القاهرة 16 نوفمبر 2016 الساعة 01:59 م
رغم أنّ الأديب الصينى (مو يان مواليد1956) حصل على جائزة نوبل فى الأدب عن روايته (الذرة الرفيعة الحمراء) عام 2009، فإننى فضــلتُ الكتابة عن روايته الأولى (الصبى سارق الفجل- هيئة الكتاب المصرية- سلسلة الجوائز- عام 2015- ترجمة د. حسانين فهمى حسين) حيث أنّ بساطة السرد فى هذه الرواية مذهلة، والإبداع فيها ليس فى مأساة الصبى وحياته القاسية فقط وإنما فى التفاصيل، فجاء السرد والمضمون أشبه بالضفيرة المُــتجانسة.
كتب مو يان روايته سنة 1985 وتتناول واقع المجتمع الصينى أثناء أحداث (الثورة الثقافية- 1966- 1976) وبينما أحداث وتفاصيل الثورة لاتظهر بشكل مُـباشرفى الرواية، فإنّ الأديب عكس صداها وأدان الدعاية حول (الاشتركية) و(المساوة) و(العدالة الاجتماعية) كما كان النظام يـدّعى، ولكن بالإبداع، فالصبى (بطل الرواية) البالغ من العمرعشر سنوات، وماتتْ والدته وتزوّج أبوه من غيرها، وتــُـعامله بقسوة، لم يكن أمامه إلاّ أنْ يعتمد على نفسه، والبحث عن عمل يكفل له أدنى مطالب الحياة. بصعوبة وجد فرصة العمل فى (كومونة) لتوسيع الهويس خلف القرية. رفض رئيس العمال أنْ يكون الصبى ضمن العمال لصغرسنه، ولكن أحد الشباب من العمال تعاطف مع الصبى، وقال لرئيس العمال ((الواد المسكين دا يعتبرمن نتيجة الاشتراكية اللى بتساوى بين الناس.. الواد دا من عيلة فلاحين فقراء.. ولوما اهتمتش بيه الاشتراكية ح تهتم بمين؟ فين قلبك وتعاطفك مع الفلاحين الفقراء ياريس؟)) (ص59- ومع ملاحظة أننى التزمتُ بترجمة المُـترجم الحاصل على الدكتوراه فى اللغة الصينية)
بعد أنْ اشتغل الصبى فى موقع (الكومونة) فى تكسيرالأحجاربالمطرقة، ونظرًا لأنّ رئيس العمال لم يقتنع بكفاءة الصبى، قال له ساخرًا ((روح كسرالحجارة مع الستات اللى فى الموقع.. يمكن ربنا يرزقك بواحدة تتبناك)) وعندما ذهب الصبى إلى موقع العاملات قالت إحداهنّ ((إزاى أهله سابوه يطلع عريان فى البرد دا؟ مافيش أم ممكن تسيب ضناها يطلع كدا)) (ص66، 67) وهكذا فإنّ الأديب– فى كل صفحات الرواية- كان ينقل للقارىء صورة حياة الصبى البائسة من خلال عيون الآخرين. أما الصبى الذى استمع لحديث العاملة فإنه ((راح ينظرإلى مياه النهر. وأشاح بوجهه عن أولئك النسوة، وقد بدتْ مياه النهربقعة حمراء وأخرى خضراء)) وهنا يقوم (الوصف) من خلال عينىْ الصبى بتجسيد حالته النفسية، حيث أنّ مياه النهرمجرد ((بقعة حمراء وأخرى خضراء)) والأديب لم يكتف بذلك فأضاف ((وكانت أوراق الصفصاف تطيرفوق الضفة الجنوبية للنهرمثل الفراشات)) كأنما أراد تحقيق المُـعادلة بين نظرة الصبى لبؤس حياته، وأمله أنْ يكون مثل ورق الصفصاف الذى يطيرمثل الفراشات.
كانت قمة الإبداع أنّ البطل (الصبى) لم ينطق بكلمة واحدة، فعندما سألته إحدى الفتيات: بلدك إيه يا حبيبى؟ اسمك إيه، لم يرد. كان ((فى معركة حامية مع عدد من الورود البرية، يدوس على الورد ببطن قدمه، فبدتْ قدمه قوية مثل حوافرالبغال. فقالت الفتاة ((شاطريا واد.. رجليك قوية زى ماتكون حوافرمن حديد. ولكن ليه إنت ساكت على طول؟)) وراحتْ الفتاة تربتْ على كتفه وسألته: إنت سامعنى يا حبيبى؟ فلم يرد وشعربأصابع يدها الدافئة تنزل على كتفه وتستقرعند جروحه وقالت: قل لى يا حبيبى اتجرحت إزاى؟ لم يرد فقالت ((لوعايزتتكلم ممكن تنادينى بأختى)) وبعد عدة محاولات لتــُـشجـّـعه على الكلام قالت ((ورينى كدا الجرح؟)) وتساءلتْ ((يا ترى فيه فى الدنيا عيل صغيرزيك بيشتغل شغلانه صعبة زى دى؟ جسمك وسطينا وقلبك ما حدش يعرف متعلق فين؟!)) لم يرد وراحتْ عيناه تراقبان مجموعة من الأسماك فى قاع النهر. وأخرجتْ الفتاة منديلا مطرزًا بالأزهارولفــّـتْ به يد الصبى المجروحة. فجلس صامتــًـا ونظرإلى الأزهارالتى تــُـزين المنديل الذى يلف جرحه، وانتبه إلى زهرة جديدة بجانب أزهارالمنديل الحمراء، إنها بقعة من دم أظافره المُمزقة. وعندما سألته: هوّبيتكم بعيد عن هنا؟ لم يرد.
أعتقد أنّ الأديب جعل من الصبى التجسيد الحى للشعب الصينى، تحت حكم النظام الشيوعى، فكما أنّ الصبى لم ينطق بكلمة طوال الرواية، كذلك كان قمع الحريات فى تلك الفترة من تاريخ الصين. وبلغة الفن فإنّ الأديب جعل الفتاة تسأل صديقها الشاب الذى ساعد الصبى فى الالتحاق بالعمل: هل الصبى أخرس أم يتعمّـد عدم الكلام؟ فقال صديقها أنّ الصبى يتمتع بذكاء حاد.. ولكن لا أحد يعرف ماذا يشغله. فإذا نظرتِ إلى عينيه الغائرتين، فلن يمكنك تخمين ماتخفيه هاتان العينان. فقالت الفتاة: إنّ الصبى يبدوعليه الذكاء (بالفعل) ولاتعرف لماذا تنجذب إليه وتحبه؟! فهل هناك مُـبالغة- فى رأيى- أنّ الصبى رمزٌللشعب الصينى؟
رئيس العمال تأكــّـد أنّ الصبى لن ينجح فى تكسيرالأحجاربالمطرقة، وفكرفى طرده من العمل فى الكومونة. وبعد تدخل من الشاب المتعاطف مع الصبى، فإنّ رئيس العمال وافق على أنْ يعمل الصبى فى ورشة الحدادة ويساعد فى نفخ الكير.
فى اليوم الخامس من عمل الصبى مع الحداد، تحوّل جسده العارى إلى ما يشبه قطعة فحم، تلمع من شدة سوادها.
هل الصبى يستحق صفة (اللص) كما يوحى عنوان الرواية؟ عن هذا السؤال قـدّم الروائى مفاجأة، حيث أنّ مساعد الأسطى الحداد هوالذى طلب منه الذهاب إلى الحقل القريب من موقع العمل وسرقة ((كام راس فجل على كام حبة بطاطا)) والروائى جعل من الصبى وكأنه بلا إرادة، وعليه إطاعة الأمر، ولكن هذا غيرصحيح، فعندما ذهب إلى الحقل لسرقة الفجل، فإنه ((سمع نعيق بومة فوق إحدى الأشجار)) و((تذكــّـرأنّ زوجة أبيه تخاف من صوت الرعد ونعيق البوم، وهويتمنى ألاّينقطع صوت الرعد وألاّتــُـغادر جماعات البوم نافذة زوجة أبيه)) هنا إسقاط واضح على أنّ الصبى ترجم مشاعره إزاء القهرالذى تعرّض له من زوجة أبيه ومن مساعد أسطى الحداد الذى أجبره على السرقة.
وسط هذا العالم الكابوسى البائس تتولــّـد قصة حب بين الشاب والفتاة اللذيْن احتضا الصبى، ومزج الأديب ولادة هذا الحب، بخوفهما على الصبى من مساعد الحداد.
فى الحقل نزع الصبى فجلة وراح يتأملها فى ضوء الشمس وتمنى أنْ تبدوشفافة وذهبية، مثل الفجلة التى سقطتْ فى النهر. صرخ حارس الحقل ((حرامى)) تـمّ القبض على الصبى ((فبدتْ عيناه صافيتيْن كالنبع الصافى)) ورئيس الحارس ((راح يبكى دونما صوت)) وأفرج عنه. ((ألقى الصبى بنفسه وسط الحقول الواسعة، ليشعرداخلها بأمان وكأنه سمكة تسبح وسط محيط كبير)) فكانت آخركلمات فى تلك الرواية البديعة. حيث تعمّـد مـُـبدعها أنْ تكون مأساة الصبى من خلال عيون الآخرين، وترجمة مشاعرالصبى الذى لم ينطق بكلمة واحدة رغم أنه بطلها، وكل الأحداث تدورحوله، وكأنّ (صمت الصبى) هوصمت الشعب الصينى طوال فترة الحكم الشيوعى.