القاهرة 04 ابريل 2016 الساعة 11:42 ص
• مناضلة .. قوية الإرادة .. ند للرجل .. و «بهية» التي نرى فيها صورة الوطن
لا أحب الكتابة في المناسبات القومية،والأعياد الشعبية،لكن الفضول قتلني،بمناسبة عيد الأم،لكي أتعرف على صورة «الأم» في أفلام المخرج يوسفشاهين (1926 – 2008)،وخالجني يقين أنني سأراها لديه في صورة غير تقليدية لا نألفها كثيراً في السينما العربية .. «أم» تشبهه في جنونه وتمرده
وثوريته واستنارته،وعلى الفور عكفت على قراءة أفلامه الطويلة (حوالي 37 فيلماً أولها في العام 1950 وآخرها في العام 2007)،وبقدر استمتاعي باستعادة ذكرياتي مع بعضها فإن سعادتي كانت كبيرة،وأنا أرى وجوه وملامح تتشكل على الشاشة،وتصنع صورة مغايرة للأم التي لا تقترب منها السينما كثيراً !
بالطبع اختلفت صورة «الأم» في سينما يوسف شاهين باختلاف وعيه،وتطور لغته،ونضج أسلوبه،لكنه لم يتخل،يوماً،عن انحيازه،وتعاطفه،وإيمانه،وثقته المفرطة في «الأم» / المرأة التي لا تقل أهمية وتأثيراً عن الأب / الرجل؛ففي فيلمه الأول «بابا أمين» (1950)،الذي كتب قصته وأخرجه،وهو في الرابعة والعشرين من عمره،نرى الأم «زهيرة» (ماري منيب) التي تعيش في الحارة الشعبية،ولا تتوقف عن ترديد الأمثال الشعبية التي تعبر عن وعيها المحدود،وتكاد تكون صورة من الأم التقليدية،التي تحنو على زوجها «أمين» (حسين رياض)،وترغب في تزويج ابنتها «هدى» (فاتن حمامة)،وتتمنى لو حققت كل رغبات طفلها «نبيل» (الطفل عصام)،وبعد رحيل الأب يُصبح عليها أن تتحمل المسئولية كاملة؛نظراً لمرور العائلة بضائقة مالية طاحنة في حين تبدو «فكرية» (ليلى مراد) في «سيدة القطار»(1952) على النقيض منها؛فهي الأم التي تدفع ثمن نزوات زوجها المقامر «فريد» (يحيى شاهين)،وتتستر عليه بعد استيلائه على بوليصة تأمين تؤكد وفاتها،ومثلما اضطرت للتخلي عن حلمها كمطربة،تُصبح مضطرة للاختفاء من حياة ابنتها «نادية»،والعمل كخادمة في مدرستها،لكي تكون قريبة منها،وتتألم وهي ترى أن إدمان زوجها يكاد يحطم مستقبل هذه الابنة،وفي اللحظة التي يُهيئ المشاهد نفسه لجريمة قتل تنتقم فيها الأم من الأب يأبى «شاهين» أن يلوث يديها،ويترك للقدر مهمة التخلص منه !
قد يقول قائل : «لكن «شاهين» قدم صورة رجعية للأم في فيلم «الأرض»(1970) من خلال «أم وصيفة» (نبوية سعيد) زوجة «محمد أبو سويلم» التي تقبع في الظل،ولا تفعل شيئاً سوى أن تطبخ وتخبز،وترد على الرجال من خلف ستار» !
لكنه فعل ذلك،في حقيقة الأمر،التزاما بواقع فرضته حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين،التي تناولها فيلم «الأرض»،ولم يكن من المنطقي أن يُسبغ رؤيته التقدمية على تلك الفلاحة أو تلكم الحقبة،وإلا نزع عن هذه وتلك المصداقية المنشودة؛بدليل أنه فعل ذلك في الوقت والظرف المناسبين عندما اختار اسم «بهية» (محسنة توفيق) لبطلة فيلم «العصفور» (1972)،التي جسدت دور «الأم» القوية الايجابية التي تتحمل مسئولية تربية ابنتها «فاطمة» (حبيبة)،عقب تخلي والدها (محمود المليجي) عنها،في إسقاط واضح على أحوال مصر في فترة الستينيات من القرن العشرين،وعندما تُدرك خطورة ما ينتظر الوطن،في أعقاب إعلان «عبد الناصر» قرار التنحي،تنتفض غاضبة،وتقود المظاهرات الرافضة للسلبية والانهزامية وهي تهتف : «حنحارب»،ووقتها بات على «العصفور» أن يُغادر القفص !
اللافت أن «شاهين» اعتاد،بعدها،أن يُطلق اسم «بهية» على «الأم» التي يرى فيها «مصر» ..المضحية من دون انتظار المقابل،والمتفانية بمثالية،التي تعاني لكنها لا تشكو أبداً؛ففي فيلم «الآخر» (1999) تخشى الأرملة «بهية» (لبلبة) على ابنتها «حنان» (حنان ترك) من سطوة الأغنياء،ورجال الأعمال،وتُصدم بابنها الإرهابي الذي ولد في كنفها،وقد يقول قائل أيضاً إنه قدم صورة سيئة للمرأة عبر شخصية «مارجريت» (نبيلة عبيد) التي تحب ابنها (هاني سلامة) بدرجة مرضية،لكن المتابع الفطن يلاحظ،بسهولة،أنه أسبغ عليها الجنسية الأمريكية. والملاحظ أيضاً أنه في حين بدت «بهية» (لبلبة)
مغلوبة على أمرها في «الآخر» فإن الأم «بهية» (هالة فاخر) في فيلم «هي فوضى ؟» (2007) كانت مثالاً للمرأة القوية والمستقلة التي تستميت في الدفاع عن ابنتها «نور» (منة شلبي)،وتواجه السلطة في عنفوانها،وكعادة «شاهين» يأتي الاغتصاب بمثابة الرمز والدافع للتنوير في إسقاط على ما يحدث من انتهاكات صارخة؛فالأم «بهية» تسعى للثأر مهما كلفها الأمر،وتقود الحشود الغفيرة إلى قسم الشرطة،بعد ما تنجح في تثوير الجميع،وكأنها زعيمة،وتقتحم القسم،وتكون سبباً في رد الحقوق لأصحابها،وإطلاق سراح المتهمين الأبرياء .
أما إذا نظرنا إلى «رتيبة» (هدى سلطان) في فيلم «عودة الابن الضال» (1976) فسنكتشف أنها الأم القوية التي تطمح للسلطة،وتمارسها بالفعل،بل تكاد تكون سببا في الصراع عليها،والتناحر من أجل الفوز بمغانمها،وهي أيضاً رب العائلة،التي تُمسك بزمام الأمور،وتحاول لم الشمل، قبل أن ينفرط العقد،وتؤجج الصراع،وتقود إلى الحرب الأهلية؛فالصراع بين أفراد عائلة المدبولي هو إدانة للتردي العربي،وإسقاط على الصراع العربي / العربي وإجهاض أحلام الشباب الطامح إلى مستقبل أفضل .
في المقابل قد يرى المتعجل في الحكم على «الأم» (سهير البابلي) في فيلم «حدوتة مصرية» (1982) أن «شاهين» يحاكمها ويعريها بينما الحقيقة أنه بدا شديد التعاطف مع أزمتها،كطفلة زوجوها في سن مبكرة من رجل أكبر منها بثلاثين سنة،فاستغل جهلها واغتصبها،ثم تكرر التعاطف بشكل أكبر مع الأم
«صَديقة» (داليدا) في «اليوم السادس» (1986) التي تضحي بكل شيء في سبيل شفاء طفلها من وباء الكوليرا الذي اجتاح مصر في أربعينيات القرن العشرين.وأخيراً يعود «شاهين» إلى تمجيد دور «الأم» من خلال «زينب» (صفية العمري) في «المصير» (1997) التي تهيئ الأجواء لزوجها «ابن رشد» لتحصيل العلوم ومساعدة طلبة العلم،وتتفرغ لرعاية جميع أفراد العائلة،ولا تتوانى في تحريض شبابها على الثورة،ولا تُمانع،في قرارة نفسها،من الحلم بالحكم والسلطة !
الخلاصة أن يوسف شاهين يًعد واحداً من أهم المبدعين تقديراً لدور «الأم»،وتعظيماً لدورها،وكينونتها،والمناسبة اقتضت منا أن نلقي الضوء على هذا الجانب المهم في شخصيته،والمجهول في سينماه،التي تكشف الأعوام إنها تستحق المزيد من البحث والتحليل .