القاهرة 13 يونيو 2017 الساعة 09:46 ص
نيو-كلاسيك هي سلسلة تهتم بإعادة مراجعات لأفلام من ذاكرة السينما العالمية، في محاولة لقراءة ما بين سطور الفيلم، وما وراءه.
عندما يشاهد المرء فيلماً تم إنتاجه قبل مولده بعدة سنوات، فإنه عادة ما يبحث عن حنين للماضي، أو مشاعر ماتت وانتهت ومن الصعب استنساخها. ليست هذه هي الحالة مع فيلم راينر فاسبيندر "علي: الخوف يأكل الروح" Ali: Fear eats the soul.
بعيداً عن العنوان شديد الشاعرية والجمال، فإن هذه السينما صنعت لتخلد، لأنك تستطيع أن ترى شيئين فيها:
أولاً: العالمية: بطلا الفيلم هما علي أو الهادي بن سالم مبارك محمد مصطفى، المغربي المنبوذ في ألمانيا ما بعد مذبحة ميونيخ الشهيرة في الألعاب الأوليمبية عام 1972، وهي ألمانيا شديدة العدائية لأي شيء يمت للعربية بصلة، وإيمي، عاملة النظافة ذات الستين عاماً، والتي تخجل من أن تعترف بمهنتها، وعلى الرغم من كبر سنها، إلا أنها مازالت تحمل قلب طفلة، يهوى استكشاف العالم، ويبحث عن الألفة في قلب عالم قاس على امرأة عجوز وحيدة مثلها. لو استبدلت علي وإيمي، بأي زوجين لا يتوافقان والنظرة المجتمعية المثالية للزوج والزوجة الذكر والأنثى اللذين يحظيان بقبول مجتمعي عريض، ويتماثلا والشكل العام للأسرة النووية الطبيعية، يمكنك استنساخ "علي: الخوف يأكل الروح" في أكثر من بلد، على مدار فترات زمنية متباعدة.
ثانياً: الانسانية: علي وإيمي ليسا مجرد رجل وامرأة تقابلا في خضم الوحدة والكراهية التي تحيط كل منهما. إنهما روحان مضطربان، ما بين خجل إيمي المحبب من مهنتها، وبقاء علي وحيداً في الفراش، غير قادراً على النوم بينما الأفكار تأكل روحه، يتصل بينهما خط رفيع؛ ليس حباً بالمعنى الهوليوودي ولا الشكسبيري، عاطفة أكبر من قدرتهما على استيعابها، لكنها تمنحهما سلاماً وأماناً، يحاولان به اتقاء شر العالم. وعلى الرغم من الحب، فإن علاقتهما ليست وردية ولا شاعرية على طريقة أفلام هوليوود، لكنها علاقة حب يغلفها القلق، والتنازع على ميزان القوة، والخوف؛ في حالة إيمي، من الوحدة والهجر، وفي حالة علي، من الانسحاق تحت هوية إيمي وسلطتها.
ممكن اكتشاف ملمح من الوحدة كما يصورها الألماني العبقري راينر فاسبيندر –والذي كان عشيق الهادي بن سالم الممثل في الحقيقة بالمناسبة- في الوحدة التي ينقلها مخرج هونج كونج العبقري وونج كار-واي، إنها الوحدة التي تسيّر الأبطال، وربما تتحكم في مصائرهم ذاتها. الكادرات الضيقة التي يحاصر فيها كار-واي أبطاله، خاصة في فيلم مثل "في مزاج الحب" In the Mood for Love والذي أخرج فيه كار-واي كل طاقته الإبداعية من حيث تكوين الكادر والتعبير البصري عما يعتمل في نفوس الأبطال من خلال تأطير الكاميرا للبطلين وحصارهما بحيث يبدوا غير قادرين على الفرار، أو حتى في فيلم مثل "تشانكيج اكسبرس" Chungking Express حيث الوحدة والعزلة تدفع الأبطال نحو تصرفات غير محسوبة ولا مرسومة، كأنما هي يد إلهية خفية تحركهم من خطوة لأخرى، دون أن يملكوا تفسيراً لهذا؛ من الشرطي الذي يهيم حباً بالجارسونة الغامضة التي تنظف وترتب منزله في غيابه دون أن يشعر، إلى الشرطي223 الذي يقع في غرام امرأة غامضة ترتدي باروكة شقراء ويأخذها معه لغرفته بالفندق، ويقضيا ليلة دون أن يفعلا شيئاً يذكر.
وعلى العكس مما يتصوره العقل العربي –وحتى الغربي- عن الطول الفاره الذي يمنح صاحبه الثقة والخيلاء، فإن علي بقامته الطويلة، يبدو غير مرتاحاً، يقف إلى جانب إيمي في المشهد الذي تواجه فيه أبنائها بزواجها منه، كأنما هو على استحياء، خجلان من وجوده الذي يحتل حيزاً كبيراً من الفراغ.
ملحوظة: جدير بالذكر أن هذا الوصف استخدم عند التعبير عن ممثل تليفزيوني شهير، وهو جارد بادليكي Jared Padalecki، بطل مسلسل الخيال العلمي الشهير Supernatural، ومؤخراً، اعترف بادليكي بكونه مريض بالاكتئاب منذ فترة، والمتابع لسيرة الممثل المغربي الذي قام بدور علي –واسمه الحقيقي بالمناسبة، هو نفس اسم الشخصية؛ الهادي بن سالم- يجده وقد سقط فريسة لإدمان الكحوليات والكوكايين، وعاش حياة عاصفة، دفعته للانتحار. قد يبدو جلياً عمق تأزمه النفسي في أدائه لشخصية علي، وقد يبدو تمثيله متخشباً، وليس عبقرياً، لكنها تلك الأزمة الحقيقية التي انعكست على أزمة الشخصية النفسية، واستطاع فاسبيندر ببراعة استغلالها لصالحه في إخراج فيلم بديع التكوين، ومخادع في الأداء.
بالميزانسين* والحوار التقريري إلى حد كبير، يضع فاسبيندر بصمة إخراجية مميزة، هي التي تمنح الموضوع طزاجة، رغم أنه في حقيقة الأمر تم استلهامه من ميلودراما أمريكية تحمل بصمة المخرج الألماني دوجلاس سيرك بعنوان All that Heaven Allows. لكن النسخة الأمريكية عام 1955 لم تدخل عامل الاختلاف العرقي في الحسبان، واستخدمت الطبقية عنواناً لنقد المجتمع وإظهار قبحه في العداء الصريح لما يخل بالتوافقية التي بني عليها خاصة في الطبقة البورجوازية، وتعاملها مع الطبقات الأدنى، وأيضاً للنفاق المجتمعي في أكثر صوره
تم اتهام فاسبيندر في أكثر من فيلم بالميزوجينية من خلال إظهار شخصيات نسائية مقولبة واستخدام قوالب جاهزة سطحية للمرأة سواء مغايرة الجنس أو المثلية في فيلم مثل The Bitter Tears of Petra von Kant، لكنه يستخدم هذه القوالب للعبث بميزان القوة في الحب والعلاقات الانسانية بصفة عامة، مما يوضح القدرة التي بها يختل ميزان القوة في لحظة، عن طريق الجنسانية. في مشهد شديد العذوبة، نتلصص كمشاهدين على علي وهو يستحم عارياً، من خلال انعكاسه في المرآة، وبينما تدخل إيمي لتخبره بأنها حضرت له فنجاناً من القهوة، تتطلع إلى جسده في مزيج من الإعجاب والحسرة، وتخبره بأنه جميل للغاية.
مشهد كهذا يهدم ميزان القوة تماماً، خاصة ذلك المتعلق بالرجل المتلصص الفاعل، الإيجابي، والمرأة المتلصص عليها، المستقبلة، المفعول بها، فالمرأة هنا هي ابنة المدينة الأصلية، رغم كبر سنها، هي الأكثر قدرة على إدارة هذه الحياة، والرجل هنا هو الجسد الذي امتلكته لاحتياجها لما هرب منها شباباً وجمالاً وبراءة، بينما هو يحتاج إلى قدرتها على المواجهة ومعرفتها الأكبر، وبراح حياتها الذي قطعاً سيحتوي خوفه وتطلعاته.
(هذا المقطع يتضمن حرق لنهاية الفيلم)
والخوف فعلياً أكل علي، بإصابته بقرحة معدة ناتجة عن التوتر، فإن معدته فعلياً التهمت نفسها، خوفه أكله رغم أن هو الذي أخبر إيمي بعد أول لقاء عاطفي بينهما بأن عليها "ألا تخاف، فالخوف يأكل الروح." لم يكن يدري أنه بهذا يتنبأ بتآكل روحه المغتربة في هذا البلد التقدمي الموحش.
*الميزانسين: مخطط أو تصميم مؤلف من تنظيم وتوزيع الممثلين في اتصالهم مع بعضهم البعض ومع المحيط أو المنظر.
تعريف آخر: هو تنسيق وحركة الأشياء المنتقاة في علاقتها بمجال الكادر.
من كتاب النحت في الزمن لأندريه تاركوفسكي