القاهرة 23 يونيو 2016 الساعة 12:04 م
مرة أخري يتواصل الحديث اليوم عن قرار حزب النهضة التونسي في مؤتمره العاشر. في الثلث الأخير من مايو الماضي. بالفعل بين الدعوي والسياسي وهو قرار لم تتحدد بعد معالمه الفاصلة الكاملة. بل يحوطه قدر من الغموض. لن يزول ـ إذا زال ـ إلا حين يوضع هذا القرار موضع الممارسة الفعلية ولا يعني هذا الاهتمام هنا بالقرار في حد ذاته بقدر ما يعني الاهتمام بآثارة ومواقف تيارات الإسلام السياسي الأخري منه. وخاصة جماعة الإخوان المسلمين. وبالأخص "الجماعة الأم" هنا في مصر. في ظل واحدة من أزماتها الحادة. التي تصنعها بنفسها والتي تتوزعها حالياً بين المقاهي والسجون والإرهاب. بما يصحب هذا من خلافات وصراعات داخلية.ربما تتأثر بقدر أو آخر برياح أفكار النهضة التونسية ومن الملاحظ بداية أن هناك صمتاً شبه كامل من الجانبين ـ النهضة والإخوان ـ عن التطرف علناً إلي مثل هذا الحديث لدرجة أن راشد الغنوشي قائد النهضة ومفكرها لم يتطرق علناً بكلمة وحيدة سلباً أو إيجاباً عن ذلك وبدا أنه فعل هذا عامداً متعمداً. علي الرغم من سيل الحوارات الأحاديث التي أدلي ويدلي بها حتي قبل بدء أعمال المؤتمر العاشر. والتي تناول فيها فكرة الفصل بين الدعوي والسياسي: فمثلاً عشية المؤتمر. تحدث الغنوشي الي صحيفة "لوموند" الفرنسية وقال: "النهضة حزب سياسي ديقمراطي مدني له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية" وأضاف نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المسلمة نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرف أنفسنا بأننا "جزء من" الإسلام السياسي ولعل هذا هو التصريح الوحيد الذي أشار فيه الغنوشي إلي "الإسلام السياسي" وهو مصطلح يتجنبه الإسلاميون بعامة. وتلا هذا سيل من التصريحات والحوارات التي أجراها الغنوشي مع أهم الصحف والفضائيات غير العربية أساسا. وبدأ بذلك وكأنه يتوجه بالحديث الي قوي سياسية وفكرية أوروبية وأمريكية. يبدو انها لا تزال تقف عند رؤية ثبت بطلانها وهي ان مستقبل البلاد العربية مرهون بأن يتولي الحكم فريق أو آخر من الإسلام السياسي. وهي الرؤية التي كانت وراء فتح الأبواب أمام سرقة جماعة الإخوان المسلمين لثورة 25 يناير المجيدة. والاستيلاء علي الحكم لفترة لم تستمر والحمد لله سوي عام واحد. ثبت فيه فشل الجماعة في بناء نظام حكم. وقاد الفشل الي ثورة 30 يونيو و3 يوليو التي لايزالون يصفونها "بالإنقلاب"!
تجربة تونسية خاصة
في سيل الأحاديث والحوارات التي أدلي بها الغنوشي حاول أن يقدم قرار الفصل بين الدعوي والسياسي بشكل تبريري وقال كثيراً إن حزبه كان شمولياً لأن التيارات الأخري اليسارية والقومية كانت شمولية أيضاً. كما كان الحكم في تونس وحزبه شموليين كذلك. وبما ان تونس قد تطورت وأصبحت دستورية فان النهضة تتطور أيضاً. وقد عبر عن هذا التبرير بصيغ مختلفة تحدث فيها عن الفصل بين السياسة والمسجد. ولم يذكر أبداً تعبير الفصل بين الدين والسياسة. ووقف عند المسجد أساسا. علماً بأن الدين أوسع من المسجد وأشمل من العبادات بصفة عامة. وفي هذا قال الغنوشي نصاً: "الواقع تطور من حولنا بعد سقوط الدكتاتورية والاعتراف بالإسلام والعروبة هوية الدولة. وأصبح التخصص صفة من صفات الدولة والمجتمع الحديثين. فما هو مبرر توظيف المساجد حزبياً بينما يسمح المجال بممارسة الأنشطة الحزبية والسياسية في مقرات الأحزاب والفضائيات العامة". كما أضاف في رسالة الي من يعنيهم أمر قرار الفصل بين الدعوي والسياسي: "تجربتنا في تونس خاصة بنا وهي ليست للتصدير. وإن كان يمكن الاستفادة منها ونحن نسعي إلي أن نتميز باستقلال تام للعمل السياسي الحزبي عن دور منظمات المجتمع. وهو خيار يفرضه القانون وتفرضه المصلحة". وإذا كان الغنوشي قد قال في حديث آخر إن خطوة الفصل بين الدعوي والسياسي جاء وقتها و"هذه مرحلة من مراحل تطور تهيأت لها الحركة وتهيأت لها البلاد".. فإنه لم يتحدث فيما أدلي به عن التطور الذي تهيأت له الحركة حسب تعبيره مع أن هذا التطوير كان علي الأرجح تمهيدا لمثل هذه الخطوة وهو تطور تعددت مراحله. كما تعددت مؤثراته ولعبت فيه قوي خرجت من تحت عباءة النهضة وانشقت عليها دورا كبيرا وإن كان بشكل غير مباشر خاصة جماعة مثل "التقدميين الإسلاميين" الذين أصدروا مجلة مهمة في ثمانينيات القرن الماضي باسم "15 و21" أي القرن الخامس عشر الهجري والقرن الواحد والعشرين الميلادي. وكانت هذه المجلة أهم مصدر ذي أصل إخواني في نقد أفكار جماعة الإخوان المسلمين. وخاصة أفكار سيد قطب وكان لهذه الجماعة ولمجلتها أصداء عربية. ولم تكن النهضة نفسها بعيدة عن هذه الأصداء. ولكن مثل هذه الخلفية بالذات لا يناسب الغنوشي الإشارة إليها الآن لأنها ستثير ثائرة جماعة الإخوان المسلمين ضده وضد ما أصبح يدعو إليه من فصل الدعوي عن السياسي. وهو أمر يختلف عن جوهر فكرة الإخوان وهي أن الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة.
إلي أين؟
وأيًا كان الرأي في فكرة النهضة بالفصل بين الدعوي والسياسي فإن هناك من يراها "تحولا تاريخيا" و"خطوة بالغة الجرأة" من جانب النهضة ولذلك "أثارت ردود فعل واسعة" و"تسببت كذلك في حالة صدمة وارتباك في صفوف الحركات الإسلامية التقليدية". ويبدو أن ردود الفعل الواسعة لا تزال صامتة. بمعني أنها غالبا تجري في الدوائر الداخلية لهذه الحركات. فلم يصدر عنها رد فعل علني إلا في أضيق أضيق الحدود. والتي يعبر عنها مقال كتبه عزام التميمي من قادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وتناقلته مواقع إلكترونية عديدة وفيه ساءل النهضة "ما الذي يجري يا اخواتنا في حركة النهضة؟ هل تراه تحدي السلطة بعد العودة من المنافي؟ هل تراه همس الهامسين في اذان بعضكم في منتديات تعقد هنا وهناك أن غيروا قبل أن تتغيروا؟ بدلوا قبل أن تستبدلوا؟ هل هي صدمة الانقلاب "تعبيره عن ثورة 30 يونيو ضد نظام الإخوان" في مصر؟ هل هو صراع من أجل البقاء. بأي ثمن وبأي شكل؟
ومع ذلك. يقال إن صوتا أو آخر من الاخوان المسلمين في مصر. دعا إلي الفصل بين الدعوي السياسي وإلي الترحيب باتجاه النهضة إلي هذا الفصل ولكن هذه اصوات ليست مؤثرة علي الارجح حاليا. وان جماعة الإخوان المصرية ليست علي درجة من المرونة الفكرية بحيث تتقبل مثل هذه الخطوة بل إنها غالبا سترفضها وتنبذها وتهاجمها بعنف. حتي ولو تركت هذا لأصوات غير مصرية. أو حتي لمن لا يعرف عنهم علناً ولاؤهم التنظيمي للجماعة إن ظروف مراجعة افكار الإخوان والتراجع عنها تحتاج إلي أجواء سياسية وفكرية مختلفة جذرياً عن عقليات المنافي والسجون التي تسيطر علي قيادة الجماعة وهل هي مصادفة خالصة أن يعود إلي الظهور صوت محمود عزت بوصفه قائماً بأعمال المرشد العام للجماعة. وهو المعروف بأنه أحد الصقور القطبية اي من انصار افكار سيد قطب داخل الجماعة؟ والذي قيل إنه يزاول نشاطه من داخل مصر نفسها!! وما علاقة هذا بحديث السيد الدكتور مجدي العجاتي وزير الشئون القانونية ومجلس النواب عن اجراء "مصالحة" مع الاخوان. فماذا وراء هذا في هذا التوقيت وما مغزاه الحقيقي في هذه الظروف؟ التساؤلات عديدة والاجابات محدودة ولكن الامر المؤكد أن رياحاً عديدة تهب منذ ثورات الربيع العربي علي سفينة الاخوان الذين يقال إن لهم امتدادات تنظيمية في 90 دولة. لا توجد بينها فروع رئيسية إلا وهي في أزمة أو في مخاض نحو تغيير وهو تغيير سيأتي.. ولكن كيف سيتحقق ومتي؟ إن هذا يحتاج إلي رصد ومتابعة دقيقين وباسلوب علمي وموضوعي وبعيداً عن الإدانة والاحكام المسبقة وشبه الجاهزة صحيح أن الإخوان حركة فيها جمود ولكنها ليست عصية علي التغيير الذي قد يأتي من خارجها أو من اضعف حلقاتها ولابد أن يتابع كل هذا بدأب وباستمرار واسلمي يا مصر.