القاهرة 22 فبراير 2017 الساعة 02:04 م
ضم الدكتور سعد البازعي، في كتابه الصادر عن المركز الثقافي العربي، مجموعة مقالات قصيرة عنيت بموضوع أشار إليه صراحة العنوان الذي وُسم به الكتاب، ولئن تفاوتت المقالات التي شكلت فصول الكتاب قرباً أو بعداً من موضوع الكتاب المعلن، حتى ليجد القارئ أحياناً نفسه مضطراً إلى إيجاد ثنائية كيما يقرأ المقالة في سياقها الذي أريد لها أن تُقرأ فيه، إلا أنها مخلصة لفحص ثنائية الألفة والغرابة على أكثر من مستوى، منطلقة من مفهوم الغرابة الذي يمكن القول اننقاداً وفلاسفة رأوا فيه منذ وقت باكر قوام اللغة الأدبية أو الفنية، وبالتالي الأدب أو الفن عموماً.
أشاع الشكلانيون الروس مفهوم التغريب defamiliarization،
وعلى رأسهم ?يكتور شلو?سكي، الذي وصفه في مقالة «الفن باعتباره تكنيكاً» بأنه تكنيك فني يجعل من الأشياء غريبة.
فعوضاً عن أن تكون القيمة الفنية للشيء في ذاته، تكون في موقعه مما حوله تبايناً وتشابهاً. بحسب هذا التصور تختلف اللغة الشعرية اختلافاً أساساً عن اللغة التي تستخدم في الحياة اليومية. إذ على عكس اللغة اليومية، تكون اللغة الشعرية مؤطرة، كما أن مجرد عمدها إلى الغريب يُلبسها الصبغة الأدبية تلقائياً.
لقيت الفكرة صدى لدى رواد النقد الجديد، الذي اعتمد في منهجه على البحث عما يجعل نصاً ما أدبياً، بعيداً عن الاعتناء بأي من السياقات الخارجية التي وجد فيها النص. كان نتيجة هذه الرؤية الاهتمام بعدد من العناصر التي تحدد قيمة العمل الأدبي، مثل استخدام اللغة المجازية والمفارقة والغموض في الشعر. ويذكر أن مفهوم الغرابة لم يتوقف عند التنظير، بل تجاوز النظر إلى الملَكَة الأدبية إلى تطبيقات أو أدوات واعية أتت على شكل ممارسات جمالية، ولعل أقرب الأمثلة على هذه الانعطافة استخدام برتولت بريشت تكنيك «الأثر التغريبي alienating effect»، والذي يصف استخدام أدوات غُرض منها الحيلولة دون احتمال تماهي الجمهور مع أحداث المسرحية وشخصياتها، من خلال خلق مسافة مقصودة تحرم الجمهور من التفاعل العاطفي مع المسرحية، وتذكرهم بفنية الأداء المسرحي، من أجل أن يكون التفاعل مع العمل الفني والأدبي عن طريق إعمال التفكير لا العاطفة.
الألفة والغرابة باعتبارهما موضوعاً للشعر
بيد أن البازعي لا ينشغل بهذا المفهوم من الغريب في تحديد ماهية الأدبي من غيره إلا بقدر انشغاله بالألفة والغرابة باعتبارها موضوعاً للشعر أو شكلا. خير تعبير عن هذا الملمح بيت يورده المؤلف باكراً من قصيدة لصلاح عبدالصبور، يقول فيها: «أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة/ لقاء يومٍ واحدٍ من البكارة». ما عدا ذلك تكون الألفة والغرابة في تعليقات اجتذبتها صور شعرية أو أساليب بلاغية أو أعراف جمالية.
كما في التجربة مقابل الجدة في بيت عبدالصبور آنف الذكر، والشيب والصبا عند المتنبي، والبياض والصمت عند الدميني، أو في جدل حول محددات الشعر وأعرافه كذاك الذي دار بين أحمد عبدالمعطي حجازي وعباس محمود العقاد حول قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية.
في فصل «جنون الشاعرات»، والذي يبدو أبعد الفصول صلة بموضوع الكتاب، أورد المؤلف إشارة سريعة إلى دراسة سيكولوجية عن العلاقة بين الإبداع والحالات النفسية، أعادها إلى كاتبة استشهدت بها في بحثها للدكتوراه، تهتم بكون الشاعرات أكثر عرضة للأمراض العقلية والنفسية. وبعيداً عن المنظور الرومنسي للجنون في الشعر وعن قصور التحليل النفسي في فهم العلاقات الخارجية التي تؤثر في سلوك الإنسان فهماً وافياً واعتماده نموذجاً أبوياً موحداً للسلوك لا يزيغ عنه إلا مضطرب، يستدعي الخاطر دراسة مهمة أجرتها سوزان گوبار وساندرا گلبرت، وشكلت انعطافة في الخطاب النسوي الغربي في وقتها، الدراسة بعنوان: «المرأة المجنونة في العِلية» وعنوان فرعي: «الكاتبة والمخيال الأدبي في القرن التاسع عشر».
قدم الكتاب تحليلاً مفصلاً لمجاز ذاع في أدب القرن الـ19، مفاده أن كل الشخصيات الأنثوية في الروايات التي كتبها ذكور تنقسم إلى قسمين لا ثالث لهما، وهما إما أن تكون الشخصية ملاكاً أو شيطاناً.
هذه الثنائية الصارمة تعبّر عن تصور وتعريف يحسب الذكر فيها نظيرته الأنثى وفق ما يريده لها ومنها.
طرفا هذه القطبية الملاك المحتشم الطيّع البريء، والشيطان الشهواني الجامح العاصي. بهذا يكون الأدب نفسه، بإخلاصه للفكر الأبوي المهيمن، أسهم في تكريس صورة المرأة المجنونة التي طاب لأدب العصر ال?يكتوري تصديرها. وبعد دراسة صورة المرأة في روايات كتبتها نساء، من مثل جين أوستن وميري شيلي وتشارلوت برونتي وإميلي دكنسون، خلصت الدراسة إلى أن هؤلاء الأديبات استطعن بالفعل خلخلة تلك الثنائية وأذبن الحدود بين قطبيها.
الرمادي تطور تاريخي للثنائية
عوداً إلى جدل الألفة والغرابة، كان الحديث عن الرمادي باعتباره منطقة تتعدى ثنائية الأبيض والأسود جاءت الإشارة إليها في المقدمة، ثم حظيت بتناول ضمني في بعض الفصول. أكثر مناطق الكتاب إثارة هي المناطق التي يتجه فيها الحديث إلى تفتيت ثنائية هذا الجدل. تمثل هذا الرمادي مقالة بعنوان: «طيار ييتس» تناولت، في مقاربة نقدية لقصيدتين لكل من وليم بتلر ييتس ومحمود درويش، حيرة الجندي المحارب في حب من يفترض أنه يقاتل من أجلهم، وكره من يفترض أنه يقاتل. هكذا يصبح الرمادي تطوراً تاريخياً للثنائية، أملته أولا الظروف التي أُنتج فيها العمل الأدبي ثم ثانياً ميل الأدباء الغريزي إلى الابتكار ودفع حدود التجربة الفنية دونما توقف. إن الرمادي في ظني هو ما يجب أن يُرَكَّز عليه، كون الثنائيات، وإن لم يكن من تناولها بُدّ، لم تعد تنطبق بوضوح على أدب ما بعد الحداثة، خصوصاً في سياقات الحديث عن الهويات المُشكِلة والمهجنة، والتي هُجر فيها تبني رؤية جوهرانية للذات لمصلحة التشابك والتعقيد الذي يسم الحياة اليوم في شتى مناحيها. ولم يعد لاستدعائها مبرر سوى نقدها ونقضها. انهدّت اليوم الفواصل بين الخاص والعام، والكوني والفردي، والإنسان والآلة، ولم تعد هذه الثنائيات وغيرها كافية للتعبير عن وجهة نظر الإنسان أو وصف حاله بكفاءة، وعليه لا يكون استحضارها إلا لفهم مبدئي لآلية «الغيرية» التي يقوم عليها نظام الاختلاف.
ختاماً، قد لا تلتزم القراءات التي تكمل عقد الكتاب برؤية تاريخية للجدل الذي عني به الكتاب، وهي في غالبها تعود إلى ما قبل المعاصرة التي أشير إليها في عنوانه الفرعي، كما قد لا يتبع الكتاب منهجاً واحداً في مقاربة النصوص التي ينشغل بها واضعه، إلا أن الكتاب - لا شك - في أنه يفتح مجالاً لأسئلة جمة في وسع الباحث أن يجد منها نقاط انطلاق شتى، وبهذا لا يكون «جدل الألفة والغرابة» كما قدمه البازعي أكثر من نقطة انطلاق لمزيد من البحث.