القاهرة 04 ابريل 2017 الساعة 01:33 م
منذ اللحظة الأولى التي جمعت بين الاثنين ( ترامب والسيسي) في شهر سبتمبر الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك ، ولم يكن ترامب رئيسا بعد، ويخوض معركة المنافسة على كرسي البيت الأبيض .. كان واضحا أن الكلمة الأخيرة للمثل الشعبي المصري " من القلب إلى القلب رسول" وهو ما يقول به علم النفس ويتفق مع تراث الأساطير أن "الأرواح تلتقي" وتفرز كيمياء الودّ المتبادل، وبحسب وصف الرئيس الأمريكي (السيسي رجل رائع، وشعرت بوجود كيمياء بيننا) .. فهناك تأثير للمزاج العام للرئيس .. أي رئيس أو ملك أو أمير، وهو المتعارف عليه في العلوم السياسية ،بـ "المزاج العام Public mood لصاحب القرار" .. وهذا الأمر أيضا على درجة عالية من الأهمية لدى الباحثين، ودوائر صنع القرار، والأحزاب السياسية.
وهكذا .. بقيت كلمات الرئيس ترامب في تلك اللحظة، كاشفة للمناخ العام ــ فيما بعد ــ داخل البيت الأبيض، ومع الخطوات الأولى للرئيس السيسي برفقة الرئيس الأمريكي باتجاه القاعة التاريخية " قاعة روزفلت" في الجناح الغربي للبيت الأبيض، ليوقع فى سجل الزيارات، وبعدها إلى المكتب البيضأوى "الرئاسي" .. كان واضحا أن الكلمة العليا منذ البداية للمشاعر "الخاصة" وحتى قبل أن تبدأ المباحثات الموسعة بين وفدى البلدين فى قاعة cabinet
room ، ثم مع الحديث الجانبي الهادىء بين ترامب والسيسي، في جولة عبر الحديقة الداخلية للبيت الأبيض، إلى قاعة state dining room لتناول الغداء.
قد يقال أن للسياسة عقل وليس قلب ، وأن قلب السياسي في عقله .. هذا صحيح .. ولكن لاينفي تأثير "المزاج الشخصي " ، أو انطباع اللحظة الأولى .. وهناك وقائع وأحداث تاريخية معروفة ، تروي عن هذه الحالة بين "الودّ، أو النفور" المتبادل ..
وربما لايعلم كثيرون، أن مصر استعدت جيدًا للزيارة، ولقاء «السيسى» الأول مع "ترامب" وأعضاء إدارته، وقد تلقى الرئيس السيسي ملفًا معلوماتيًا عن كل شخصية يلتقيها، يتضمن السيرة الذاتية بكل تفاصيل : الدراسة، والنشأة، وتاريخ العمل السياسى، والانتماء الحزبى، والأهم من ذلك الميول والتوجهات والعلاقات مع الدول الأخرى.
وفوق ما تقدم كله .. أعتقد أن زيارة الرئيس السيسي لواشنطن، تدشن بالفعل لمرحلة جديدة في العلاقات بين أقدم دولة هامة في التاريخ (مصر) .. وبين أحدث دولة هامة في التاريخ (أمريكا) .. وإذا راعينا الدقة في التعبير، فإن الزيارة تعيد تصحيح العلاقة التي قامت أساسا منذ بدايات عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات على التبعية، وكان الرجل شغوفا بأضواء أمريكا، وألوان الغرب البراقة .. ثم جاء الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، لتضاف "الوصاية " الأمريكية على التبعية .. طوال أربعة عقود تقريبا كانت مصر قد تنازلت تماما عن وعيها بدورها ومكانتها .. وإذا كانت أمريكا دولة عظمى، فإن مصر أيضا دولة كبرى بالتاريخ والجغرافية، بحسب تعبير السياسي المصري الراحل د. أسامة الباز.
بالطبع كان رهاننا على الرئيس "ترامب" ، ومع بداية الحملات الانتخابية الرئاسية .. كان الرجل واضحا ، وربما كان "الوضوح " حادا فوق العادة، بل وفوق المحتمل في صراحته ، ولكن كانت لديه رؤية للسياسة الخارجية ، ورفضه لدور أمريكا في صناعة و"تخليق" الكوادر الإرهابية، من القاعدة إلى داعش ، وهو ما خلق حالة غير مسبوقة في تاريخ أمريكا ــ
الحديث نسبيا ــ بين الرئيس وجهازه الاستخباري، ولأول مرة بدت مشاعر الغضب الأقرب للعداء من وكالة الاستخبارات الأمريكية للرئيس ترامب، وبدأت تسرّب معلومات في محاولة للتشكيك في شرعية الرئيس أو على الأقل لتكبيل الرئيس !!
نعلم أن بيننا ( نحن العرب ) وبين الولايات المتحدة تناقض وتباين شاسع بسبب المشروع الصهيوني فوق الجغرافية الفلسطينية، وأن نقطة الانكسار في المواجهة مع اسرائيل تصنعها أمريكا .. ونحن نعلم أن الولايات المتحدة بوجودها العسكري من قواعد وأساطيل أصبحت جغرافيا وسياسيا "جارا" غير مرغوب فيه ، تشترك حدوده مع حدود كل دول العالم تقريبا، إن لم تكن حقا قد صارت "شريكا" طفيليا لها في وجودها ، وذلك بمخابراتها السرية وعملائها وتكنولوجيات التجسس ، بحسب تعبير العالم الجليل الراحل د.جمال حمدان .. حتى قال البعض ــ يأسا أو سخرية ــ أينما تكونوا تدرككم الولايات المتحدة !!
وإذا راجعنا تصريحات الرئيس دونالد ترامب، منذ توقيت الحملة الانتخابية وحتى أسبوع مضى على الأكثر ، نجد الرجل رافضا لتك السياسات، رافعا مبدأ ( أمريكا .. أولا) وليس بمفهوم الإنعزالية في عالم مفتوح السموات والأرض، ولكن بمفهوم عدم التدخل السافر في شئون الدول الأخرى، أو أن يلعب دور
الشرطي أو "البلطجي" العالمي، مجانا أو حتى "مدفوع الأجر مقدما" .. وهي فلسفة رجل أعمال تعلي من شأن الصالح العام أولا.
ما يعنيني في هذه الزيارة، أن الرئيس ترامب كشف عن وعيه لدور مصر التاريخي .. ولعبقرية الموقع .. ويريد وللصالح الأمريكي بالطبع، أن تعود مصر لمكانتها وتلعب دورها في مواجهة أعمدة النيران المشتعلة في الساحة العربية التي تركت لمن يملكون الثراء النفطي اللعب بالتاريخ .. قالها "ترامب" وبأسلوب غير مباشر .. والفرق الواضح بين "ترامب" وكل من سبقه ، منذ أن ارتمت مصر في حضن أمريكا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، انهم كانوا يريدون لمصر أن تقوم بـ ( الدور ..الوظيفة) أي يكلف بمهمة، وهناك دول كثيرة في منطقتنا تقوم بهذا الدور وفي حدود تكليفات تناسب حجمهم
.. ولكن ترامب يريد لمصر العودة إلى (دورها) المساند وليس التابع لواشنطن .. وهناك فرق ..
وقريبا جدا من هذه الرؤية .. يقال أن واشنطن تسعى إلى تكوين "ناتو عربى" لحسم الصراعات العسكرية الدائرة رحاها بدول المنطقة، وأن تكون "القاهر" أحد الأضلاع الرئيسية بالتحالف المزمع، فى الوقت الذى تتمسك فيه مصر بتحفظات شديدة على إرسال قوات لها خارج حدودها .. وبحسب المعلومات ــ وأثق في مصداقيتها ــ قيل للرئيس ترامب، أن مصر طرحت في قمة شرم الشيخ العربية، قبل عامين تقريبا، مبادرة تشكيل القوة العسكرية العربية، أو "ناتو عربي" وعقدت اجتماعات عسكرية بالجامعة العربية ، وفي اللحظات الأخيرة صدرت أوامر أو تعليمات "إدارة الرئيس أوباما" لدول خليجية بالتراجع واجهاض المبادرة !!