القاهرة 31 يوليو 2016 الساعة 11:36 ص
كان من المفترض أن أكون أكثر الناس غضباً حيال ما جرى؛ففي الدورة الثامنة
لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي (3 - 12 يونيو 2015)،انتقلت من مطار العاصمة (هواري بومدين) إلى مطار وهران (أحمد بن بلة) بالطائرة،وتوزعت إقامة الضيوف بين فندقين عالميين،وفجأة تغيرت الأحوال مع حلول الدورة التاسعة (22 – 27 يوليو 2016)؛إذ أصبح على الضيوف الانتقال من العاصمة إلى وهران (450 كيلو متر غرب الجزائر) بالحافلات،في رحلة شاقة استغرقت ست ساعات، وفور الوصول توزعت الإقامة بين فندق عتيق وآخر متواضع !
طاردتني علامات الاستفهام،و حاصرتني العيون،التي أكاد أجزم أنها تُطالبني بالثورة والاحتجاج،لكنني علمت من صديق جزائري يشغل منصباً رفيعاً في المهرجان أن «سياسة التقشف» فرضت نفسها على مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي،مثلما حدث من قبل في مهرجان دبي،ومهرجان القاهرة السينمائي،وعلى طريقة «المهدي» وهو يخاطب «قيس» في «مجنون ليلى»: «جئت تطلب نارا أم ترى جئت تشعل البيت نارا» سألت نفسي : «جئت تشاهد أفلاما وتستمتع بالندوات أم ترى جئت تطلب الترفيه والاستجمام؟»،ولم استغرق زمناً طويلاً في حسم الأمر،واتخذت قراري بالانحياز إلى «الفُرجة» على حساب «الرفاهية»؛خصوصاً أن أمامي فرصة ذهبية لمشاهدة 34 فيلما في المسابقات الرسمية الثلاثة (الروائية الطويلة ويعرض فيها 12 فيلما،والروائية القصيرة ويعرض فيها 12 فيلما،والوثائقية ويعرض فيها 10 أفلام)،بالإضافة إلى الأفلام المعروضة خارج المسابقة؛مثل : «عروض الهواء الطلق»،التي تتيح فرصة ثمينة لمشاهدة أربعة أفلام للمخرج مرزاق علواش (مدام كوراج،السطوح،التائب وعمر قتلاتو) وفيلمين للمخرج رشيد بو شارب (البلديون وخارج عن القانون) و«مسخرة» إلياس سالم والفيلم الأيقونة «معركة الجزائر» والعرض الأول في المنطقة العربية للفيلم السوري «أنا وأنت وأمي وأبي» فضلاً عن برنامج «جسر إلى قسنطينة»،الذي يعرض ثلاثة أفلام أنتجت في إطار اختيار قسنطينة عاصمة للثقافة العربية عام 2015 هي : «البوغي»،«لاله زبيدة وناس» و«وسط الدار»،بالإضافة إلى «بانوراما الأفلام القصيرة» والأفلام التي تعرض في إطار التكريمات والاحتفال بمرور أربعمائة عام على ميلاد شكسبير . غير أن المدهش والغريب أن كل هذا الزخم لم يمنع المهرجان من اختيار الفيلم الجزائري التاريخي «الظل والقنديل» في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة،رغم أن الفيلم سبق عرضه في الجزائر،ويمكن لأي شخص أن يشاهده عبر «اليوتيوب»،ويبدو أن أهمية قضيته للجزائريين؛حيث تحكي مخرجته ريم الأعرج مسيرة نضال الطلبة الجزائريين ضد المستعمر الفرنسي،دفع المهرجان لغض الطرف عن هذا الخطأ اللائحي !
«داعش» على الشاشة !
أهلاً بسياسة «التقشف» إذا كانت ستتيح لي مشاهدة هذه الباقة الرائعة من الأفلام،ولا مانع،مطلقاً،من «البقاء في الحافلة زهاء ست ساعات» أو الإقامة في فندق «شعبي أ» مادمت سأكون على موعد مع وجبة حافلة من الأفلام التي تخاطب الوجدان، وتحرك العقول،وتكشف المستور عن «الظاهرة الداعشية»؛مثل فيلم «الطريق إلى اسطنبول» الذي أثار جدلاً عقب عرضه لأول مرة في الدورة السادسة والستين لمهرجان برلين السينمائي؛نظراً لجرأة المخرج الجزائري رشيد بوشارب في طرحه القاسي لمأساة أم تعيش في الريف البلجيكي مع ابنتها التي تبلغ الثامنة عشرة من عمرها،وفجأة تختفي الابنة،وتكتشف الأم أنها سافرت إلى سوريا مع صديقها للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف باسم «داعش»،وبالطبع تنقلب
حياتها رأساً على عقب !
أما الفيلم الثاني الذي يعرضه المهرجان،ويعري به «الأكذوبة الداعشية»؛فيحمل اسماً طريفاً هو «فانية وتتبدد»،ويُشير إلى «الظاهرة المقيتة» التي يُراهن المخرج السوري المعروف نجدت أنزور،وهو صاحب فكرة الفيلم،إلى أنها «فانية» ومصيرها «التبدد» وليس«التمدد» كالشعار الذي تتبناه «داعش» وتزعم من خلاله أنها «باقية وتتمدّد»،ولا يتردد في الهجوم بقسوة،في أول تعاون بينه والمؤسسة العامة للسينما في سوريا،على التنظيم المخادع،المجرم والمتطرف،بوصفه صاحب معتقد إرهابي تكفيريّ،والفيلم جزء من مشروع فني كبير للمخرج كرسه من أجل محاربة الإرهاب المتأسلم،بدأه بالمسلسل التلفزيوني «الحور العين» (2005) ثم أتبعه ب «المارقون» (2005) وأيضاً «ما ملكت أيمانكم» (2010) فضلاً عن فيلم «ملك الرمال» (2013) ويُعد عرض «فانية وتتبدّد» في وهران هو العرض الأول للفيلم خارج سوريا،ويُنتظر أن يثير جدلاً ساخناً،بعد عرضه،كونه يعكس وجهة نظر يقول المخرج أنها جديدة «لأننا لا نتحدث عن «داعش»،الذي يراها البعض عبر «اليوتيوب»،وإنما نقدمها في مشهدية فنية مختلفة عن النمط التقليدي،الذي أراد التنظيم الإرهابي أن يقدّم نفسه به».ويروي الفيلم «حكاية الطفلة «نور» ابنة الحادية عشرة التي تعمل أمها «ثريا» المتدينة باعتدال بالتدريس،في المجتمع السوري الذي يتقبل الآخر ويتعايش مع أطياف المجتمع المختلفة لكن الأمور تختلف مع ظهور «الأمير الداعشي» «أبو الوليد»،الذي يسعى لامتلاك السلطة والمال والجنس،عبر التغلغل في نقاط الضعف والقوة لدى من حوله» . ويتواصل الهجوم على «داعش» من منظور آخر في الفيلم التونسي «خسوف»،الذي يركز مخرجه الفاضل الجزايري من خلال أحداثه على جريمة قتل تكشف النقاب عن مافيا تخصصت في تهريب الشباب التونسي؛ممن أدوا الخدمة العسكرية،إلى سوريا والعراق للانضمام إلى إرهابيي «داعش».
«مصر هناك»
لم يُسقط المهرجان السينما المصرية من حساباته،بل وضعها في قلب اهتماماته،وحفظ لها التاريخ والمكانة؛باختيار ثلاثة أفلام مصرية للتنافس في المسابقات الرسمية هي : «حار جاف صيفاً» إخراج شريف البنداري (مسابقة الأفلام الروائية القصيرة)،«أبداً لم نكن أطفالاً» إخراج محمود سليمان (مسابقة الأفلام الوثائقية) و«نوارة» إخراج هالة خليل (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة)،ولم يقف الأمر عند هذا الحد،وإنما بلغت الحفاوة منتهاها،باختيار النجم المصري فاروق الفيشاوي ليكون ضيف شرف النسخة التاسعة من المهرجان،وجاء في حيثيات الاختيار أنه «يأتي نظير أدواره المميزة في عديد الأعمال السينمائية،وكذا مواقفه الحكيمة خلال الأزمة الكروية بين الجزائر ومصر»،كما انضمت النجمة صفية العمري إلى قائمة ضيوف الشرف،وكانت قد شاركت من قبل في تظاهرة «أيام الفيلم العربي المتوج»،التي أقيمت في إطار الاحتفالات باختيار «قُسنطينة عاصمة للثقافة العربية عام 2015» . وفي سياق تكريم السينما المصرية جرى اختيار الممثل الشاب آسر ياسين لينضم إلى عضوية لجنة تحكيم الأفلام الطويلة،التي يترأسها المخرج السوري الكبير محمد ملص،كما قامت إدارة المهرجان ببرمجة وقفة تكريمية لفيلم «عودة الابن الضال» للمخرج الكبير يوسف شاهين بمناسبة مرور 40 عاماً على إنتاج الفيلم،الذي وصفته بأنه «حكاية حب بين مصر والجزائر»؛حيث يُعد إنجازاً سينمائياً مشتركاً بين البلدين،وشهد مشاركة النجم الجزائري الكبير سيد علي كويرات في البطولة مع اللبنانية ماجدة الرومي والنجوم المصرينن : هدى سلطان،شكري سرحان،محمود المليجي،هشام سليم وأحمد محرز .وبلغة الأرقام شهد «مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي» في دورته التاسعة تواجد ما يقرب من 13 دولة عربية؛من بينها : مصر،سوريا،العراق،فلسطين،المغرب وتونس بالإضافة إلى الدولة المضيفة الجزائر.
«الآخر» في وهران
«الآخر في السينما العربية» عنوان الملتقى الذي تبنته إدارة مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي في الدورة التاسعة،ورأت عقده في يومين ليناقش «صورة الآخر في السينما العربية فيلم«عمر» نموذجاً»،«السينما الجزائرية المهجرية وحلم الاندماج»، «إعادة إنتاج صوت الآخر في السينما المغربية»،«تجليات الآخر في الأفلام الجزائرية»،«صورة الآخر في السينما التونسية: نوري بو زيد نموذجاً» بالإضافة إلى شهادة الممثلة الجزائرية ريم تكوشت . وكان مسرح الكاتب المسرحي الجزائري عبد القادر علوله بوهران قد شهد حفل افتتاح الدورة التاسعة،الذي احتفى بالرموز بشكل كبير؛حيث تم تكريم الممثل بوعلام بناني،الذي جسد شخصية «جيلالي» في فيلم «عمر قتلاتو»،الذي احتفل المهرجان بمرور أربعين عاماً على إنتاجه،كما خصص المهرجان وقفة تكريمية للسينمائي الجزائري الراحل سليم رياض الذي توفي في 29 يونيو الماضي عن عمر يناهز الثالثة والثمانين عاماً . أما الفقرة الأفضل في حفل الافتتاح فتمثلت في تكريم ياسف السعدي المجاهد الجزائري الذي كتب وشارك في بطولة فيلم «معركة الجزائر»،ووسط التصفيق الذي دوى في القاعة،ووقوف الحضور في مهابة وتوقير،طفرت الدموع من عيني المجاهد الكبير، وتمنيت لو أننا استثمرنا مهرجاناتنا الثقافية العربية للربط بين نجوم الشاشة .. وأبطال الواقع .