القاهرة 05 ديسمبر 2016 الساعة 02:12 م
ثلاث قارات. ثلاث مدن. خمس لغات. ثمانية أشهر من العمل المتواصل لمئة يوم تصوير ويوم. كل هذا من أجل أربع حكايات متداخلة في بعضها البعض يحرّكها جميعاً حدث واحد. أو لنقل بشكل أكثر وضوحاً: طلقة رصاص عشوائية وسط المناطق الصحراوية المغربية. طلقة رصاص من بندقية مكنت المخرج المكسيكي ألكسندر غونزاليس إينياريتو من أن يستعيد، لحسابه، أسطورة بابل القديمة ليحوّلها أسطورة معاصرة تطاول جوهر العلاقات بين البشر. جوهر العولمة. وجملة من المسائل المتصلة بهذه وذاك.
الفيلم هو «بابل» الذي حين فاز عنه صاحبه إينياريتو بجائزة الإخراج في إحدى دورات مهرجان «كان» السينمائي، قال كثر إن «السعفة الذهبية» كانت ستبدو أقل مما يستحق الفيلم بكثير.
> ينطلق موضوع «بابل»، كما قلنا، من الحكاية القديمة التي عادت الأديان التوحيدية، جميعاً، وتبنتها: كانت «بابل» عبارة عن برج عظيم قامت ببنائه ذات يوم إنسانية موحدة هدفها أن تصل عبر ارتقائه إلى أعلى السماوات. بيد أن هذا السعي والبرج الذي نجم عنه أثارا غضب الآلهة التي رأت أن الإنسانية يجب ألا تظل موحدة وإلا فإنها ستواصل سعيها إلى مناطحة الآلهة. وهكذا خلقت لكل إنسان لغة خاصة به مختلفة عن لغات الآخرين، واضعة بهذا نهاية قسرية لمحاولة التوحيد، مشتتة البشر فوق سطح الأرض حائرين عاجزين عن التفاهم في ما بينهم.
> منذ البداية يضعنا «بابل» في مواجهة هذه الحكاية كما وردت، بحذافيرها، في الكتب المقدسة. لكن فيلمه ليس فيه، بالطبع، أي برج أو أية شعوب ذات مشروع توحيدي للإنسانية. فيه حكايات معاصرة جداً، تطاول بعض أبرز وأخطر سمات زمننا الراهن: من اللغة كوسيلة فرقة بين البشر، إلى السياحة كسمة من سمات العولمة، ومن الإرهاب إلى الإعلام، ومن الحب إلى الهجرة بين البلدان والعنصرية وصولاً إلى تفكك العائلة ودمار الأجيال الجديدة. كل هذا موجود في الفيلم، إنما ليس في شكل وعظي. فالمخرج هنا ليس من الوعاظ الباحثين عن منظومات أخلاقية.
> الحادثة البسيطة تدور في المغرب. في منطقة رعاة غنم وماعز تصل إلى أيدي صبيين فيها بندقية، كان سائح ياباني أهداها إلى الدليل السياحي الذي عمل معه خلال رحلة صيد قام بها إلى المغرب. ذات يوم، من دون أي قصد، يطلق واحد من الصبيين رصاصة من البندقية تصيب باصاً فيه سياح أجانب بينهم أميركية شابة. المرأة الشابة تتلقى هي الرصاصة فتصل إلى حافة الموت في انتظار أن تأتي الحوامات لنقلها إلى مستشفى في المدينة. خلال ذلك، يأخذنا الفيلم إلى بلدة صغيرة عند الحدود المكسيكية – الأميركية في تكساس حيث كان الزوجان السائحان تركا طفليهما في عهدة مربية مكسيكية هي من المهاجرين خلسة منذ سنوات عدة. وفي المقابل يأخذنا الفيلم، في تحقيق من طريق الإنتربول تقوم به الشرطة اليابانية، إلى طوكيو في اليابان بحثاً عن السائح الياباني الذي كان هو في الأصل، صاحب البندقية. وفي القارتين هاتين: أميركا وآسيا. في تكساس والمدينة المكسيكية المجاورة لها، وفي آسيا – اليابان – طوكيو، نعيش من خلال ذلك الربط البسيط، جملة مواقف وعلاقات لا علاقة مباشرة لها بالحكاية الأصلية لكنها تتكامل معها لتضعنا على مجابهة مباشرة مع عالم يومنا هذا: بابل الجديدة. عالم اللاتفاهم الجديد بين بشر، لا يعرفون على أية حال أنهم في الأصل إنما يعيشون في العالم نفسه، ويؤثر على الواحد منهم أي حدث بسيط قد يحدث في أي مكان من العالم.
> غير أن اللاتفاهم الذي نعيشه، بين البشر، داخل هذا الفيلم المقلق والغريب لا يقتصر على ما هو حادث بين طوكيو والمكسيك، أو بين هذه المغرب. بل هو أيضاً في داخل كل فئة من الفئات نفسها. وإينياريتو يصور هذا، في فيلمه، على أكثر من مستوى وصعيد. أحياناً في دلالات رمزية. وأحياناً في أبعاد مباشرة. فمثلاً الصبية اليابانية التي هي ابنة السائح، الصاحب الأصلي للبندقية، صماء بكماء في الأساس. ومن هنا نراها قادرة على التفاهم مع الآخرين خارج إطار اللغة. وحين تدخل اللغة في سياق الحوارات، لا تعود قادرة لا على الفهم والتفهيم. واللغة كذلك هي التي تقف حاجزاً بين المربية المكسيكية ورجال شرطة تكساس حين يختفي الولدان المعهود بهما إليها في الصحراء وتحاول هي البحث عن عون. إنها تروي ما حدث بالإسبانية، لعل الشرطيين يفهموا فينقذوا الولدين. لكن الذي يحدث هو أن التفاهم يكبر حين يتوقف الكلام. وفي المغرب يحدث الشيء نفسه من خلال اللقاءات بين الزوجين المنكوبين، وبين سكان أصليين يحاولون معاونتهما وإطالة فترة تحمّل الزوجة لجراحها ريثما يصل العون. والحاجز اللغوي لا يتوقف هنا، بل إننا نراه في ما بين المغاربة والمغاربة (هناك من ينطق العربية ومن ينطق البربرية... مع صعوبة التفاهم بين هؤلاء وأولئك). وإلى هذا الجانب اللاتواصلي المباشر، من طريق اللغة، هناك الانفصام التام بين البشر من طريق الحواجز الاجتماعية والعاطفية والمركّبات التاريخية.
> هذا كله يصوره الفيلم من خلال حكاياته الأربع. لكنه – بالطبع – يتجاوز هذا كثيراً. فاللغة، بالنسبة إلى إينياريتو، ليست سوى مظهر واحد من مظاهر التفرقة بين البشر: المصالح تلعب هنا دوراً، وكذلك التفاوت في التقدم الحضاري، الأخلاق لها دورها والثقافات كذلك وطرق العيش. ومع هذا كله فإن المصير مشترك، طالما أن ذلك الحادث البسيط الذي أشرنا إليه، كشف أن البشر المرتبطين به، يعيشون، من جرائه ولكن من قبله أيضاً، عزلته وآلامهم، كل منهم على طريقته وفي بيئته. كل منهم ضائع في صحرائه الخاصة، غريب عن الآخرين وعن ذاته ومآله نهاية خاصة به.
> وهذه النهايات المتعددة تبدو، على أية حال، مقحمة على سياق الفيلم. من خارج منطقه... لكن إينياريتو لا يبدو كبير الاهتمام بأن يقال هذا. بل لا يبدو أنه تعمد أن يكون مفرطاً في التفاؤل. فالمهم في فيلمه ليس المشاهد الأخيرة. ليس النتيجة التي تصل إليها الأحداث. بل الكيفية التي يصور بها ذلك التقاطع بين المصائر، بين الذهنيات، بين ضروب الوحدة والألم... وهي كلها مشتركة بين البشر. وليس هذا جديداً على سينما هذا المكسيكي الشاب الذي يقوم هنا، في هذا الفيلم الناضج فنياً، مع أنه ليس سوى فيلمه الثالث، بما يشبه إعادة اختراع فن السينما، مخلصاً إياه – في الوقت نفسه – من سردية خطية باتت سائدة في الآونة الأخيرة، ومن تجريبية في السرد تبدو في معظم الأحيان مجانية. هنا، عبر هذا السيناريو الذي كتب نسخته الأولى غييرمو آرياغا، من الواضح أن للمسات إينياريتو دوراً أساسياً في تركيبته النهائية.
> وإذا كان فيلم «بابل» قد صوّر لنا العالم في هذا التشتت المفتعل، وصوّر في الوقت نفسه بعض سمات العالم الحديث، (مقترباً خاصة من موضوع الإعلام والتضليل، من خلال محطات تلفزيونية لا تتوقف، والسائحة الأميركية تحت الخطر بعد إصابتها في المغرب، عن القول أنها ضحية عملية إرهابية (!)، ومن موضوع حق الإنسان في العمل والعيش، وحقه في الحب والجنس)، فإنه – أي الفيلم – كان هو نفسه، في تصويره وإنتاجه – نتاج تجربة تشبه تماماً التجربة المرويّة داخل الفيلم: فالفريق العامل فيه كان متعدد الجنسيات واللغات. والتصوير كان يتنقل بين قارة وقارة في دوامة مرعبة. وكان ثمة حاجة إلى مترجمين عدة، للتوفيق بين لغات الفيلم ولغات العاملين فيه: العربية، البربرية، الإنكليزية، الإسبانية، الفرنسية واليابانية. وحاجة ماسة إلى الاحتياط خلال التنقل بين درجات حرارة متناقضة: تتراوح بين حرّ مرعب في صحراء المغرب، وبرد مطلق في طوكيو. ثم التوفيق بين ممثلين دُعوا للعمل في فيلم يجمع كل هذه التناقضات، وهم الآتون من آفاق مختلفة.
> لكن ألكسندر غونزالس إينياريتو (المولود في المكسيك العام 1967) عرف كيف يمسك بكل هذا، وفي يده عصا مايسترو بارع بدا كما لو أن له تجارب عدة في جغرافيا العالم وفنونه والتعامل مع شعوبه ولغاته ومناخاته وقضاياه. وما هذه سوى معجزة صغيرة أخرى من معجزات السينما.