القاهرة 16 فبراير 2012 الساعة 10:15 ص
تعرف يا أبورامى، عندما بلغنى نبأ رحيلك كنت فى الشارع، تجمدت فى مكانى وقد غامت الرؤية، بينما كان لسانى يلهج بذكر الله الذى لا حول ولا قوة إلا به، ولا دوام إلا له، وكانت النفس اللوامة تسائلنى لماذا لم تحرص على الالتقاء به وجها لوجه وقد كانت بينكما مودّة عميقة وحب مصفَّى ومكالمات عامرة بالنور والعطر والضحك الجميل؟ لماذا؟ لماذا؟ ولما شقَّ عليَّ السؤال أدركتنى نفسى الحنَّانة، وعاتبتنى: معقول؟ أنت تفكر هكذا بينما تدرك أن الرؤية ليست وقفا على الإبصار؟ وتهادت إلى روحى الإجابة فى قوله تعالى فى سورة الحج: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ» صدق الله العظيم، رددتها ودعوت الله لك بالرحمة وكان فى صدرى اطمئنان لرضاه عنك، هو من اختصك بموهبة ليست مبذولة لكثيرين، فكل سطر مما كتبت كان يختصر صفحات وربما كتبا، وكنت محبا مخلصا للعدل والخير والجمال بلا ميل ولا تململ، فحبب الله فيك كثير خلقه، إلاَّ عميان البصيرة مطموسى القلوب، فالقلوب هى التى ترى كما يُنبئنا قرآننا الكريم، ويؤكد على ذلك العلماء!
تعرف، فى عيوننا بقعة عمياء لا يتصور الناس عماها لأنها عند مدخل العصب البصرى إلى قاع العين، ففى هذه البقعة وسط الشبكية لا توجد خلايا تستقبل الضوء، وحتى نكمل صور ما نراه تقوم أمخاخنا بملء الفجوة بما تتوقعه من اكتمال. ثم إننا نعمى واقعيا مع كل طرفة عين، بمعدل يتراوح بين 12ــ14 مرة فى الدقيقة، وهو المعدل ذاته الذى تتردد فيه أنفاسنا. فكم من تفاصيل واقعية يمكن أن تتغير فى الصورة ونحن نرمش، بينما يعوضها الحدس الذى لا دليل على واقعيته، فكان أن نشرت دورية «نيو ساينتست» ذلك اللغز تحت عنوان مخيف هو «الوهم الكبير»! وهم أن ترى عيوننا ما تعمى هى عنه!
قلوبنا وحدها يا جلال يا عامر هى التى تمتلك كامل الرؤية، ولابد أن قلبك هو الذى رأى كآبة المنظر، فانفطر له وتغلَّقت شرايينه واختنق متعصِّرا متحسِّرا من مساخر لم يحتملها حسك العبقرى الساخر، وكيف لمثلك أن يمرر تصدُّر مقبلى أيادى الأمس الوسخة والمدانين بالقتل الإرهابى لحملات منافقى قادة مؤسسة الفروسية الوطنية التى كنت أنت أحد فرسانها، وضد من؟ ضد الشباب الذين لم تكفر ببراءتهم وصدق نواياهم أبدا، فأدمى قلبك أن تطاردهم سكاكين وهراوات ومقاريط بلطجية الأمس واليوم وكل يوم، وسقطت وأنت تتمتم آسفا «المصريين بيموِّتوا بعض». فكأنك كنت تقول بصرخة القلب المذبوح لرفقة السلاح: كيف تتناءون عن الأصدق حتى لو أخطأ فى التعبير، وتستعذبون هتافات الزيغ والكذب. كيف تملأون البقعة العمياء بالتعامى؟ كيف؟!
وفى دنيانا يا أبورامى بقع عمياء عديدة! ففى البحار ثمة منطقة عمياء لا يراها ربابنة السفن برغم كونها أمامهم مباشرة، وتمتد لعشرات الأمتار مختفية تحت قيدوم السفينة العالى! وعلى الطرق ثمة بقع عمياء لا يلمحها قادة السيارات إلا بالالتفات وإعمال النظر، لأن المرايا أبدا لا تعكسها! أما أطرف البقع العمياء وأكبرها، فهى منطقة مُنحنى مدرجات الدرجة الثالثة التى تقع خلف مرمى الفريق الذى يشجعه شباب الأُلتراس، وهى لا تتيح متابعة دقيقة لسير المباراة للموجودين فيها، لهذا يفضلها الألتراسيون الحقيقيون، فهم ليسوا فى حاجة للمتابعة حتى يتفرغوا لتشجيع فريقهم، فى السراء والضراء، وطوال الوقت الأصلى والوقت بدل الضائع! وهل يقدر على ذلك الشغف الجنونى غير الشباب، تماما كقدرتهم على الحب الذى لا أصدق منه ولا أشجع، مهما بدا للأبصار الشائخة غريبا وأحمق، ففى ميعة الصبا لا تكون الرؤية إلا بعيون القلب، وحُب الشباب بصير حتى لو كان لفريق يشجعونه من منطقة «عمياء»، تتيح لهم التفانى فى الحب، فتصير منطقة البصيرة الأجلى والأجمل، وهى المنطقة نفسها التى عندما يستغلها «الكبار» فى ملعب مصر المضطرب الكبير فى هذه اللحظة تصير بقعة قبح وعتامة.
بقعة صارت للغرابة مكانا أثيرا يتمترس فيه لاعبو هذه اللحظة السياسية الحرجة الذين تحولوا إلى جماعات ألتراس سياسى شائخ وشائه، فبتنا نرى كبارا يقدسون فريق أنفسهم ولا يرون فيمن يواجهونهم إلا خصوما يستحقون لا الهزيمة فقط، بل التشويه والسحق والإقصاء والسحل، وربما القتل لو توافرت الظلمة والأستار! المجلس العسكرى نسى بعض كباره مقامهم الرفيع فى أقدس مؤسسة وطنية وصاروا ألتراس يدقون طبول الحرب ضد شباب الثورة على اعتبارهم خصوما لدودين. بينما هؤلاء الشباب هم الحليف الحقيقى للدولة المدنية التى ينبغى ألا ينسى المجلس العسكرى ممثلا للجيش الوطنى الجامع أنه حارسها الأقوى، وهو ما عبرت عنه أنت يا جلال يا عامر ببساطة ووضوح آسرين، ومن واقع معرفتك اليقينية بدور قواتنا المسلحة التى كنت أحد فرسان حروبها، وقلت إن القوات المسلحة لا يقتصر دورها على حماية الحدود ضد العدوان الخارجى، بل يمتد إلى حماية مقومات الدولة الداخلية، كأن يحاول البعض الانقلاب على مصر المدنية الوسطية المعتدلة وتحويلها إلى إمارة طائفية متعصبة.
هل صار المجلس العسكرى ألتراس فى البقعة العمياء لا يرى فى شباب الثورة إلا ألتراس معاديا. وهل صار شباب الثورة ألتراس لا يرى فى المجلس العسكرى إلا خصما فى المقابل، وهل تناسوا أنه مهما كانت أخطاء وخطايا هذا المجلس فإنه يظل ممثلا للقوات المسلحة التى هى بحكم تكوينها القائم على مطلق المواطنة وعدم التمييز: الحصن الأقوى لمدنية الدولة؟ وألا يرتب ذلك على شباب الثورة وقوى الدولة المدنية أن يعثروا على هتاف آخر غير «يسقط يسقط حكم العسكر»، الذى يستغله أمثال توفيق عكاشة وعاصم عبدالماجد، ليزيدوا اشتعال شماريخ الفتنة والتحريض ضد الشباب ويوغروا قلب العسكريين عليهم، بينما تتسلل عبر الثغور كارثة تهدد مصر المدنية، الوسطية، المعتدلة، دولة العدالة والقانون التى تحولت إلى فريسة يتناهشها من يتلمظون على صوملتها، ومظاهر النهش عديدة. كان آخرها بقربك يا أبورامى، ولعله كان الطعنة التى اخترقت قلبك؟
النوبارية ليست بعيدة عن اسكندريتك الحبيبة، وفى قرية من قراها التابعة لمركز النوبارية تسمى «شربات» سرت شائعة أن ترزيا قبطيا يصور النساء المسلمات فى غرفة «البروفة» ويضع صورهن على الموبايل، ومع اشتعال شرارة الفتنة التى لم يقم دليل على صحتها تم حبس الترزى، ولم يكف هذا للتهدئة، لأن متعصبا شحن جمهورا من المسلمين توجهوا إلى بيت الترزى الذى هو بيت عائلة يقيم فيه إخوته الثلاثة، وأجبروهم مع عائلاتهم على إخلاء المنزل ومغادرة القرية، ثم نهبوا محالهم وأضرموا النيران فى البيت، وامتد هياجهم إلى أسر قبطية أخرى ومنازل أخرى للأقباط، وتكرر نهب الممتلكات وحرق المحال والبيوت وأُجبرت خمس عائلات قبطية أخرى على مغادرة القرية فى عملية تهجير قسرى تم تقنينها بجلسة «عرفية» بقيادة «شيخ» تدخل للتهدئة! وقُضى بتهجير عائلات إخوة الترزى الثلاثة، و«التفاوض» على عودة الأسر الخمس الأخرى! وكأن ديننا الإسلامى الحنيف لم ينبهنا إلى أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى» ولا يأمرنا بألا يجرمننا شنآن قوم على ألا لا نعدل!
عمى إنسانى وروحى غريب فى واقعة خطيرة تكررت، وهى تطيح بهيبة الدولة فعلا لا قولا، وتهدم أسس القانون فيها، وتفتح بابا لشيطان الدولة الفاشلة على غرار ما حدث فى الصومال، التى طفى على سطح فوضاها ما سمى بحكم المحاكم الإسلامية، ثم عندما أتيح لقادتها ان يكونوا فى سدة الحكم القانونى انشق عنهم من لا يجيدون إلا الاحتراب تحت مسمى شباب المجاهدين، هؤلاء الذين كان من مآثرهم منع النساء من ارتداء حمالات الصدر اتقاء للغش فيما تحت الثياب! ومصادرة التليفزيونات فى شهر رمضان حتى لا يتابع الناس المسلسلات الفاسقة، بينما كان هؤلاء المجاهدون يعيدون بيع هذه التليفزيونات لتمويل عملياتهم وتعمير جيوبهم، ودخلوا مع حكومة قادتهم السابقين وزملاء نضال المحاكم فى حرب عبثية كان وقودها بؤساء الناس، ثم أُعلن هذا الأسبوع عن انضمامهم لتنظيم القاعدة. وفى هذا الأسبوع أيضا أعلنت حكومة حزب النهضة ذو المرجعية الإسلامية فى تونس عن تفكيك خلية سلفية متطرفة تتسلح بالتنسيق مع أفراد من تنظيم القاعدة فى ليبيا.
كنت أتمنى أن تكون بيننا يا أبورامى لتعبِّر بعذوبتك الساخرة عن هذه المساخر الخطرة التى تحول فيها الكبار إلى ألتراس فى غير مقامه ومكانه، بينما الخطر يتسلل إلى البقع العمياء مدججا بأسلحة التعصب والفرقة، فهل يتذكر المجلس العسكرى مقامه ومكانه ومسئوليته وواجبه التاريخى، وهل ينتبه شباب الثورة وقوى الدولة المدنية إلى خطورة حصر خصومتهم فى نسق ألتراسى بينما اللعبة أخطر من مباراة كرة؟ ثم.. ما هو موقف ناضجى الإخوان المسلمين ومتسامحى السلفيين، خاصة الشباب، من هذه التجاوزات. وما هى كلمة الشرف التى يقدمونها للأمة فى صيانة روحها الوسطية المعتدلة الجامعة والنابذة للطائفية، على غرار وعد أردوغان الذى قال إن احترامه لحق الناس فى اختيار طريقة عيشهم ليست وعدا انتخابيا بل كلمة شرف؟!
هل نأمل فى كلمة شرف واضحة؟ أم أن الوضوح صار ضحية بقع عمياء أخرى، ينبغى أن تنتبه لها قوى الدولة المدنية التى خرجت يوم 25 يناير الماضى بالملايين فى القاهرة وحدها. وهى قوى ي
|