القاهرة 30 مايو 2017 الساعة 01:27 م
هل رأسى جاهز اليوم لاكتب شيئا ذا أهمية ؟ ومن ينتبه لهذا الألم ؟
كنت دائماً أخدع بمس الكتابة الواقعية وعشقتها على يد العمالقة فى الأدب الروسى ، وكنت مغرمة بإبداع تشيكوف ودستويفسكى ، وحزنت حزناً شديداً عندما قرأت رواية (المعطف) لجوجول ، وبكيت على (موت موظف) لتشيكوف ، هكذا تكونت ذائقتى فى البداية عام 1982 وأنا اقرأ قصة (نظرة) للكاتب يوسف أدريس ، وعندما حصل ماركيز على جائزة نوبل للآداب
جمعت كل أعماله وقرأتها بداية من مجموعة (عينا الكلب الأزرق ، وانتهاءً بأن تعيش لتحكى)
وأغرمت أشد الغرام بالواقعية السحرية ، وبهرنى هذا العالم الثرى الجميل ، وازداد نهمى للقراءة ، وبدأت الحياة الطبيعية فى تفاصيلها الصغيرة تنسحب من تحت قدمىِ شيئاً فشىء ، وكلما قرأت كتاباً ، أرانى أعلو وأعلو وأعلو ، أعلو عن الصغائر ، أصبح طموحى هو كتابة قصة أو رواية مثل هؤلاء الكبار ، وكنت أشبه التلميذ المجتهد الذى يحرص أول بأول على المذاكرة ، وعمل الواجب ، وأسعى جاهدة للندوات والمؤتمرات ، وأتسعت دائرة القراءة ليس فى الأدب فقط ، ولكن فى الفلسفة والنقد وعلم الجمال وعلم النفس والأديان ، وكلما سمعت عن كتاب جديد أسعى جاهدة لشراءه وقراءته ، أصبحت (دودة قراءة) بمعنى الكلمة ، لا يمر يوماً أو يومين دون قراءة ساعتين على الأقل ، وزاد على ذلك حب العلم .
" مرت حياتى أمام عينى فى لحظة ، هى لحظة فقط ، مرت كأنها دهراً كاملاً ، أو كأن شريط سينما يدار أمامى منذ المولد ، وانتهى بالوقفة الشامخة أمام القاضى فى ساعة المحكمة ، والحاجب ينادى بصوت جهورى مرتفع : محكمة " ودخل السادة القضاة بالأرواب الجميلة .
شىء ما غريب يحدث الآن !
حياتى يتم إعادة ترتيبها من جديد !
بدأت برؤية وسماع أشياء غريبة !
الحلام فى منامى تختلف عن الأحرم السابقة !
ثمة صراع ومعارك ، ثمة مهازل تدبر ، وتتم فى غيابى .
ثمة أفكار وأفعال خائبة من الآخرين تحط علىَ .
نحن فى زمن ضاع فيه اليقين ، تفتت الضمير ، ظهرت خزعبلات وخرافات ، وأصحاب الأفكار الرديئة يصعدون ، ويختفى الرواد ، ويشوه الزعماء .
إن شخصيتى تتغير ببطء على نحو غير جيد ، وأخشى عليها من الانهيار .
هل أنا فى حالة كتابة اليوم ؟
اليوم أنا فى حالة كتابة !
أشياء كثيرة ومشوشة ، ومجرمة ومحزنة وغير سعيدة تمر بى ، هل الأقدار تلعب دوراً مهماً فى حياتى ؟
لماذا إذاً قتلنا الإله ؟ عندما كان ينزل الطفل من بطن أمه صارخاً ، وأسأل جدتى بخوف وفزع : لماذا يصرخ هكذا ياجدتى ؟
كانت تضحك بسعادة بالغة وتقول بحكمة العارف : إنه يصرخ صائحاً ويقول " يارب لماذا أخرجتنى من الوسع إلى الضيق ؟
أضحك بفم طفلة غير واعية ، هل الدنيا ضيق ياجدتى ؟
تضحك بخبراتها الواسعة : نعم يا ابنتى ، الطفل فى بطن أمه يشعر أنه فى ملكوت واسع ، يأكل ويشرب ، ويمرح دون حساب ، أما حساب الدنيا عسير ياصغيرتى ، وتضمنى إلى صدرها الكبير الواسع وهى تبسمل ، وتقرأ الفاتحة على رأسى الصغير : ربنا يكفيكى شرها ياحبيبتى ، الدنيا غرورة ، أياك والغرور ياصغيرتى .
هكذا كانت الجدة الحبيبة الخبيرة بالحياة ومعتركها ، تنصحنا نحن الصغار ، وننام فى حضنها الدافىء الكبير آمنين سعداء ، لا نحلم بشىء سوى باللعب والمرح والضحكات ، وهى تظل ساهرة فى فراشها ، تدعو الإله الكبير فى علاه أن يحفظ أبنائها وأحفادها الصغار من غرور الدنيا ، وأن يرحمها ، هى الكبيرة المسنة من عذاب القبر ، وتظل طوال الليل تصلى تدعو الإله القدير أن يخرجها من دار البلاء بلا بلاء .
بلا بلاء ياجدتى كنت تحبين الخروج من الحياة ، لقد كثر البلاء والغلاء والفحشاء والمنكر ، صار الناس فى تكالب ، والضعفاء يزدادون يوماً بعد يوم .
أين دعواتك الرحيمة ياجدتى ؟
أعرف أن جدتى كانت تهرس مشاعرى البريئة بكل نصائحها ودعواتها لى بالستر .
أوعى تلعبى مع الصبيان فى المدرسة .
أوعى تخدى منهم حاجة .
أوعى تقفى جنب ولد فى الطابور .
أوعى حد من الأولاد ياخد أكلك .
أوعى ..
أوعى ..
رحمتك ياجدتى ، فأنا طفلة صغيرة فى السابعة أو الثامنة من عمرها كيف لها أن تعرف مكر الأولاد وحنقهم ومكرهم ؟
وكانت تفصلنى فى النوم عن أخوتى ، ظللت أنام إلى جوارها مذ كنت طفلة صغيرة حتى أن بلغت الثانية عشرة فأصبح لى سريراً بمفردى ، كنت لا أحب ولا أضحك ولا أكل ولا أنام إلا مع نفسى وبمفردى .
وعندما كبر الأولاد صرت أنا البنت الوحيدة بالبيت التى تخاف من الصبيان ولا تلعب معهم ، وكانت ترتعش بشدة فى المحكمة عندما صحا الحاجب منادياً على اسمها بغلظة وقوة ، ووقفت أمام القاضى فى خوف وصمت شديد .