القاهرة 17 مايو 2017 الساعة 01:52 م
يتحدث كثر عادة عن «الباليه الروسي»، ولكن دائما بصيغة الجمع. وغالباً ما يخطر في بال المستمع أن الأمر يتعلق بمجموعة من استعراضات الباليه ذات الصبغة المحلية الروسية الخالصة والتي اشتهرت بها، على سبيل المثال، مدينة مثل سانت بطرسبرغ عند السنوات الأولى من القرن العشرين، الحقبة التي كانت تلك المدينة تعيش فيها فترة مدهشة من الازدهار الفني. غير أن هذه الفكرة ليست دقيقة على الإطلاق، إلا في ما يتعلق بمسقط رأس المشروع وبانتمائه إلى التراث الروسي، أما في ما عدا هذا فالمسألة غير ذلك تماماً. فإذا كانت تلك «الباليهات الروسية» قد رأت النور في عاصمة القياصرة الروس حقاً منطلقة من فولكلور محلي شديد الغنى، فإنها سرعان ما استقرت كوطن بديل لها في مونت كارلو، وسرعان ما تشعبت أفكاراً وأداءات وضمت في مبدعيها أسماء قد لا يخطر في بال أحد أن لها علاقة بذلك المشروع. ولئن كانت لائحة كبار الراقصين تضم أسماء خيمت بظلها على رقص الباليه في القرن العشرين من بالانشاين وفوكين إلى ماسين ونيجنسكي وبرونيسلافا نيجنسكا، وصولاً إلى إيدا روبنشتاين، فإن لائحة الموسيقيين تتسع لتشمل بعض أشهر موسيقيي كل الأزمان من سترافنسكي إلى موسورغسكي وبروكوفييف، إلى ديبوسي وإريك ساتي وداريوس ميلو ورافيل. وفي لائحة المساهمين الآخرين نجد جان كوكتو كاتبا وبيكاسو وأوتريللو وديران وبراك ودي كيريكو ودزينة غيرهم من نفس الوزن بين رسامي الديكورات، ما يضفي على المشروع برمته صبغة عالمية لم تتناقص مع مرور الوقت على الإطلاق.
> وقد يكون مفيداً هنا أن نذكر أن العمل الكبير الأول الذي قُدّم في إطار «الباليهات الروسية» وحتى في سانت بطرسبرغ قبل ارتحال الفرقة، كان «كليوباترا» (1980)، الذي نقلت فيه ديكورات ليون باكست والملابس التي صممها، المتفرجين الى أجواء مصرية مدهشة. لكن «كليوباترا» لن يكون العمل «الشرقي» الوحيد للفرقة، إذ بعد حين سيكون هناك عمل عن «شهرزاد» ثم آخر عن حكاية «سالومي»، ثم «حكاية يوسف» تتبعها أعمال عديدة أخرى شرقية الأشكال إن لم تكن شرقية المواضيع. فالشرق كان منهلاً أساسياً لأعمال هذه الفرقة التي استقطبت ليس فقط معظم كبار الفنانين الأوروبيين في ذلك الحين، بل كذلك معظم جماهير سهراتها التي تميزت دائماً بالابتكار وبنوع من تمازج حضاري لم يخيّب أمل الجمهور أبداً. والحقيقة أن حسبنا أن نتأمل برامج حفلات الفرقة وتقديمات باليهاتها المتنوعة لنكتشف أنها زارت بتلك الأعمال معظم المدن الأوروبية، ولا سيما بعد أن قطع مؤسس المشروع ومديره ومبدعه الأساسي دياغيليف مع مدينته سانت بطرسبرغ لينتقل نهائياً إلى الغرب الأوروبي. وزارت الفرقة بأعمالها مناطق عدة في أميركا اللاتينية من دون أن تفوتها زيارة نيويورك حيث قدمت عروضاً نجحت إلى حد مدهش في العالم الجديد ولا سيما في نيويورك.
> ونحن إذا كنا قد ذكرنا إسم دياغيليف في السطور السابقة بعد أن أشرنا إلى الأسماء الفنية الكبيرة التي ساهمت في إبداعات الفرقة، فما هذا إلا لأن سيرج دي دياغيليف، كان هو كفرد أول الأمر، من ابتدع المشروع وصممه وأطلقه في قي سانت بطرسبرغ في العام 1907 مستعيناً يومها بأفضل الفنانين الذين كانوا يصنعون مجد مسرح مارينسكي الشهير في العاصمة الروسية. ولعل من الأفضل دائماً البدء بالحديث عن دياغيليف من حكايته التي تبدأ في العام 1895 حين كان مجرد شاب روسي في الثالثة والعشرين من أبناء العاصمة كتب إلى زوجة أبيه رسالة قال فيها: «أنا أولاً، نصاب كبير صاخب جداً، ثانياً، ساحر كبير، ثالثاً، رجل وقح، رابعاً، رجل امتلك قدراً كبيراً من المنطق وقدراً ضئيلاً من الضمير، وخامساً، كائن لم يمنحني الله إلا قدراً ضئيلاً جداً من الموهبة. واعتقد أنني قد عثرت على خط السير الذي سأتبعه في حياتي: سوف أكون راعياً للفن. وفي سبيل هذا ها أنا امتلك كل ما يلزم، باستثناء المال. لكن المال سوف يأتي لاحقاً».
> وحين مات هذا الشاب لاحقاً، وكان قد أضحى في السابعة والخمسين من عمره، كتب عنه فنان فرنسي يقول: «منذ اللحظة التي يريد فيها دياغيليف شيئاً، كان لا بد لذلك الشيء من أن يتحقق ويتشكل ويوجد: الإرادة هي اختصاصه الاساسي». دياغيليف هذا، قد لا يذكر كثيراً في ايامنا هذه، لكنه، وبكل بساطة، كان الرجل الذي أعاد اختراع رقص الباليه في القرن العشرين، والرجل الذي عرف كيف يكشف الحضارة الروسية، عبر شتى فنونها ولا سيما الباليه، أمام عيون الغرب المندهشة، تماماً كما كان في بداياته ذاك الذي كشف بعض فنون الغرب، ولا سيما فرنسا، أمام أعين الروس. كان دياغيليف أشبه بأن يكون عاملاً ثقافياً، ومحركاً للفنون. وهو حين رحل عن عالمنا في العام 1929 كانت شهرته قد ملأت أوروبا، بعد أن ارتبط اسمه لفترة طويلة من الزمن باسماء كبار موسيقيي ذلك العصر.
> ولد دياغيليف في 1872 في روسيا ودرس الحقوق، أولاً، في سانت بطرسبرغ، لكنه سرعان ما تخلى عنها لارتياد الأوساط الفنية والادبية في العاصمة الروسية، وكانت تلك هي البداية التي قادته لأن يفرض حضوره خلال الربع الأول من القرن على الفنون الأوروبية، وصولاً إلى الترويج لما عرف في ذلك الحين باسم «الباليه الروسي» الذي سرعان ما أضحى «موضة» العصر ومحط آمال جميع الراقصين والموسيقيين، ومجال الترفيه رقم واحد عن طبقات متنامية من الجماهير الأوروبية.
> بدأ دياغيليف علاقته برعاية الفنون حين اسس في 1898 مجلة «عالم الفن» التي كتب فيها بعض كبار تلك المرحلة من رسامين وكتّاب. وفي العام التالي نظّم أول معرض للفن الانطباعي الفرنسي في روسيا ثم تسلم إدارة المسارح الامبراطورية قبل أن يطرد من تلك الوظيفة فيؤسس في 1901 «أمسيات الموسيقى المعاصرة»، ويقدم فيها أعمالاً لأصحاب المواهب الشابة من الموسيقيين الأجانب والمحليين. وبعد ذلك كان عمله الضخم الأول حين عرّف الروس على إبداعاتهم الفنية خلال قرنين من الزمن حيث عرض الإنتاج الروسي من الرسوم والمنحوتات في أول عرض شامل.
> وكان المعرض من النجاح بحيث نقله في 1906 إلى فرنسا. وحين انتهت فترة المعرض في باريس عادت الاعمال وحدها إلى روسيا، فيما بقي دياغيليف في العاصمة الفرنسية، بعض الحين ليعود إلى مدينته لفترة يؤسس فيها مشروعه كما أشرنا ويبقى سنوات قليلة يعود بعدها إلى باريس من جديد هذه المرة ليصبح منذ ذلك الحين جزءاً من حياتها الثقافية والفنية. وهكذا من طريقه عرف الجمهور الفرنسي أعمالا مثل «كليوباترا» و «بوريس غودونوف» و «الأمير إيغور» يرقصها كبار راقصي تلك الفترة من نيجنسكي إلى ايدا روبنشتاين ومن كارسافينا إلى آنا بافلوفا.
> وكان ما يقدمه من النجاح إذ راح يجول به في طول أوروبا وعرضها (مستثنياً ألمانيا وروسيا)، ثم في القارة الأميركية. وكانت تلك هي الفترة التي ارتبط فيها اسمه بفن الباليه الروسي، بصورة نهائية. ولكن ذات مرة اكتشف دياغيليف أن الأوروبيين لا يريدون منه أكثر من أن يكون ظاهرة غريبة وفولكلورا روسيا، فأحب أن يتمرد وأن يخرج من العباءة الروسية التي وضع فيها، فراح يحاول الاشراف على تقديم اعمال اوروبية خالصة، بعد ان تعرف على الفرنسي جان كوكتو الذي يبدو أنه مارس عليه تأثيراً كبيراً وكان أهم ما علمه إياه هو أن يخاف تكرار نفسه. ولما كان دياغيليف قد بدأ يحس بأنه في مواصلته لتقديم الباليه الروسي، إنما يكرر نفسه، بدأ يتجه لتقديم أعمال راقصة مستوحاة من كوكتو وأبولينير وأوربك وديبوسي ورافيل، ضمن إطار ديكورات راح يرسمها كبار فناني المرحلة كما أسلفنا. لكن الضربة ما عتمت أن جاءته هذه المرة من لدن الروس والأوروبيين الشرقيين المتعاونين معه، فتركوه وعلى رأسهم نيجنسكي وسترافنسكي وفوكين. وكان من نتيجة ذلك أن بدأت مكانته تتدهور، إذ إنه حين رحل عن عالمنا في 1929، كان قد أضحى جزءاً من تاريخ فرض الباليه الروسي على المزاج الأوروبي كله، وفتح أوروبا كلها على جميع الفنون الروسية الأخرى، لكنه لم يتمكن هو شخصياً من أن يجبر أوروبا على الاعتراف به وبفرديته.