القاهرة 30 مايو 2017 الساعة 10:01 ص
د. إكرامي فتحي
جماله أخّاذ مُتعدِّد الزوايا وإن لم يُدْرك كُنْه هذا الجمال، هو لؤلؤةٌ نادرةُ النقاء، أنَّى نظَرَ الرائي إليها تناثرتْ أمامه أضواؤُها المتلألئة، ومن نواحي هذا
الإبداع المتميز تأتي لغته التي تشبه الأرابيسك في تداخلاتها وتقاطعاتها التي تقدم من المؤكد أن عالم نجيب محفوظ إبداع متعدد الروعة، يُبْهِر متلقيه أيًا كان مستوى التلقي، للقارئ صورًا ستى من الجمال.
في ضوء ذلك جاء كتاب "جماليات اللغة وبنية السرد الروائي" للدكتور إكرامي فتحي محاولةً نقدية ذات وجهة خاصة، تسعى إلى الوقوف على جماليات لغة ست من روايات نجيب محفوظ، هي: اللص والكلاب، السمان والخريف، الطريق، الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، ميرامار مع بيان دور تلك اللغة الفعّال في البنية السردية؛ وذلك اانطلاقًا من أن أحد مراكز الجمال في روايات محفوظ هو اللغة الخاصة التي تشكلت عبرها تلك الروايات، ورغم أهمية هذا المركز الجمالي فإن التفات النقد إلى سمات هذه اللغة ودورها كان قليلاً.
وعقب عتبة الإهداء الذي وجهه المؤلف إلى " نجيب محفوظ ....السارد الأروع في مدونة الرواية العربية ...النموذج الإبداعي الخالد ...للمثابرة ...ودوام التميز... ومقاومة النسيان" – جاءت المقدمة التي تناول عددًا من القضايا الممهدة إلى فصول الكتاب. من ذلك الحديث كانت مكانة "نجيب محفوظ" وسر تميزه في مدونة الرواية العربية، وحقيقة توجه الكتاب الحالي "جماليات اللغة وبنية السرد الروائي"، ومحاولته الإضافة إلى الخطاب النقدي المتسع الذي انشغل بإبداع نجيب محفوظ. ثم توضيح منهج الكتاب وإطاره النقدي، وذلك من خلال الإجابة على سؤالين: " ملحّين يفرضان أنفسهما: لماذا "لغة السرد
لدى نجيب محفوظ"؟ ولماذا "هذه الروايات الست"؟ .
وعبر تميُّز الظاهرة البحثية المختارة لأهميتها وقلة الالتفات إليها، وخصوصية الرؤية النقدية تجاهها، جاءت فصول الكتاب ومباحثه كالتالي: اهتم الفصل الأول "جماليات التراكيب بين ثراء الالتفات وتحولات البنية" ببنية المونولوج وأهم ظواهره الفنية التي كان لها دور في المنظومة الروائية، وقد شمل مبحثين: "التنوع الضمائري والتشكيلات السردية" ثم "تحولات البنية الأسلوبية وحركية الرواية".
وفي الفصل الأول كانت الوقفة التحليلية إزاء لغة المونولوج/ الحوار الداخلي، تلك اللغة التي كانت الأبرز في جمالياتها من بين المساحات السردية الأخرى، مثل: الحوار الخارجي، والوصف؛ فثمة حرية يستمتع بها السارد في صياغته للمونولوج؛ حيث لم يشترط الفنُّ الروائي مناسبة المونولوج لمستوى الشخصية كما في الحوار المباشر، ولم يكن التحديد البصري مجاله كما في الوصف، بل عادة ما تعلو النبرة الذاتية من خلال تلبُّس السارد بالشخصية؛ عندئذ تقترب لغة السرد من لغة الشعر، وتتسم بسمات فنية بارزة سيعمل هذا المبحث على بلورة أبرزها، من خلال الاعتماد على الموروث البلاغي في تحديد مظاهر جماليات اللغة، مع الالتحام بالحقل الإبداعي الموظفة فيه تلك اللغة بسماتها، وهو الرواية.
في ضوء تلك السمات الخاصة، وهذه المكانة البارزة للمونولوج كان توجه هذا الفصل "جماليات التراكيب بين ثراء الالتفات وتحولات البنية" إلى تحليل بنية المونولوج عبر الوقوف إزاء أهم ظواهره الفنية وبيان دورها في المنظومة الروائية؛ من ثم تناول المبحث الأول "التنوع الضمائري والتشكيلات السردية" المتجسدة في ظاهرة "الالتفات" وتحليلها عبر شكليها اللذين جاءت من خلالهما في الروايات الست، وما اندرج تحتهما من تنويعات، مع بيان دور تلك التنويعات في سياقاتها. وكان المبحث الثاني "تحولات البنية الأسلوبية وحركية الرواية"، متناولا دور تلك البنية في قيام المونولوج برصد دخائل الشخصية، عبر نقاط ثلاث، هي: البنية الخبرية بنمطيها الاسمي والفعلي، والبنية الإنشائية عبر أشكالها المختلفة، وأخيرًا: التمازج بين البنيتين.
أما الفصل الثاني "سردية الصورة وديناميكية الوصف الروائي" فاختص ببنية الوصف وأبرز وسائله "الصورة"، فعند النظر إلى الشريحة الروائية هنا فإنه يمكن القول إن نجيب محفوظ استطاع إشباع الوصف في تلك الروايات الست ذات اللغة المميزة – بمجموعة من الجماليات كانت إحدى أسباب تميزها، وهذه الجماليات- بلا شك – كثيرة، ومن الصعب ادعاء الإحاطة بها، فمن أراد أن يقول كل شيء لم يقل شيئًا ألبتة. لكن يمكن تضفير أبرز تلك الجماليات في بيانية الوصف أو الصورة الوصفية؛ وذلك من خلال إيضاح توظيف الصورة البلاغية بنمطيها الأشد بروزًا: التشبيه والاستعارة، داخل المنظومة الروائية عبر الوظائف السردية، التي استطاعت الصورة تأديتها فوق جمالياتها الخاصة
لذا جاء هذا الفصل الثاني من خلال مبحثين: في الأول"الصورة الاستعارية والتشكيل السردي" تبين أن الصورة الاستعارية كانت أكثر حضورًا وأوسع أداء قياسًا بنظيرها التشبيهي ضمن المساحة النصية المندرجة تحت نمط "الوصف" هنا؛ من ثم جاء تقدمها، وإفرادها بالتحليل دون دمجها مع قسيمها التصويري "التشبيه"، إضافة إلى الطبيعة النوعية للأولى التي كانت دافعًا قويًا في الموقف التحليلي هنا. ومن خلال الرؤية العامة لنصوص الروايات الست فقد تبين أن الصورة الاستعارية بشكليها المؤصلين عبر الخطاب البلاغي قديمًا وحديثًا استطاعت أن تؤدى عدة وظائف سردية، تجاه المكونات الثلاثة للتشكيل الروائي: "الشخصية - الأزمة– المكان"، ولم يكن الأداء الوظيفي متماثلاً في كلٍ، فضلاً عن تباين في الحضور النصي.
أما في المبحث الثاني "التصوير التشبيهي والخطوط السردية" فعند النظر إلى النصوص الروائية المدروسة وجد أن "التوظيف السردي" للتصوير التشبيهي قد تبلور ضمن خطين سرديين قريبًا من نظيره الصورة الاستعارية: حيث كان المحور الأول خاصًا بأبعاد الشخصية، وانصب الثاني على إشكالية الصراع، الذي يغطي جانبا كبيرا من العمل الروائي.
وأخيرا فقد صدر هذا الكتاب "جماليات اللغة وبنية السرد الروائي: نجيب محفوظ نموذجًا" للدكتور إكرامي فتحي عن "بورصة الكتب للنشر والتوزيع"، وهو الكتاب الثالث للمؤلف بعد كتابيه: جدلية التراث والشعر: استلهام الشاعر القديم في القصيدة المعاصرة ، مكتبة الآداب- القاهرة، 2016، والقصة القصيرة في قطر ببليوجرافيا شاملة ودليل وصفي تحليلي (إعداد: د. صبري حافظ، د. محمد مصطفى سليم، د. إكرامي فتحي، وزارة الثقافة والرياضة- قطر، 2016).