القاهرة 13 ابريل 2017 الساعة 01:57 م
هناك طاغية يريد أن يبني سوراً عظيماً يمنع به «البرابرة» من أن يتسللوا إلى داخل بلده. قد يحدث هذا في أي زمان ومكان، بل تكاثر حدوثه في الأزمنة الأخيرة وكان، كما نعرف جميعاً، واحداً من الشعارات التي رفعها إبان معركته الانتخابية واحد من أحدث الفائزين بالانتخابات الرئاسية في العالم، الرئيس الأميركي دزنالد ترامب. بيد أن السور الذي يراد تشييده في مسرحية «سور الصين» للكاتب السويسري ماكس فريش والذي يهمنا أمره هنا، هو سور بني في الصين قبل مئات السنين وبات يعتبر اليوم مَعلَماً سياحياً ورمزاً في شكل من الأشكال. وبالتالي فنحن أمام مسرحية تاريخية. ولكن هل تراها تاريخية حقاً؟ أبداً، ولا حتى في «التاريخية» المطلقة لكل شخصياتها بمن فيها الإمبراطور هوانغ-تي صاحب المشروع. ولا ينبع هذا من كون الموضوع معاصراً لنا، بل كذلك وفي شكل خاص، من كون بطل المسرحية والذي يدعو نفسه فيها مين - كو، مثقفاً ينتمي الى الزمن الذي نعيش نحن فيه حتى وإن كان يشارك في الأحداث التاريخية التي ترويها المسرحية وكأنه فرد من تلك الأزمنة. ولكن، قبل الاستطراد في هذا التوضيح، سيكون من الأفضل الوقوف عند المسرحية في بعدها التاريخي الحديثي.
> فكما أشرنا، تدور مسرحية فريش من حول العمل الذي يقوم به الإمبراطور هوانغ-تي جاهداً لبناء سوره، وهو للترويج للفكرة وجمع نوع من التأييد العالمي/الأممي حولها، يفتتح مسعاه بإقامة حفلة تنكرية راقصة كبرى في قصره تشغل الفصل الأول في المسرحية. ومن بين الشخصيات المشاركة في الحفلة تطالعنا كليوباترا وكريستوف كولومبوس ونابوليون... بل حتى دون جوان والعاشقان الخالدان روميو وجولييت، حيث يقوم كل واحد من هؤلاء بالتعليق على ما يبدو أساسياً له في الحياة التي يعيشها. ولكن بين الحضور يتجول معاصرنا ومندوبنا في ذلك العالم القوي والبهيج، المثقف الذي لا يتوقف عن تحذير المحتفلين من أخطار القنبلة الذرية ومن أن العالم لو استمر على ما هو عليه سوف ينتهي الأمر الى قيام حرب عالمية ثالثة توصل العالم الى نهايته. ونلاحظ ان هذا المثقف إنما يتنكر في الحفلة تحت سمات أحد موظفي القصر لأنه في حقيقته مطلوب هناك للمحاكمة بصفته الشاعر مين - كو، المعروف بكونه الوحيد في طول الإمبراطورية وعرضها الذي لا يزال يجرؤ على انتقاد الإمبراطور.
> في تلك الأثناء يحدث أن رجال الإمبراطور يقبضون على رجل أخرس لا ناقة له في الأمر ولا جمل باعتبار أنه هو الشاعر المطارَد ويعذّب الرجل نت دون أن يصدقه أحد في إشارته الى براءته. وبعد تعذيب مرعب يتحوّل هذا الأسير المظلوم شهيدًا لثورة تندلع يقوم بها الشعب الذي راح يطالب بإطلاق سراحه. ولسوف نعرف أن الشخص الذي قاد الثورة لم يكن سوى واحد من ابناء القصر، الأمير وو - تسيانغ الذي يعود غضبه في الأساس الى كون الأميرة إبنة الإمبراطور قد صدّت تقرّبه اليها وسؤالها الاقتران به مفضلة عليه مين - كو نفسه. وفي النهاية، فيما تكون الثورة صاخبة مندلعة خارج المسرح تصلنا أصداؤها بقوة، يطالعنا مين - كو المعاصر لنا يتحدث إلينا قائلاً أن اكتشف في نهاية المطاف أنه عاجز تماماً عن إحداث أي تغيير في مجرى التاريخ وفي إرادات الأقوياء.
> كتب فريش هذه المسرحية عام 1946 يوم كان واقعًا، بعد، تحت تأثير صديقه وأستاذه الكبير برتولد بريخت، وهو بالتالي اتبع أسلوب هذا الأخير «الملحمي» الذي يقطّع سياق المسرحية الى اسكتشات ومقاطع متتالية، راغباً لها أن تكون نوعًا من التساؤل المتعلق بالدور الذي يمكن بعد للمثقف أن يلعبه في الأزمنة الحديثة. ومن هنا حضور المثقف الذي لا يني يعلق على الأحداث ويضافر بينها كما بين الأزمان ليعلن في النهاية، هزيمة الفكر أمام الأهوال.
> «تريدون ان تعرفوا، في نهاية الأمر، ما هو أسلوبي في الكتابة المسرحية؟ حسناً، انه بريخت ناقص الشيوعية». على هذا النحو كان فريش، على أية حال، يعرّف توجهه في الكتابة، هو الذي ينظر اليه الكثيرون، بعد كل شيء، على انه الوريث الحقيقي الوحيد لبرتولد بريخت في الكتابة المسرحية. والحال ان فريش منذ تعرف على صاحب «دائرة الطباشير القوقازية» لم يكف لحظة عن الإعجاب به وبكتابته المسرحية، وإن كان قد أخذ عليه دائماً «حماسه الثوري» و «نظرته الطفولية الى دور المثقف في المجتمع» هما عنصرا هذه المسرحية الأساسيان. إذن فما الذي كان يجمعه ببريخت؟ بكل بساطة، نقده الحاد للشروط الاجتماعية القائمة، انما من دون ان يؤمن بإمكان حدوث او نجاح أية ثورة.
> مقابل تفاؤلية بريخت، إذن، لدينا تشاؤمية ماكس فريش. والحال ان ماكس فريش، حين رحل عن عالمنا عام 1991، وهو في الثمانين من عمره، كان في وسعه ان يلاحظ كيف انه كان على حق بصدد نظرته الى مستقبل العمل الثوري، بينما كان استاذه الكبير على خطأ.
> ماكس فريش الذي رافق القرن العشرين طولاً وعرضاً، كان الى جانب فردريك دورنمات، واحداً من كاتبين عرفا كيف يعيدان لسويسرا اعتبارها كأمة يمكنها ان تنتج مبدعين، وذلك بالتناقض مع ما كان يقوله عنها غراهام غرين من أن 300 سنة من الديموقراطية لم تنتج فيها سوى «ساعة الكوكو»!. ومهما يكن فإن ماكس فريش ولد ابناً لمهندس من أصل نمسوي ولأم سويسرية رسامة، وكان في السادسة عشرة من عمره حين حاول كتابة المسرحية للمرة الأولى فكتب مسرحية «فولاذ» التي بعث بها الى ماكس رينهاردت فرفضها، لكن ذلك لم يردع كاتبنا الشاب، إذ سرعان ما عكف على قراءة إبسن ثم كتب مسرحية فكاهية عن الزواج. وفي الوقت نفسه تابع دراسته الجامعية فنال أولاً شهادة التخرج في الأدب الألماني، لكنه انصرف بعد ذلك الى الصحافة وبدأ يكتب القصص القصيرة التي عاد وجمعها تحت اسم «أحب ما يحرقني» (1943) ثم تحت اسم «جواب نابع من الصمت». لكنه بعد ذلك عاد ليدرس الهندسة المعمارية التي جعل منها مهنته حتى عام 1955.
> بالنسبة الى المسرح، ظل ما يكتبه ماكس فريش بدائياً وتجريبياً ويشكل نشاطاً ثانوياً بالنسبة اليه، حتى كان لقاؤه ببرتولد بريخت فنمت صداقة بين الرجلين، انتجت لدى فريش رغبة في الكتابة للمسرح، ولكن للإذاعة ايضاً. وهكذا راحت تتتالى مسرحياته التي ترجمت وراحت تقدم على خشبات العديد من البلدان، ما ساعد فريش على تحقيق هوايته بالسفر والتجوال الدائمين. وهو كتب أكثر من 12 تمثيلية للمسرح والإذاعة، بالتواكب مع كتابته المقالات واليوميات والروايات والقصص.
> أول مسرحية كبيرة كتبها فريش إذا، كانت «سور الصين» التي سار فيها شكلياً، على خطى مسرح بريخت الملحمي، مقدّمًا شخصيات تاريخية تستخدم الأقنعة والأقوال المأثورة للتعليق على أحداث العالم التاريخية، وفي المقابل وضع فريش شخصية المثقف المعاصر، الذي يعلق على ما تقوله الشخصيات ذات الأقنعة، ويحاول - عبثاً - ان يبدل مجرى التاريخ. هذه العبثية المرتبطة بالدور البلاجدوى الذي يلعبه المثقف كانت على أي حال الهاجس الرئيسي الذي طبع مواضيع كتابة فريش، إذا استثنينا مسرحيته الواقعية «فيما انتهت الحرب» (1948) التي تدور احداثها في برلين اثر انفضاض الحرب العالمية الثانية.
> الأشهر بين أعمال فريش كانت مسرحيات «بيدرمان» (1958) و «باندورا» (1961) وبخاصة «دون جوان او عاشق الهندسة» (1953) التي يقدم لنا فيها دون جوان كعالم رياضيات لا وقت لديه يضيعه مع النساء، لذلك يحاول ان يهرب من الدور التاريخي المناط به، لكن النساء يطاردنه مع ذلك، فيجد في نهاية الأمر ان الزواج هو الطريقة الأفضل التي تمكنه من الهرب. أما آخر مسرحية كتبها فريش فكانت «سيرة» (1968) التي وصل فيها الى ذروة تعبيره عن عجز الإنسان عن تغيير مسار حياته، بعد ان كان قد وصف في مسرحيات سابقة عجز ذلك الإنسان، ولا سيما المثقف، عن تبديل مجرى التاريخ. وعندما رحل ماكس فريش عن عالمنا، كان يعتبر واحداً من كبار كتاب المسرح الأحياء، على رغم قلة انتاجه، وكان الكثيرون يتنبأون بأن تكون جائزة نوبل الأدبية من نصيبه ذات عام.