرة؟ فردّ الدرويش عليه: كل شىء أخضر. ثمّ كانت المفاجأة– الإبداعية- عندما وضع الحكيم على لسان المفتش تلك الجملة الدالة: كل شىء أخضر؟ هذا كلام مُـطمئِن. ولكن الدرويش– وبالأدق هذا رأى الحكيم– قال: ولكن إلى حين. وهنا براعة الحكيم– فى هذا الحوارالمُـكثف– أى أنّ الخضرة والنماء وبالتالى الاعتماد على الزراعة- أى الاعتماد على كل ماهو أخضر، قد يدوم أولايدوم، لأنّ المسألة تحتاج إلى وعى وطنى بأهمية الزراعة. وتأكــّـد ذلك عندما سأل المفتش: أترى شيئــًا مُـكــدّرًا؟ ولأنّ الحكيم يرفض أنْ يكون للإبداع أى دورفى تقديم الإجابات الجاهزة، جعل الدرويش يرد على السؤال قائلا: لاتــُـلق علىّ أسئلة. وهكذا ترك الحكيم الإجابة للقارىء. بمعنى التفكيرفى مصيرالزراعة المصرية : هل هناك أشياء تقف ضد النموالزراعى؟ وما العمل؟
أعتقد أنّ الحكيم فى هذه التجربة من تجارب مسرح اللامعقول، استطاع أنْ يمزج الواقع (المصرى) بمفرداته (من الطبيعة المصرية ومن الفلوكلورالمصرى) بالفانتازيا، لأنه استلهمَ واستوعبَ التيمات الشعبية التى أنتجها الأميون المصريون. وهذا الجانب من إبداع الحكيم تجاهله أغلب النقاد.