القاهرة 26 ابريل 2016 الساعة 02:35 م
لعل أطرف ما في حكاية لوحتين للرسام الأميركي جيمس ويستلر، أن كل كلام عنهما يجب أن يبدأ بالحديث عن عنوان اللوحتين، وهو في نهاية الأمر واحد، مع رقمين مختلفين: «سيمفونية باللون الأبيض 1» و «سيمفونية باللون الأبيض 2»). إذ لهذا العنوان حكاية. فويستلر، أنجز اللوحة الأولى في
العام 1862، وأرسلها لكي تعرض في لندن. عرضت هناك بالفعل ولكن بعنوان أعطاها إياه العارضون دون أن ينالوا موافقة مسبقة من الرسام كما يبدو: «امرأة باللون الأبيض». وما إن عرف ويستلر بهذا حتى احتج في شكل صاخب معلناً أن ليس للوحته أية علاقة برواية كان الكاتب الإنكليزي ويلكي كولنز أصدرها في ذلك الحين بالعنوان هذا نفسه وحققت نجاحاً شعبياً كبيراً. كان من الواضح أن العارضين شاؤوا الاستفادة من نجاح الرواية لترويج اللوحة، لكن ويستلر لم يكن بهذا الوارد. هو لم يكن من هذا النوع أيضاً. لذلك قال: «إن لوحتي مجرد لوحة تصور فتاة ترتدي ثوباً أبيض واقفة أمام ستارة بيضاء اللون». وحين طلب إليه، بعد فترة، أن يختار للوحة عنواناً آخر يروق له، استعار من الناقد بول مانتز ما قاله في معرض حديثه عن اللوحة واصفاً إياها بأنها «أشبه بأن تكون سيمفونية باللون الأبيض». وهكذا تم تبني هذا العنوان، ليضاف اليه الرقم 1، بعد عامين حين عرض ويستلر لوحة ثانية تكاد تشبه الأولى، مع تغير في الوقفة والقياس والموضوع. ففيما كان ارتفاع اللوحة الأولى 214.6 سم، وعرضها 108 سم، أتى ارتفاع الثانية أقل بكثير: 76 سم،
فيما لم يتجاوز عرضها الـ51 سم.
> ومع هذا غالباً ما يجرى الحديث عن اللوحتين، معاً، وربما لأن الموديل فيهما واحد، وهو الحسناء جوهانا هيفرمان التي كانت خلال تلك السنوات صديقة ويستلر وملهمته، ونراها في العديد من لوحاته. أما هنا، في «السيمفونيتين»، فنراها في أفضل تجلياتها، حيث من الواضح أن ويستلر الذي كان يدنو من الثلاثين من عمره آنذاك، كان بلغ ذروة إبداعه، تشكيلاً وتلويناً، بل حتى كان أضاف الى فنه وإن في شكل متدرّج، تلك الأبعاد اليابانية التي ستطبع ذلك الفن في شكل أخاذ.
> مهما يكن تبقى اللوحة الأولى وهي الأكبر حجماً، متفوقة على الثانية، حتى إن كانت السمات اليابانية قد ميزت هذه الأخيرة أكثر مما ميزت الأولى. ولعل خير ما يؤكد لنا هذا، هو موقف ما لا يقل عن شاعرين كبيرين من اللوحة: فبودلير لم يبخل عليها بالتقريظ حين عرضت في صالون «المرفوضين» في باريس. وكذلك فعل الشاعر الانكليزي سوينبرن، الذي وصل الى حد كتابة قصيدة كاملة في مدح اللوحة.
> في البداية، حين أنجز ويستلر لوحته الأولى وأرسلها كي تعرض في المعرض السنوي للأكاديمية الملكية في لندن، رُفضت اللوحة من دون مبررات أو حتى تفسير. ولاحقاً حيث عرضت جماهيرياً للمرة الأولى في بيرنز غاليري في العاصمة البريطانية، أصر ويستلر على أن يشار في «كاتالوغ» المعرض الى أن اللوحة رُفضت من جانب الأكاديميين. ثم عاد وأكد الشيء نفسه في العام التالي، حين أرسل اللوحة الى باريس لتعرض في معرض المرفوضين. وهنا كان من حظها أن أثارت، الى جانب لوحة ادوار مانيه «غداء على العشب» ضجة كبيرة... أتت أقرب الى الضجة الفضائحية! وكما أشرنا، موديل اللوحة هي جوهانا هيفرمان، التي حرص الرسام على أن يعطي لشعرها الأحمر الفاقع قوة استثنائية تميزه وسط ألوان اللوحة الأخرى الشاحبة في قسمها الأعلى على الأقل، ما يخلق تناسقاً بين شعر الفتاة ورأس الحيوان الذي تقف فوق جلده. ولعل أغرب ما في هذه اللوحة هو اختيار الفنان اللون الأبيض لرداء موديله، وجعلها تقف على خلفية الستار الأبيض. ومن الجليّ أن مثل هذا الاختيار كان مستغرباً فنياً، ويبدو أنه هو ما أدى الى رفض اللوحة والصخب من حولها، لكنه كان هو أيضاً الذي أعطاها قيمتها المطلقة بالنسبة الى الشعراء والنقاد الذين دافعوا عنها. أما نظرة الفتاة المحدقة الى البعيد، فإنها، أضفت على اللوحة غرابة إضافية، حتى وإن كان نقاد قد رأوا انها مستعارة من نظرة طفلة في لوحة سابقة للسير جون ميليس «أوراق الخريف» (1856). وثمة نقاد آخرون رأوا في ذلك الحين أن ويستلر الذي كان قد قطع في تلك الاثناء مع رفيقه الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه، انما شاء في هذه اللوحة أن يتفوق، بالبعد اللغزي – لغز نظرة الفتاة، ولغز الحيوان تحت قدميها بخاصة نظرة الحيوان التي تعادل نظرتها – في اللوحة، على واقعية كوربيه الذي كان شديد التأثر بها، بل الرضوخ اليها، قبل ذلك. ولنذكر هنا أن كوربيه حين شاهد لوحة ويستلر هذه، أبدى خيبة أمله ازاءها، معتبراً إياها نوعاً من «العودة الى النزعة الروحية». والحقيقة أن كوربيه إذ قال هذا، لم يكن يدري انه وصف حقاً ما كان ويستلر يريده من اللوحة.
> والحقيقة أن تلك النزعة الروحية كانت بالفعل قد بدأت تشتغل في تفكير ويستلر منذ العام 1860، أي العام الذي التقى فيه بالايرلندية الحسناء جوهانا هيفرمان، التي أغرقه لون شعرها الأحمر الغريب في آفاق شديدة البعد عن النزعة الواقعية. ولقد تزامن ذلك اللقاء مع تعرّف ويستلر إلى العديد من الشعراء والرسامين الذين كان من بينهم رمزيون وأصحاب نزعة روحية (بودلير، روزيتي، وسوينبرن)، ما أبعده عن جو الرسامين الذين، تحت رعاية الفرنسي فانتان – لاتور، كانوا قد قادوه نحو ما يشبه الواقعية. وسيبدو هذا الفارق متجلياً حتى في بعض المشاهد البحرية التي رسمها ويستلر في ذلك الحين، وصولاً الى تأثره، منذ العام 1864 على الأقل بالفن الياباني، ما تجلى بخاصة في لوحته «الشاشة الذهبية» ذات السمات اليابانية الخالصة والتي تبدو فيها حتى جوهانا، يابانية بشعر معقود خفف من فقاعة لونه الأحمر. والحقيقة أن جوهانا لم تكن الوحيدة التي سيرسمها ويستلر على الطريقة اليابانية، غير انه سيعود لرسمها، ليس يابانية وانما وسط مناخ ياباني في «السيمفونية باللون الأبيض 2» التي حققها في العام 1864. هنا، وقد أحل مرآة فوق مدخنة محل الستار الأبيض، كخلفية لوقفة الفتاة، صوّر هذه الأخيرة واقفة بثوب من الموسلين الأبيض كذلك، رسمه بدقة رسم النهضويين المتأخرين لأقمشة الملابس، وهي تنظر جانبياً نحو مكان غير محدد، انما تبدو نظرتها مزدوجة بفضل المرآة. أما الآنية والمروحة والزهور فتضيف الى اللوحة تلك السمات اليابانية التي لم يكن ويستلر ليريد التخلي عنها بتلك السرعة. والطريف انه حين عرض ويستلر هذه اللوحة الجديدة، انتقده البعض لتسميتها هي ايضاً «السيمفونية باللون الأبيض» على أساس أن اللون الأبيض لم يعد غالباً فيها، بل صار متجاوراً مع ألوان أخرى لا تقل غلبتها، فكان جوابه: «يا له من أحمق من يقول هذا. هل تراه يعتقد أن سيمفونية من مقام فا لا يمكنها أن تضم من أولها الى آخرها، سوى نوتات فا... فا... فا... فا..!؟».
> ولد جيمس آبوت ويستلر العام 1834 في مدينة لويل بولاية ماساشوتس الأميركية. لكنه ترعرع في سانت بطرسبرغ حين كان أبوه مهندساً في بناء خط سكلة الحديد سان بطرسبرغ – موسكو. بيد أن الفتى أُرسل عام 1848 الى لندن ليتابع دراسته. غير أن موت الأب أجبر العائلة على العودة الى الولايات المتحدة الأميركية، حيث التحق بمدرسة ويست بوينت العسكرية التي ما لبث أن طرد منها، فتوجه الى فرنسا في العام 1855 حيث بدأ دراسة الرسم، وتقليد لوحات المعلمين الكبار المعلقة في متحف اللوفر قبل أن يتنقل في طول أوروبا وعرضها ويبدأ اختلاطه بفنانيها، ولا سيما بأقطاب مدرسة الواقعية الباريسية، ومنهم بخاصة فانتان لاتور وكوربيه، لتصير له مسيرة فنية متنوعة ومتغيرة انتهت برحيله عام 1903، بعد تقلبات وضروب صعود وهبوط، جعلته واحداً من أكثر الرسامين كوزموبوليتية في زمنه.