القاهرة 18 ابريل 2017 الساعة 12:19 م
مع زيارة خاطفة إلى مدينة المنصورة بعد فترة بعاد، تذكرتُ رواية أحد أعلامها، الأستاذ الراحل أنيس منصور (ومن ذا الذى لا يُحب فاطمة؟) والتى تحولت إلى مسلسل تليفزيونى بديع للفنانتين الجميلتين المعتزلتين، شيرين سيف النصر وجيهان نصر، والفنان الجاد أحمد عبدالعزيز، فوجدت نفسى أردد (ومن ذا الذى لا يحب المنصورة؟!) تلك المدينة التى
نشأنا وترعرعنا على أضوائها، ودور السينما بها، وجمال نيلها، ومطاعمها، ومقاهيها، ومكتبتها، وقصر ثقافتها، والمنشآت الخدمية والمصالح الحكومية بتلك المحافظة التى تُذكرك دائماً بكل من فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى وكوكب الشرق أم كلثوم فى آن واحد.
إلا أن زيارة قصيرة لمركز زراعة الكبد بالمدينة سوف تكتشف أنك فى عالم آخر، لست فى دولة نامية أبداً، كما لست فى قارة أفريقيا، ولم لا؟ المنافسة العالمية تضع المركز فى الصدارة رغم ظلم المقارنة من حيث الإمكانيات، ذلك أنه يعمل من خلال طابق بمبنى مستشفى الجهاز الهضمى، أحد مستشفيات الجامعة هناك، هى فى حقيقة الأمر ليست مستشفيات، هى صروح علمية وطبية حقيقية، يقف خلف كل منها أحد الأساتذة العظام، ثم نخبة أخرى من المتخصصين فى المجالات المختلفة، أصبحوا ذائعى الصيت خارج مصر عن داخلها، ربما بسبب حجم أبحاثهم ومشاركاتهم التى لا نتابعها جيداً.
مركز زراعة الكبد، الذى نحن بصدده، كان قد احتفل قبل عدة أسابيع بزراعة الحالة رقم 500 لمريض من القاهرة، بتبرع من الابن، أصبحوا الآن 510 حالات، جميعها موثقة ورقياً وإلكترونياً بملفات شاملة لكل المعلومات المتعلقة بشأنها منذ ما قبل إجراء عملية الزرع حتى سنوات طويلة ممتدة فيما بعد، ذلك أن المركز يتكفل بمتابعة الشخص مدى الحياة، بتكلفة مادية شاملة قد لا تصل إلى 15? من تكلفتها بالمراكز والمستشفيات الخاصة، أو 5? حين إجراء العملية خارج مصر.
من خلال ذلك المركز يمكن أن نطمئن أن مصر بخير، أو أن الخير سوف يظل حتى قيام الساعة، ذلك أن التبرعات تؤدى الدور الأكبر فى عمل المركز. للمهندس نجيب ساويرس النصيب الأكبر بين المتبرعين للحالات الفقيرة، وصل إلى نحو 18 مليون جنيه. هناك أيضاً من أبناء محافظة الدقهلية من قام أخيراً بالتبرع بمبلغ 15 مليون جنيه لإنشاء مبنى خاص بالمركز يليق به وبدوره. قرأتُ تصريحاً للدكتور محمد عبدالوهاب، مدير المركز، أو بمعنى أدق موسيقار المنظومة هناك، يؤكد فيه أنه فى حالة إنجاز هذا المبنى سوف تتضاعف أعداد عمليات زراعة الكبد، ذلك أن الوضع الحالى يتطلب حجز حجرة العمليات بمركز الجهاز الهضمى بما لا يزيد على يومين فقط أسبوعياً، بالمناسبة: ذلك الرجل باسمه 120 بحثاً علمياً عالمياً، وقد تم تكريمه بأعلى الأوسمة رئاسياً وحكومياً وجامعياً فى عدد كبير من دول العالم ليس من بينها مصر.
فى السابق كنا دائما نحتفى بمدينة المنصورة على أنها المدينة الجميلة، النيل وكورنيش النيل، علماء وأعلام المنصورة، جمال بنات المنصورة، الحجم الكبير من الإنتاج الزراعى فى الدقهلية عموماً، مصيف جمصة على البحر المتوسط، رجال أعمال متميزون، ربما أكبر عدد من المليونيرات فى بر مصر، نبروه وما أدراك ما نبروه! مشروعات صناعية وتجارية كبيرة، نسبة تعليم مرتفعة، الآن أصبح هناك ما يتفوق ويتصدر كل ذلك، أصبحت هناك مدينة السياحة العلاجية، المنصورة بحق تستحق اهتمام الدولة لتصبح على المستوى الرسمى عاصمة السياحة العلاجية، تستحق دعماً مادياً وترويجاً خارجياً، تستحق زيارة من رئيس الجمهورية لدعم هذا الهدف، تستحق اجتماعاً دورياً للحكومة هناك لتقديم كل التسهيلات، تستحق حملة تبرعات على مستويات فوقية للنهوض بهذه الصروح الطبية المختلفة.
أعتقد أن دعم مثل هذه المنظومات الطبية الناجحة هو بداية الطريق للحد من ذلك الاستغلال المستشرى داخل المؤسسات الطبية الخاصة، ذلك الظلم الواقع على المواطن بصفة يومية، إذا علمنا أن الطبيب رئيس فريق العمل يحصل فى مركز الكبد بالمنصورة على 1800 جنيه مقابل إجراء العملية الواحدة، التى تستغرق نحو 12 ساعة متواصلة، فى الوقت الذى يحصل فيه نظيره فى المستشفى الخاص على نحو 250 ألف جنيه.. فقد نعى الفرق. إذا علمنا أن الرعاية والعناية والتمريض تفوقت فى مستشفيات جامعة المنصورة عنها فى المستشفيات الخاصة فقد نعى أيضاً الفرق.
ما يثير الانتباه هو أن المواطن فى مصر لا يعلم الكثير عن بلاده فى فروع علمية وثقافية كثيرة، ربما لاقتصار الاهتمام إعلامياً على العاصمة إلى حد كبير، بما يجعل الأقاليم بعيدة عن الأضواء، ربما لأن اختيار الفائزين بجوائز الدولة التقديرية والتشجيعية لا يتم وفق أسس موضوعية بقدر ما يعتمد على المجاملات والتوازنات، وغالباً الأيديولوجيات ومحترفى الربابات والرباعيات، لكن المؤكد أن هناك أشياء جميلة فى مصر، وما أكثرها، حتى لو ظل اعتماد نجاحها على تبرعات أهل الخير، أيضاً وما أكثرهم!.