القاهرة 11 ابريل 2017 الساعة 11:17 ص
زرتُ منطقة (تونا الجبل) بمدينة ملوى التابعة لمحافظة المنيا. بدعوة من د. مرفت عبد الناصر التى تعاقدتْ مع المحافظة على شراء مساحة من الأرض (اختارتها بدقة) لتكون بمثابة مركز إشعاع حضارى ، بهدف إحياء التراث المصرى ، ولتعريف الأجيال الجديدة بأهمية هذه المنطقة ، إذْ أنّ المكان الذى اختارته قريب جدًا من المنطقة الآثارية المعروفة باسم (تونا الجبل) وهى المنطقة التى اكتشفها عالم الآثار الكبير (سامى جبره) عام 1935 وظلّ يعمل بها
حتى عام 1955، وبها بعض المقابر ومومياء إيزادورا. وكان أعظم اكتشافاته (السراديب) المحفورة تحت سطح الأرض على مساحة خمسين فدانـًا. وتلك السراديب أشبه بمدينة حيث تقسيمها إلى (شوارع) أقرب إلى التقسيم فى العصر الحديث ، ولكن هذه الآثار لا تجد أية رعاية ولا دعاية ولا يزورها أحد ، لا من المصريين ولا من الأجانب ، ومن هنا أهمية الاختيار الدقيق الذى حرصتْ عليه د. مرفت ، فلو قــُـدّر لمشروعها أنْ يحظى بالاهتمام من الإعلام المصرى ومن مجمل الثقافة المصرية السائدة ، سيكون العائد نهضة لتلك المنطقة الثرية بالآثار، فتنشط حركة السياحة ، التى سيترتب عليها حركة فى التنمية الشاملة للمنطقة ، كما تتمنى وتتوقع د. مرفت فى لائحة مشروعها الذى أشهرته عام 2009 برقم 7659 باسم (مؤسسة مرفت عبد الناصر للإبداع والتنمية الثقافية)
ولأننى على اتصال وتواصل دائميْن بالدكتورة مرفت ، فقد لمستُ معاناتها مع أجهزة الدولة الرسمية ، فهى حريصة على أنْ تتبنى الدولة المصرية مشروعها ، لذا طرقتْ كل الأبواب وتقابلتْ مع العديد من المسئولين (المصريين) لمد يد المساعدة فى الدعاية الإعلامية لمشروعها ، من خلال تنظيم مؤتمرات علمية عن آثار المنطقة ، أو التعريف بدور تلك المنطقة فى الحضارة المصرية ، مثل دور منطقة الأشمونيين فى تاريخ مصر القديمة ، حيث نشأ الارتباط باسم أحد أهم رموز الحضارة المصرية (تحوت) أو (جحوتى) بصفته رمز المعرفة والكتابة والفكر. وكما ذكرتْ د. مرفت فإنّ هذا الموقع فى تاريخ مصر القديمة كان قلعة فكرية قصده الباحثون عن العلم والمعرفة من مختلف دول العالم القديم ، للتعرف على الفلسفة المصرية ، لدرجة أنّ اليونانيين أطلقوا على هذا الموقع (هرموبولس) نسبة ل (هرمس) المرادف الإغريقى ل (تحوت) كما أنّ هذا الموقع قريب من مدينة أخيتاتون (المعروفة حاليًا باسم تل العمارنة) وهى المدينة التى اختارها (آمن – حتب – الرابع) الشهير باسم أخناتون (1372- 1354ق. م) وشرحتْ د. مرفت للمسئولين الذين تقابلتْ معهم أنّ (تونا الجبل) قريبة من مقابر أسر الدولة الوسطى فى منطقة (بنى حسن) التى تمتلك خصوصية مُتميّزة بجدارياتها الفنية رفيعة المستوى وموقعها الجغرافى الفريد فى تنوعه. كذلك فإنّ هذا الموقع له أهمية خاصة ، إذْ وفقــًا للموروث الثقافى فإنه الموقع الذى شهد رحلة السيد المسيح والعائلة المقدسة ، الأمر الذى يجعل منه مزارًا لكل أبناء الديانة المسيحية من مختلف الجنسيات ، فيعود بالخير على مصر من خلال حركة السياحة النشيطة. كما أنه المكان الذى شهد كتابة أقدم الأناجيل فى العالم ، كما أنّ له صلات وثيقة بمكتبة نجع حمادى ، وصلات وثيقة بمدينة أخميم التى نالتْ شهرة عالمية بسبب علمائها وفلاسفتها المصريين .
عاشتْ د. مرفت عبد الناصر فى لندن أكثر من ثلاثين عامًا . عملتْ فى جامعة كينجز كوليدج وحصلتْ على زمالة الكلية الملكية للأطباء النفسيين وكذا حصلتْ على الدكتوراه فى علم النفس . وبعد عودتها إلى مصر أصرّتْ على شراء مساحة الأرض فى تونا الجبل لتحقيق حلم حياتها من خلال الأهداف التى رصدتها فى لائحة المشروع ومنها : خلق بنية ثقافية تتبنى العقول الإبداعية من أبناء محافظة المنيا أو من أى محافظة مصرية. مع تفعيل الوعى بتراث مصر الحضارى ، مع ربط الماضى بالحاضر، فينبثق عنه الاهتمام بالسياحة الثقافية. فرغم أنّ د. مرفت تــُـعانى من نقص السيولة النقدية بعد أنْ أنفقتْ (تحويشة العمر) فإنها ترفض أنْ يأخذ مشروعها شكل السياحة التقليدية لأنها مصرة على (نوعية معينة) من السياح المؤمنين بالحضارة المصرية. كما يستهدف مشروعها تشجيع الحوار بين أبناء شعبنا من أجل تعميق وترسيخ معنى (المواطنة) بجانب التعريف بالحضارة المصرية والآثار المصرية ، وهذا الهدف تحقق بالفعل ، ومن هنا كانت الدعوة التى تلقيتها من د. مرفت لحضور ندوة ثقافية حضرها حوالىْ خمسين فتاة وفتى من بعض مراكز الشباب فى مدينة ملوى الذين حرصوا على مناقشة كتاب د. مرفت (لماذا فقد حورس عينه- قراءة جديدة فى الفكر المصرى- الصادر عن دار شرقيات) وكانت المناقشة ثرية دلتْ على القراءة الواعية من الشباب ، وحدث تفاعل بينهم وبين د. مرفت التى قدّمتنى للشباب وقدّمت الباحث ومحقق التراث الأستاذ عبد العزيز جمال الدين . وبعد انتهاء الندوة طلب الشباب تكرار الزيارة ، وهو ما يؤكد أنّ الإصرار والجدية والإيمان بفكرة ما ، من أهم عوامل نجاح أى مشروع ، وهى الخصائص التى تتمتع بها د. مرفت رغم المعوقات البيروقراطية والمالية.
ومن بين أهداف المشروع أيضًا تشجيع أبناء المنيا على تجديد وإتقان الحرف التقليدية مع خلق فرص عمل لهم ، وهى فكرة طموحة تتوجب اهتمام مؤسسات الدولة لتحقيق هدفين هما : الأول إحياء تراث الحرف التقليدية ، وهو هدف تهتم به معظم دول العالم مثل الهند والصين واليابان وتونس ، وهو الهدف الذى سعى إليه الفنان عزالدين نجيب رئيس جمعية أصالة للحرف التقليدية منذ عدة سنوات دون أى إهتمام من الأجهزة المصرية الرسمية. أما الهدف الثانى فهو القضاء على مشكلة البطالة المزمنة والمنتشرة بين الشباب . كما تتمنى د. مرفت أنّ يكون مشروعها بمثابة (محمية ثقافية) لها طابع مصرى خالص ، وكان مدخلها لذلك زراعة مساحات شاسعة ضمن مساحة مشروعها ، تتميّز بالأشجار المصرية النادرة ، وهو ما رأيته فى زيارتى الأخيرة لمشروعها . كما أنّ د. مرفت حرصتْ على استخدام الطاقة الشمسية وبالفعل رأيتُ ثلاثة أجهزة للطاقة الشمسية فى أماكن متفرقة داخل مساحة المشروع .
الدكتورة مرفت عبد الناصر مؤمنة بجدلية الزمن ، ومن هذا الإيمان بتلك الجدلية ، ينبثق لديها الإيمان بحقيقة (الموت) ولكنها ترى (الموت) كما رآه جدودنا المصريون القدماء : رحلة إلى العالم الأخروى ، بمعنى متوالية الحياة ، وأنّ (موت الجسد) لا يعنى موت الحياة المُتجدّدة ، مثل شروق الشمس وغروبها ، ومثل تبادل النهار مع الليل ، ومثل تجدد حركة النيل ، ومثل البذرة التى تـُدفن فى الأرض ، فتتخلق منها حياة جديدة إلخ لكل ذلك هى مشغولة بسؤال : ماذا يحدث بعد رحيلها عن دنيانا الأرضية وتذهب إلى عالم أوزير؟ والسؤال بصيغة أخرى : ماذا يحدث لمشروعها بعد رحيل روحها إلى العالم الأخروى ؟ من سيتولى رعاية مشروعها والاهتمام به ليكون منارة وشعلة للأجيال القادمة ؟ إذا حدث ووجدتْ الجهة التى تتبنى المشروع قبل رحيلها ، بشرط الإيمان الكامل بأهداف المشروع ، وليس مجرد تحويله إلى هدف استثمارى يهدم فكرته الأساسية من أجل جنى الأموال فقط ، لو حدث ووجدتْ الجهة الجادة المؤمنة بالحضارة المصرية ، فإنها سترحل مطمئنة ، حيث تعيش مع (ماعت) رمز التوازن فى صراع الخير والشر كما عبّرتْ عنه الميثولوجيا المصرية. إنّ (ماعت) كما كتبتْ د. مرفت ليستْ رمز العدل فقط ، وإنما رمزها الأعمق تعادلية الأضداد ، بمعنى عدم نفى المختلف لمجرد أنه مختلف طالما أنه مؤمن بحق غيره فى الاختلاف . وعندما رأيتُ المقبرة التى صمّمتها د. مرفت لنفسها داخل مشروعها ، على طراز المقابر المصرية التى تركها جدودنا المصريون القدماء ، انتابتنى حالة من الشجن الممزوج بالتقدير العميق لهذه الإنسانة المصرية التى عشقتْ تراث جدودنا ، لذا فضلتْ بدلا من أنْ تــُـنفق ملايين الجنيهات على حياة مترفة (وهذا حقها) فتتمتع بقضاء أيامها فى التنقل بين دول العالم المختلفة كسائحة ، فإنها رأتْ أنّ تلك الملايين من الجنيهات من حق شعبنا ، فأنشأتْ المؤسسة التى حملتْ اسمها ، وشيّدتْ المقبرة التى سوف تحتضن جثمانها . وهى – كما أعرف من قربى منها- مؤمنة بأنّ (الموت) مرحلة من مراحل الإنسان ، كما صوّره جدودنا فى بردياتهم وعلى جدران معابدهم ، إذْ كانوا يكتشفون الحياة فى بحثهم عن الموت ، وهو المعنى الذى صاغه الأديب الفرنسى الكبير (أندريه مالرو) وزير الثقافة الفرنسية عندما زار مصر فقال ((إنّ ما بحثتْ عنه مصر فى الموت ، هو تحديدًا القضاء على الموت.. إننى باسم فرنسا أشكر مصر التى كانت أول من ابتكر الخلود )) فهل يهتم المسئولون بمشروع د. مرفت ليكون فى مصر (مزار سياحى) له طبيعته الخاصة المتعلقة بالحضارة المصرية؟