القاهرة 06 يونيو 2017 الساعة 01:39 م
قد يذهبُ في ظنّ البعض أنّ الحداثة في وجهٍ من وجوهها، تنكّرٌ للماضي، اِنبتاتٌ عن الجذور و اِستيلابٌ للهويّة. أو بمعنى أدقّ هي قطيعةٌ ناجزة مع تراثنا الفنيّ الأدبيّ و الدينيّ، و تبرّؤٌ من رموزنا التّاريخيّة الحضاريّة و إن بشكل غير واعٍ. و إلاّ كيف نفهم - ونحن في عصر تمزّقتْ فيه وحدتُنا، و اِنفصمتْ عُرْوتُنا، و أُصيبتْ في مقتلِهَا عُروبتُنا- هذا الإمعان في جلد الذّات بتكريس ثقافة الدونيّة و الإنغلاق بدل اِلتفافنا حول أنفسنا علّنا نفلحُ في رتق ذاك الصّدع الذّي ما فتئتْ تتسّع رقعتُهُ، بل أنّى للنّزف أن يتوقّف و مشرط الاغتراب لا يزال يسري في أوصالنا؟ أفليس اِنقسامُنا ناتجا بالأساس عن فرقتنا الثقافيّة قبل أن يكون مردّه سياسيّا أو اجتماعيّا أو اقتصاديّا؟ أين نحن من الوعي الحضاريّ تجاه الماضي و التّاريخ باعتباره جسر العبور لبناء معاصرة تهضم التّالد و الطّارف من فنوننا؟ أترانا نسينا أم نتناسى أنّ الحاضر وليد الماضي و نسغه و الإثنان معا سبيلنا الأوحد لبناء مستقبل متوهّج؟ فمن الخطأ الافتراض، أنّه من أجل المعاصرة و الحفاظ على القيم الذّوقيّة الجماليّة و درءًا للنّشاز، لابدّ من تفعيل آليّة الهدم لتجرف معالمنا الثّقافيّة و الفنيّة و لتقبر الرّموز الرّائدة في تاريخنا و الحال أنّها عصيّة عن الإجهاض باعتبارها جزءًا لا يتجزّأ من حاضرنا. ذاك مع الأسف الشّديد واقع جلّ مبدعينا و فنّانينا و كتّابنا العرب، عاشوا بيننا منسيّين مغيّبين و كذا قضوْا. لِم علينا أن نقبل صاغرين بهذا التصحّر الثّقافيّ في ظلّ صمت مدقع من قبل الجهات المختصّة؟ ألأنّه لا أحد يفوق السّاسة العرب –إلاّ ما رحم ربّي- في المماطلة و التّسويف؟ الكلّ يجيد فنّ التنصّل من المسؤوليّة و اِيجاد المبرّرات و الشمّاعات لأفعاله مهما كانت فداحتها، لكن أين وعينا و إحساسنا –نحن جمهور القرّاء و روّاد الفنّ و محبّيه- بالمسؤوليّة تجاه إرثنا الفنيّ و الأدبيّ؟ أين تقديرنا لرموزنا و أعلامنا و زعمائنا؟ لِم نطوي صفحات تاريخهم و نلقي بها في غياهب النّسيان في زمن يعصف به خلل الهويّات و التعصّب؟ قد تفرِّقنا كشعوب عدّة عوامل من بينها اللّون، العرق، اللّغة و الدّين، لكن "وحده الإبداع قادر على كسر الجليد الواهم بيننا" . فمن منّا لا يطلق العنان لآهاته و زفراته على وقع أغنية "بعيد عنك" لكوكب الشّرق أمّ كلثوم؟ من منّا لا يأسره الزّخم الإبداعيّ و الطّاقة التّخييليّة و الهطل الرّومنسيّ في قصيدة "كلمات" لنزار قبّاني؟ بل من منّا لا تأسر لبّه لوحة "الموناليزا" أو "العشاء الأخير" لليوناردو دافنشي؟
حقيقةٌ يندى لها الجبينُ تلك التّي تطالعنا بوجه سافرٍ و تخبرنا كم نحن إلى شتاتٍ و تحلّل قيميّ، فبينما هم يبنون ذاكرة الوطن و يجتهدون في البحث عن أنجع الطّرق لحفظها و توريثها على اِمتداد أجيال، نستنفر نحن معاولنا و جرّافاتنا لهدمها، بينما هم يجعلون بيوت مبدعيهم متاحف مفتوحة، نحوّلها نحن إلى مقالب قمامة. حتّى الأماكن التّي ِارتادها مشاهيرهم أو تلك التّي ذكروها في أعمالهم الأدبيّة و الفنيّة غدت مزارات سياحيّة هامّة، من ذلك مثلا قرية "سترادفورد" التّي وُلدَ بها شكسبير و هي تدرّ دخلا سياحيّا كبيرا ينعش ميزانيّة الدّولة، و كثيرا ما تطالعنا في جلّ الفنادق الفرنسيّة شرائح نحاسيّة تتصدّر أعلى أبواب الحجرات و قد دُوّنت فيها بعض المعطيات الخاصّة بمرتاديها من الفنّانين أو المبدعين مع ذكر تواريخ زياراتهم بدقّة، و اللاّفتات ذاتها سجّلت حضورا بارزا في المقاهي الباريسيّة و تحديدا على خلفيّات المقاعد أو الأرائك. و يكتسي الاحتفاء بالمكان بعدا إنسانيّا رمزيّا، لما له من دور في خلق ذاكرة مشتركة بين الأمكنة و زوّارها.
و من الإنصاف بمكان أن نثمّن بعض التّجارب العربيّة التّي عملت على تكريم جملة من الرّموز ممّن ساهموا في صنع تاريخ بلدانهم فنيّا و ثقافيّا و سياسيّا أو كان لهم دور في إثراء الوجدان العربيّ، فتمّ تحويل منازلهم إلى معالمَ تراثيّة (عبد الحليم حافظ / محمد عبد الوهاب / طه حسين/ جمال عبد النّاصر/ نزار قبّاني/ أسمهان الأطرش/ إلياس أبو شبكة...) هذا و تمّ اِستغلال بيت كلّ من أحمد شوقي و بدر شاكر السيّاب كمقرّات تحتضن أبرز الفعاليّات و الأمسيات الأدبيّة الفكريّة. و هي لا تختلف في ذلك عمّا حظيت به أكبر الأسماء العالميّة من تكريم و تقدير أمثال (هوجو/ ديكنز/ شكسبير/ غوتة/ بيتهوفن...).لكن ماذا بشأن منزل نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، و ما تعرّض له من إهمال و تجاهل حتّى أنّه غدا ورشة لتصنيع النّرجيلة، و متحف أحمد عرابي الذّي بات وكرا لمدمني المخدّرات؟ و كيف تمّ التّفريط في منزل سيّدة الغناء العربيّ أمّ كلثوم ليصبح عمارة؟ و بم يُبرّر هدم منزل شاعر "الحياة" أبو القاسم الشّابي الذّي لطالما ردّدنا بيته الشّهير: "إذا الشّعب يوما أراد الحياة فلابّد أن يستجيب القدر" هذا البيت الذّي اتُّخذَ كشعار ليس فقط لثورة الياسمين في تونس، بل لكلّ الثّورات العربيّة. ألهذا الحدّ بلغ بنا الاستهتار برموز الفنّ و الإبداع رغم ما قدّموه من منتج إبداعيّ خالد؟ إنّه لمن المضحكات المبكيات أن نقوّض بُنياننا ثمّ نقف على أطلاله مولولين متحسّرين. ممّن سنقتصّ للشّابي، هذا الذّي وهبنا الحياة فأهديناه خنجرًا مسمومًا؟ أمن وزارة الثّقافة التّي لم تف بوعودها؟ أم من ورثته الذّين أعمى عيونهم الجشعُ فتقاضوا بعض الدّريهمات الصّدئة مقابل التّفريط في تركة لا يمكن أن تبلى مهما عفا عليها الزّمن؟ أم من أنفسنا لأنّنا لم نهبّ لنجدته و تقاعسنا عن دورنا التّاريخيّ؟ أو لسنا بذات نخوة المواطنين الألمان حين قاموا بشراء بيت "بيتهوفن" و ترميمه حتى صار متحفا؟
ربّما كان الإشكال الجوهريّ في عالمنا العربيّ غياب الوعي بقيمة إرثنا الحضاريّ، فما حدث مع منزل الشّابي ليس سوى مواصلة لثقافة برمّتها اِستوطنت العقول و لم تبرحها؛ ثقافة التّقويض. فهاهو مسرح السّلام بالاسكندريّة يغدو هباء منثورا، و قد سبقه في ذلك منزل كلّ من أحمد رامي، بيرم التّونسي، سامي البارودي، و في بغداد يتهدّد قرار الهدم منزل الجواهري وسط موجة من التّنديد و الشّجب، و الأمثلة على ذلك لا تُحصى و لا تُعدُّ.
و صفوة القول أنّ ذاكرتنا الجمعيّة تتعرّض لهجمة تشويهيّة شرسة تروم التّاريخَ أن تمحوَهُ و الهويّةَ أن تمسخَها. فمن غيره هذا المثقّف المهّمش في حياته المغيّب بعد مماته يعمل بما يخلّفه من مخزون ثقافيّ و معرفيّ و بما يرسّخه فينا من قيم، على حفظ ذاكرتنا و ربط حاضر أمّتنا بماضيهَا؟ تلك خطوطنا الدّفاعيّة أمام حرب الهويّة و الذّاكرة، إمّا أن نعزّزها أو نقبل في كينونتِنَا التّعازي.