القاهرة 26 ديسمبر 2016 الساعة 02:05 م
بعد دواوينه الشعرية الثلاثة " الموت حليف الأوليا"، و "حواري الطيبين"، و "ملامح موت بطيء" وعدد من المسرحيات الشعرية، ورواية واحدة .. يَخرج الشاعر بكري عبد الحميد علينا بديوانه الرابع في مسيرته الشعرية " الضل رامي ع البيبان حيرته" عن دار وعد للنشر والتوزيع 2016 في مائة وثماني وعشرين صفحة من القطع المتوسط. ليكمل خلاله الشاعر تجربته ومشروعه في كتابة قصيدة العامية الموزونة ذات الإيقاع الموسيقي واللفظي، مختلِفا عن دواوينه السابقة في أن الديوان الجديد يحمل فكرة واحدة خطط لها الشاعر وحرص بعناية على بنائها منذ الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة، فالايوان مهدى إلى الموسيقى الأزلية، وإلى الدماء التي انسكبت دون لحظة ندم، وأخيرا إلى مأمون الحجاجي ... وجاء الديوان كله في قصائدة الثلاث عشرة متصلا بهذه الإهداءات الثلاثة ... لكنه اتخذ من مصر المملوكية متكأ أو منطلقا ليصوغ تجربته كشاعر معاصر يعبر عن عذاباته وأحلامه الآنية.
يبدأ الديوان بقصيدة "مصر القديمة"، وينتهي بقصيدة "مصر الجديدة"، وبين القصيدتين جاءت قصائد ((باب الفتوح – باب النصر – باب زويلة – باب الخلق – باب الغوري – باب الشعرية – باب اللوق – باب سعادة – باب السر – الباب الأخضر – الباب الأحمر)، وكلها أسماء أبواب بناها وشيدها الفاطميون في مصر، وقام بتوسعة جزء منها المماليك بعد ذلك والذين لم يكتفوا بالتوسعة بل أضافوا إليها أبوبا جديدة ... والديوان يكاد أن يكون سجلا حافلا بأسماء جوهر الصقلي، وبدر الجمالي، وطومان باي، والحسين، والأزهر وغير ذلك من مفردات وملامح وإشارات مصر القديمة ... بينما الشاعر يقف أمام كل باب متأملا وراصدا وشاكيا همه وأوجاعه وعذاباته سائلا عن المصير
" من عهد آدم أنا مصلوب على الأبواب
وفتح لي باب الخلق أسراره
لا قدرت أخبي السر ولا أقوله
بدر الجمالي رمى في زمرته الأغراب
لا حد يعزف ناياته أو يحمي أرغوله"
وجاء وقوف الشاعر في الديوان أمام تلك الأبواب مستدعيا تاريخ انتصارات المصريين، وتعاطفهم مع المخلص النبيل المدافع عنهم " طومان باي مثالا"، مارًا بالمزارات الدينية المقدسة كالمشهد الحسيني، وهو ما فرض على تجربته فضاء صوفيا بدا واضحا:
" الوجد خدني من التوهة لبراح مفتوح
الوجد علمني الغنا وخلاني خفيف الروح
والعشق سلم دمعتي لليل
شق الصحاري لحد باب النصر
على سهوه كان الفراق والمنشدين ضلوا
على عتب شوقي المجذوبين صلوا"
كما جاءت بكائيات الجنائز في الديوان (العدّيد) لتتماس مع الإهداء للشاعر مأمون الحجاجي في قصيدة "باب زويلة" التي استحضر فيها الشاعر "طومان باي" ليكون الاثنان معًا حالة رثائية حزينة يتوحد فيها البطلان من وجهة نظر الشاعر
"أبكي عليك ودموعي ما ادّلوا
بيض العمايم يا شريف طلوا
أبكي عليك ودموعي ما نزلوش
بيض العمايم والخيول في الحوش"
ويستمر تأمل الشاعر للحالة المصرية القديمة، لينطلق بعد وقوفه الطويل والمستمر على تلك الأبواب لحالة شباب مصر ودمائهم التي أريقت خلال ثورة يناير دون لحظة ندم واحدة، معتبرا أن تاريخ مصر هو تاريخ نزف الدماء بوقوف المصريين جميعا على ذات الأبواب، لكنها تتحول في القصيدة الأخيرة إلى أبواب الرجاء والأمل والثورة والرغبة في التغيير:
" آدي مصر بعد الألم وخنقة الزنازين
طالعه تشد العلم من الرباط للصين
كتبت بسن القلم إن الربيع آتي
واللي يبيع الوطن يتباع بلا ديه
شوفوا الإيدين ديه"
وللوهلةِ الأولى تبدو التجربة الشعرية لديوان "الضل رامي ع البيبان حيرته" وكأنها تحتفي بالحقبة المملوكية، حتى ليغلب على الظن أن الشاعرَ يحِن إليها فيراها فترةً مضيئة من فترات مصر يتمناها لحاضره!! وهو ما لا نظنه على الإطلاق، الشاعر أراد فقط أن يستثمر فنيًا فكرةَ (الأبواب) ليقوم بنقلها إلى حالةٍ شعرية متكاملة فلم يجد حضورًا مكثفًا وطاغيًا للفكرة في التاريخ إلا في تلك الفترة، صحيحٌ أن الشاعر بدا متعاطفًا مع "طومان باي" لكنه تَعاطُفُ المصريين كلّهم في ذلك الوقت مع آخر سلاطين المماليك الشراكسة في ذلك الوقت، خاصةً وأن فترة حُكمِه كانت فترةَ الفِتن والخيانات وهي الفترةُ ذاتها التي يكاد يحياها ويعيشها الشاعر المعاصر في وطنه قُبَيل اشتعال ثورة يناير. ففكرةُ (الأبواب) بما تحيله أولا من انتظار البُشرَى والخلاص ودخول الجيوش المنتصِرة والحماية وصدِّ العدوان، وثانيًا بما تحيل إليه من الوقوف أمام الباب انتظارًا للدخول إلى المراد، أو حتى الخروج عبْرَه إلى الخلاص كانت آليةً رئيسة بَنَى الشاعر عليها تجربتَه كلها، دون أن يؤكد لنا أن في الأبوابَ خلاصًا، وليس أدل على حالة الحَيْرة والارتباك التي تعانيها الذات الشاعرة من عنوان الديوان نفسِه الذي اختار الظل – لا الأصل – وهو يلقي بحَيْرتِه على تلك الأبواب.
"الشمس بتصبّح على باب الفتوح
وهي بتلِم الألم بالليل
طِلعوا العيال
لَمّوا الغسيل م البلكونات
والأمهات صحّوا العِيال للمَدرسة"