القاهرة 23 مارس 2017 الساعة 10:55 ص
تجري الاستعدادات علي قدم وساق ــ كما يقولون ــ لعقد القمة العراقية في العاصمة الأردنية عمان. في أواخر الأسبوع المقبل. وتتوالي التصريحات من المسئولين تبشرنا بأنها ستكون قمة للمصالحة العربية وإعادة جمع الشمل العربي.. ولا يملك المرء إلا أن يقول: تفاءلوا بالخير تجدوه. وهناك مقدمات علي أكثر من صعيد وفي أكثر من عاصمة عربية توحي بإمكانية فتح باب الأمل. ولعل من أهمها لقاء القاهرة يوم الاثنين بين الرئيس عبدالفتاح السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس. فقد جاء اللقاء بعد انقطاع أبو مازن عن زياراته المعتادة للقاهرة.
وهذا ليس من تقاليد ولا من أسس العلاقة المصرية ــ الفلسطينية منذ 1948 بشكل عام ومنذ عدوان يونيو1967 بشكل عام. حيث أصبح من ثوابت هذه العلاقة أن "شعرة معاوية ممدودة دائماً ولا تنقطع أبداً". تعبيراً عن حقائق التاريخ والجغرافيا وعن علاقات الدم. التي جدد الرئيس السيسي في اللقاء التعبير عنها بقوله وتأكيده أن قضية فلسطين تحتفظ بمكانتها علي "قمة أولويات السياسة المصرية الخارجية باعتبارها القضية العربية المحورية". حسبما صرح به المتحدث باسم الرئاسة.
ومن الثابت سياسياً وتاريخياً. خاصة في العصر الحديث. أن العلاقة المصرية ــ الفلسطينية هي علامة الصحة والعافية في الجسد العربي. ذلك أن الحديث عن عروبة مصر وفلسطين هو حديث عن "عروبة مصر" أي عن "شخصية مصر العربية" التي يعتبرها مؤرخون معاصرون من ثوابت التاريخ المصري. ودون أن نغرق في حديث التاريخ علينا أن نري حقائق الجغرافيا وثوابتها بحق. فهي التي جعلت من فلسطين "بوابة مصر الشرقية" عبرها جاءت الهجرات العربية إلي مصر. وأهمها الهجرة الأولي. في عصر ما قبل الأسرات 3500 قبل الميلاد تقريباً. وكان جنوب مصر المدخل الثاني للهجرات العربية إلي مصر. عبر البحر الأحمر. يقول العلاَّْمة جمال حمدان إن علاقات القرابة والنسب بين مصر والعرب "متبادلة وسابقة للإسلام بل والتاريخ. وماكان الإسلام إلا إعادة توكيد وتكثيف وتقريب".
وبحكم الموقع الجغرافي. تحد مصر من جميع الجهات أقطار عربية ماعدا جهة الشمال. حيث يحدها البحر الأبيض المتوسط الذي كان يعتبر بحيرة عربية في بعض مراحل التاريخ.
في الوقت نفسه. شكل موقع مصر الجغرافي المتميز خطورة علي أمنها. ومنذ التاريخ القديم كانت حدود مصر في الاتجاه الشمالي ــ الشرقي منفذاً للغزاة والهجرات. كما كانت في الوقت نفسه مدخلاً للأفكار والتبادل التجاري. ومن هناك. أدرك المصريون وقادتهم الكبار أن الحدود الطبيعية لبلدهم تبدأ من خارجها في فلسطين شرقاً وفي برقة غرباً. ولذلك كانت جميع حروب مصر التاريخية تتم فوق أرض آسيوية. ويري جمال حمدان أن إطار النشاط المصري في آسيا لا يخرج تقليدياً عن الهلال الخصيب حتي أقدام الأناضول ومشارف الفرات وتخوم العرب البتراء. وتظل العلاقة بين مصر والشام "علاقة خاصة". ثم يضيف واحدة من مقارناته الطريفة والدقيقة: "إذا كان شمال الشام أقرب إلي شمال العراق. فإن جنوبه أقرب إلي مصر. وإن يكن الشام والعراق. اللذان يؤلفان الهلال الخصيب. هما كالقوائم بين الأشقاء. فإن الشام ومصر أيضاً هما في الوطن العربي توأمان آخران إلي حد كبير. وتزداد هذه العلاقة تكثفاً في جنوب الشام. حيث تبدو فلسطين بالذات وهي من أكثر جيران مصر تأثراً بها. وهنا. يقدر الكاتب الفلسطيني عمر البرغوثي أن أكثر من عشر سكان فلسطين يمتون إلي أصل مصري. فقد هاجرت عائلاتهم مع جيش ابراهيم باشا إلي فلسطين. ثم التجأت عائلات أخري فراراً من السخرة والشدة. ويري عارف العارف أن المصريين كانوا أهم عنصر من عناصر السكان الذي استوطنوا غزة علي مر الأحقاب". "شخصية مصر. الجزء الرابع".
وقد جسدت أحداث التاريخ ذلك كله وقائع تحددت زماناً ومكاناً. من قادش التي قادها رمسيس الثاني ــ حوالي 1274 قبل الميلاد ــ وانتصر فيها علي الحيثيين. إلي اليوم. يوم العبور المصري ــ السوري في .1973 ومن المقطوع به أن قوة مصر وضعفها يتوقفان علي علاقتها مع فلسطين: أغلب الغزوات ضد مصر عبرت من الشرق. وإن قويت مصر عبرت إلي الشرق.
في ضوء لقاء القاهرة. وماجاء هنا خلفية. فقد كنا وسنظل من المنؤمنين بأن "فلسطين قضية مصرية" شاء من شاء وأبي من أبي . فقد ابتلينا خاصة منذ ثلاثية الزيارة والكامب والمعاهدة ــ وعلي الجانبين المصري والفلسطيني ــ بمن يحاولون إثارة الشكوك في حقائق التاريخ والجغرافيا. منهم من يري ــ هنا ــ أن مصلحة مصر في أن تنفض يديها من قضية فلسطين. وهناك من يري علي العكس أن نجاة فلسطين في ابتعادها عن مصر. وهذا إفك وافتراء من الجانبين. فلاغني لمصرعن فلسطين. ولا بديل لدور مصر في فلسطين. القضية والشعب وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين. قد يحدث خلاف حول نقطة أو أخري. قد تختلف وجهات النظر في بعض القضايا القانونية.. كل هذا وارد. ولكنه لا يغلق أبداً أبواب مصر في وجه فلسطين. ومن المتفق عليه أنه لا يوجد بديل لمصر في حل قضية فلسطين. وواهم وقصير النظر وعديم الرؤية من يري غير ذلك.
ويكفي أن مصر كانت وراء اقامة منظمة التحرير الفلسطينية التي يحاول البعض هدمها أو النيل منها تحقيقاً لأهواء هذه الدويلة أوتلك.. وما مؤتمر تركيا الفلسطيني ببعيد. ولكن مصر لا تعبأ بكل هذا. وتعرف دوره وتؤديه وحتي لو أخطأت فإن أخطاءها محتملة فلسطينياً وعربياً. أليس كذلك؟.
استقالة ريما خلف : ما العمل ؟
ربما لن تتردد الدكتورة ريما خلف الأمينة التنفيذية لـــ "لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الاسكوا"" التي استقالت بشجاعة من منصبها رافضة ضغوطاً تعرضت لها من الأمين العام للأمم المتحدة نفسه. ربما لن تتردد في أن تُردد صرخة شاعر فلسطين الكبير محمود درويش. ارحمونا من كل هذا الحب!!. ريما لا تريد حباً ولا تكريماً. فليس من أجل هذا قدمت استقالتها. ولكنها تريد من العرب أجمعين خطوات تكمل خطوتها وتبني عليها وتستفيد منها في فضح وتأكيد عنصرية "دولة إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني. اذن امنحوها ما شئتم وامدحوها كما تريدون. ولكن انتهزوا الفرصة وأمسكوا هذه المرة بطريقة صحيحة بهذه الوثيقة التي يمثل حجبها والضغوط التي بذلت من أجل ذلك فضيحة لكل من قام بدور فيه بداية من الأمين العام للمنظمة الدولية ووصولاً إلي مسئولين وسياسيين كبار في الإدارة الأمريكية.
من قبل.. أضعنا فرصة مماثلة وهي الرأي الاستشاري للمحكمة الدولية في 2004 حول السور العنصري بل والاستيطان. فقد كبرنا "بتشديد الباء المفتوحة" وحللنا. ثم آل الرأي إلي الملفات.. وكذلك "تقرير جولد ستون" بشأن جرائم العدو الإسرائيلي في عدوانه علي غزة. وكفَّناه ودفناه بأيدينا في موقف يندي له جبين أي عربي.. هل تذكرون؟. واسألوا لجنة التحقيق الفلسطينية في المسئول عن ذلك.
خطاب استقالة الدكتورة ريما لا يزال ساخناً. والاستفادة به ومنه متاحة. وأرجو ألا تضيع. هنا. أتذكر أنه حينما أصدر المفكر الفرنسي روجيه جارودي كتابه "الأساطير الصهيونية المؤسسة لدولة إسرائيل" كتبت ــ وكنت عندئذ في صحيفة "الاتحاد" في أبوظبي ــ داعياً أحد المليونيرات العرب إلي التبرع بمليون دولار لطبع ونشر هذا الكتاب وتوزيعه مجاناً في جميع أنحاء العالم. وكأن أحداً لم يسمع أو ير اليوم. عدد المليونيرات العرب أكثر وملياراتهم أضخم فمن يبادر بنشر هذه الوثيقة ــ أي استقالة الدكتورة ريما ــ وأسبابها. في الصحف العالمية الكبري. هذه واحدة. التي يجب أن يصاحبها تحرك عربي من داخل الأمم المتحدة وفروعها دفاعاً عن التقرير الذي إذا حجب في المنظمة الدولية فيجب نشره خارجها وبسرعة. في اطار تحرك هدفه كشف حقيقة السياسة العنصرية "الابارتيد" الصهيونية والإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في داخل أراضي 1948 وفي الأراضي المحتلة في .1967
لقد سارع الإعلام الإسرائيلي فور تقديم استقالة الدكتورة ريما خلف إلي فتح نيرانه ضدها. وضد تقريرها. وضد "اللجنة الاقتصادية ــ الاجتماعية لغرب آسيا". بل وإلي جميع فروع الأمم المتحدة واتهامها بالعداء للسامية والتربص باسرائيل! ووصف صحفي إسرائيلي التقرير الذي حجب ــ إلي الآن ــ بأنه "أسوأ التقارير التي جاءت إلي العالم بعد الكارثة" أي بعد المذابح النازية في الحرب العالمية الثانية. "اريئيل بولشتاين في صحيفة "إسرائيل اليوم" الموالية لنتنياهو. في 19 مارس الحالي" وفي حدود ما أتيح من معلومات من قبل عن التقرير. وفي ضوء ما هو معروف عن اللجنة التي أصدرته من دأب وتدقيق علمي. وفي ضوء نص استقالة الدكتورة ريما فإن الصهاينة بكل قدراتهم في المراوغة وقلب الحقائق واللف والدوران عاجزون عن تقديم رد مقنع علي هذا التقرير. ولعل دقته هي التي زادت سعارهم. وهذا ما أوضحته صاحبة الاستقالة بقولها: "لا يسعني إلا أن أؤكد علي إصراري علي استنتاجات تقرير الإسكوا القائلة بأن إسرائيل قد أسست نظام فصل عنصري "أبارتيد". يهدف إلي تسلط جماعة عرقية علي أخري. إن الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة وتكفيني هنا الإشارة إلي أن من هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة.. "تمنيت لو تمكنت من نشر نص الاستقالة كاملاً".
عودة إلي السوابق التي ضاعت. فقد كانت أولاها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1975 بشأن عنصرية الصهيونية. وقد تم التراجع عنه في ديسمبر 1991 ونحن غافلون. وذلك بعد ضغوط أمريكية علي أغلب أعضاء المنظمة الدولية. واليوم. وفي ظل إدارة ترامب فإن واشنطن قد تكون ضغوطها أعنف. لذا يجب وضع خطة متكاملة في هذا الشأن لمخاطبة الرأي العام الأمريكي ومتخذي القرار فيه. ومن يضع مثل هذه الخطة يجد بين يديه مادة "عنصرية" خصبة تقفيض بها الصحف الإسرائيلية. وهي مادة تفضخ وجه إسرائيل العنصري فهي كما يقول الكاتب البريطاني "آلان هارت" تزخر يومياً بقصص مؤثرة عن الواقع الاستعماري والعنصري في إسرائيل. فمتي نستغل هذا كله؟ وكيف نستفيد منه؟ لإثبات أن تقرير "الإسكوا" علي الحق وأن الذين هاجموه هم أنصار العنصريين وحماتهم. واسلمي يا مصر.