القاهرة 15 فبراير 2017 الساعة 11:21 ص
ما بين البداية المبكرة لتجربة سركون بولص في كتابة الشعر والترجمة والقصة ونشرها في المجلات الأدبية أوائل الستينات، والبداية المتأخرة نسبياً في اصدار أول كتبه وهو في الأربعين، «الوصول إلى مدينة أين/ 1985»، ثمة برهة إبداعية لا يستهان بها. وهذا إن دلّ فعلى أن ثمة تراثاً أدبياً من هذه الممارسات النصية المتعدِّدة يقع في تلك البرهة الزمنية المحتدمة بالعطاء لم يتح لها أن تظهر منشورةً في كتب.
وباتجاه الكشف عن جوانب قد لا تكون متاحة للقراء، وبخاصة من الأجيال الجديدة، دأبت «دار الجمل» التي نشرت معظم أعمال سركون، على استعادة جانبٍ من ذلك التراث. واستكمالاً للتجربة الثرية لهذا الشاعر، صدرت أخيراً ترجماته الشعرية بعنوان «رقائم لروح الكون»، وهي تضمّ مختارات شعرية من قارات العالم.
تعدّ هذه الترجمات التي أعدَّها للنشر الشاعر والناشر خالد المعالي، واحدة من بين مشاريع عدَّة كان الشاعر الراحل قد بدأ التفكير في جمعها، لكنه تركها مخطوطات ومنشورات متفرقة في مجلات وصحف عدة تاركاً لصديقه أن يقتفي آثاراً صعبة في الغياب.
يضم الكتاب (600 صفحة) ترجماته لقصائد طاغور وأدغار آلان بو، كان نشرها في وقت مبكر في مجلة «العاملون في النفط» بتشجيع من جبرا إبراهيم جبرا، إضافة إلى أحدث ترجماته قبل رحيله، وهي لا تشمل تلك الترجمات التي صدرت في كتب مستقلة لأودن، وميروين، وآلن غنسبيرغ، وتيد هيوز، وهوشي منه.
هكذا تبدو ترجمات سركون متفوقة من حيث الكمَّ على تجربته الشعرية، لكنها تشكل «نوعاً» تكاملياً في البحث الشعري لشاعرٍ أعلن منذ أول ديوان له إن الوصول هو السؤال. «الوصول إلى مدينة أين»، ذلك البحث الأكثر متعة من الجواب نفسه كما يعبر غريغوري كورسو: «أنا لست في حاجة إلى معرفة الجواب/ الشعرُ هو البحث عن الجواب».
جيل الحداثة
بيد أن ترجماته في «مجلة شعر»، سواء تلك التي كان يرسلها من بغداد، أو خلال عمله المباشر بالمجلة بعد إقامته في بيروت، أضفت نكهة خاصة، في بلد كانت ثقافته الاجتماعية والأدبية تتجه في شكل أساسي نحو الفرنسية. ومع أنّ توفيق صايغ ويوسف الخال اهتما بالشعر الأميركي وترجمته، لم يكن هذا الاهتمام قوياً إزاء الحضور الطاغي للشعر الفرنسي. وكان اهتمامهما منصبَّاً على جيل الحداثة الأول باوند وإليوت تحديداً، ومعاصريهما من شعراء بين الحربين، بينما عرف سركون- الذي لم يترجم أية قصيدة لإليوت ضمن هذه المختارات!- بجيل «البِيتْ» شعراء الفوضى والحرية المفتوحة والرفض الهنليستي للمدنية، والحروب: غينسبرغ وفرلنغيتي وغريغوري كورسو وجاك كيرواك، وغاري سنايدر وسواهم وهم جيل «البراءة الخشنة» ومجموعة من «الشعراء السائبين!»، كما وصفهم عند تقديمهم في الترجمة التي عرفت بهم من خلال مجلة «شعر». وهي تجربة ارتبطت في تلك الفترة برفض الحرب الأميركية في فيتنام، ونقد الحياة الغربية، والاحتجاج بالتوجه نحو المخدرات والتشرد.
حساسية عربية
ومثلما شكّل هؤلاء المنشقُّون عن تقاليد الشعر والحياة في أميركا، نكهة مختلفة في الأدب الأميركي، فلا شك في أن استقبالهم عربياً كان له أثر كبير، وبخاصة لدى الجيل الشعري الذي ينتمي إليه سركون، ومن ثمّ في سائر الحساسية الشعرية العربية. فالعناصر التي تشكل العالم الشعري لهؤلاء «الصعاليك الهيبيين» مزيج من هذيان وتصوف شرق آسيوي وتوجه إلى كل ما هو غير أميركي، لأنهم ضاقوا ذرعاً بانهماك الشعر الأميركي بالتعقيدات التقليدية للحياة الداخلية للمجتمع، ما دفعهم للانطلاق في البحث عن المشكلة الإنسانية في مكان آخر أكثر اتساعاً وأغنى تعقيداً.
أكثر من مئة شاعر من حضارات سومر وبابل إلى أعماق آسيا، الهند واليابان والصين، ومن شعراء الإغريق والرومان، إلى شعراء التروبادور الأندلسيين، ومن السرياليين، إلى الشعراء اليساريين في أميركا اللاتينية، ومن صراخ عدميي أوروبا، إلى شعراء المدرسة الهرمسية إضافة الى شعراء العصر الأليزابيثي، وموجزات الهايكو، وإشراقات رامبو.
وبهذا المعنى فهي «حماسة كبرى» وشعر حضارات وثقافات شرقية وغربية. فهؤلاء الشعراء الوافدون من عصور شتى، لا يكتفون بأخبارنا عن عصورهم تلك، إنهم يخبرون عن عصرنا أيضاً، وهذا ما يجعل الشعر خالداً، في هذه الكثافة المتجدَّدة من الزمن والعصية على التصنيف والتحقيب، وإن شكَّل شعراء القرن العشرين مادته الأساسية، القرن الطويل والمحتدم بوصف نيرودا:« يالهُ من قَرنٍ طويل!/تساءلنا: متى ينتهي؟/متى يسقط رأسيّاً/في الكثافة، في المتاهة؟/في الثورة التي عبدناها؟/أو في الأكذوبة/البطريركية الكاملة الصفات؟/لكنّ ما هو أكيدٌ/هو أننا لم نعشه أبداً/كما كنّا نريد».
هذه اللغات المتعددة والثقافات المتباينة تلتقي في هجنة إبداعية فيها نكهة خلاسة متبادلة، في ترجمة تنتمي إلى الكون أكثر من العالم، بمعنى أنها تنتمي إلى غوايات الفضاء الشعري ومتاهاته الجديرة بالاقتفاء أكثر من انتمائها إلى تصنيفات جغرافية أو حتى أممية أو ثقافية. أما هذا التنوع الشديد الثراء والتعقيد، في الوقت عينه، فهو يعبر عن اختراق العالم المادي، والإحالة إلى «كون» ميتافيزيقي، وفضاء أسطوري.
لكنّ السؤال الأساسي في مختارات شاملة كهذه هو: كيف يمكن نقل روح الشعر المكتوب بتقاليد شعرية مختلفة، وخصائص لغوية متباينة، وجذور ثقافات متشعبة بين المادية والمثالية؟ ما الذي يجمع رامبو بطاغور، وريلكه ببوكوفسكي، أو صخب جيل البِيْت، بتأملات جون دن، أو شكسبير ببيسوا، ووالت ويتمان بريتسوس؟ والجواب على هذا يتخلص بأن هذا الكتاب ليس درساً في الترجمة، بقدر ما هو سياحة مفتوحة تظهر سعة اطلاع سركون الشعرية قبل أي شيء آخر.
وهو إذ يستخدم عنوان «رقائم لروح الكون» فإن مثل هذ التسمية تحيلنا مباشرة الى المدونات القديمة في حضارة وادي الرافدين، بل إنه يقدم لترجمته بقصائد من الشعر السومري، يستعيد من خلالها ذلك التراث المحلي، وإن غدا إنسانياً من طريق الترجمة، هكذا يعيد إحياء المندثر، ويرمِّم الصلة بين الماضي السحيق والراهن. فمن خلال قصيدة سومرية تفتتح بها المختارات «دعاء من أجل نيبور المخربة» لشاعر سومري مجهول يبكي خراب مدينته، نجد أنفسنا إزاء صورة تقريبية للمدن المخربة تحت وطأة الجائحات المختلفة في العراق المعاصر بل لمدن عربية عدة، ثم تعقبها ترجمة لجزءٍ من ملحمة غلغامش (الملحمة الرافدينية الأكثر شهرة)... وهكذا تتداخل مأساة الخراب بشكيمة البحث عن الخلود، المرثية بالنشيد البطولي، مثلما تتداخل في ترجماته الأمانة بالخيانة، فتتحول الترجمة من انصياع واضطهاد متبادل بين النص الأصلي والنص المترجم إلى «خيانة خلاقة»، إلى كتابة شعرية أخرى، إذ لا يمكنك إغفال روح سركون الشعرية في هذه النصوص، وبخاصة عندما تكون الترجمات بالمداورة من لغة وسيطة.
مختبرات شعرية
ومع إن هذه المداورة لن تضيَّع جمالية قصيدة لريلكه مثلاً وهي تعبر إلى لغة ثالثة: «عَليكَ أنْ تكونَ سَهَرتَ مَعَ الْمُحْتضرين، أنْ تَكونَ جَلَسْتَ مع الموتى في الغُرفةِ ذاتِ النَّافِذَةِ الْمَفتُوحةِ والضوضاءِ النَّثيرة. وَليْسَ كافياً بَعْدُ أنْ تَكُونَ لَكَ ذِكرياتٌ عَلَيْكَ أنْ تَقْدِرَ عَلى نِسْيانِها عِنْدَما تكونُ كثيرةً، وعليك أنْ تَملكَ صَبْراً هَائلاً على الانْتِظار حتى تعود إليك... عليك أنْ تَنتظر وَتَجْمع الرشد والحلاوةَ طِيلةَ عُمْرٍ كَاملٍ، طويلٍ إنْ أمْكن، وبعد ذَاكَ، قُربَ النِّهايةِ تَمَاماً، ربَّما أَمْكنَكَ أنْ تَكتُبَ عَشرةَ أبياتٍ صالحة»
ولكن ما ينبغي التنويه له إلى أن تلك الترجمات مرَّت أصلاً بمختبرات شعرية هائلة أخرى، فمن الواضح أن ترجماته لشعراء إسبان وفرنسيين اعتمدت على ترجمات «ميروين» لهؤلاء الشعراء إلى الإنكليزية، وكذلك الأمر في ترجمته للشعر الصيني والياباني التي اعتمد فيها على اختيارات عزرا باوند في ترجماته مختارات من تلك الأشعار والتي كان لها صدى كبير وتأثير واضح في الشعر الأميركي.
سركون نفسه يخضع أشعار الآخرين لمختبره الشخصي. ففي عبارة ديريك والكوت نقرأ: «خُذْ رسائل الحبّ من رفّ الكتب/ خذ الصور، الملاحظات اليائسة/ قشّر صورتك من المرآة. /اجلسْ. تمتّع بوليمة حياتك.» فالفعل «خُذْ» هو من مختبر سركون لأن الفعل الأصلي في القصيدة «Take down»: أنزِلْ» كما أن تكراره هو اقتراح إيقاعي من سركون وليس من أصل القصيدة، وهكذا فإن الشاعر حين يتصدى لقصيدة بلغة أخرى فإنه يتماهى مع ذات الشاعر، بتفاعل إبداعي. وهو بمقدار تخليه الموقت عن ذاتيته، والتضحية بها فإنه يعيش في الوقت نفسه محنة كتابة القصيدة للمرة الأولى لدى شاعرها الأصلي. وحتى توصيف شاعرها الأصلي نفسه لا يبدو معبراً بدقَّة عن الحالة، إنه الشاعر الثالث والقصيدة الجديدة المخلوقة عبر ذلك التماهي. من هنا فإن ترجمة شاعرٍ ما قصيدة لشاعر آخر، هي المغامرة الأكثر تعبيراً وتعقيداً عن الروح الخلَّاقة للشعر.