القاهرة 16 مارس 2016 الساعة 02:40 م
كتبت :ميرفت عياد
تحتل الأم منزلة خاصة ومكانة مميزة فى قلوب الجميع، وكم من شاعر تغنى وغنى لها وأنشد لها شعراً ونظم فى مدحها القصائد ، وخط بمداد قلمه كلمات عطرة يفوح منه أسمى عاطفة.
ومهما قيل ويقال عن الأم فلن يفيها أحد حقها لأنها نبع العطاء وأصل الوجود فحقها عظيم وفضلها كبير يفيض على البشر من عهد آدم إلى آخر الزمان.
فدائماً تعيش الأم فى ضمائر المبدعين وعلى أسنة أقلامهم عنواناً للبذل، وترجماناً لأنضج مافينا من حس إنسانى رفيع وعطاء موصول لاتنطفئ منه جذوة ولايغيض منه نبع.
الأم منذ فجر التاريخ
وقد حظيت الأم ولا زالت تحظى بنصيب وافر فى تراث الأمم منذ فجر التاريخ وإلى اليوم وتغنى الشعراء بالأم عبر العصور الأدبية، فهذه بعض الأبيات التى أشار فيها الشعراء العرب عبر العصور المختلفة إلى الأم من قديم الأزل وإلى العصر الحديث، فرسموا صورة للأم الرؤوم الحانية التى تعطى أكثر مما تأخذ حتى خلدها الشعراء فى قوافيهم فى ذاكرة الناس.
فذكر الشاعر ابن الرومى الأم بعدد من قصائده منها قوله عنها:
وإن الذى تسترحم الأم ابنها بها وبهِ لاشك أرحم راحمِ
وما الأمُ إلاّ أمة فى حياتها وأمٌ إذا فادت وما الأم بالأممِ
هى الأمُ يا للنّاسِ جرعت ثكلها ومَن يَبْكِ أمّاً لم تذم قطُ لايذمِ
نساء من الميدان.. بطلات فى التضحية
ونحن نصنع التاريخ فى مصر نريد ان نترك للاجيال القادمة امثلة لبطلات مصريات لعبن دورا بارزا فى بلدنا ولم يترددن للحظة فى التضحية بارواحهن من اجل هذا البلد ومن هنا تقدم الدكتورة ايمان بيبرس الخبيرة الدولية في قضايا النوع والتنمية الاجتماعية فى كتابها الذى يقع تحت عنوان " نساء من الميدان " توثيق لقصص الامهات والسيدات والفتيات المصريات اللاتي لعبن دوراً هاماً في ثورة 25 يناير، سواء الفتيات والسيدات اللاتي شاركن بأنفسهن في أحداث الثورة أو ممن قدمن حياتهن فداء للوطن ، وهى قصص لم تنشر من قبل ، وتم تقسيمه الى جزئين الجزء الأول يضم قصص لفتيات وسيدات شاركن من ميدان التحرير في ثورة 25 يناير ويوضح الدور الفعال الذي قامت به هؤلاء الفتيات والسيدات، وأسباب ودوافع مشاركتهن، ومدى تشجيع امهاتهم للقيام بذلك ، فثورة 25 يناير تعد بالفعل صحوة لضمير الامة وانتفاضة غضب وصرخة الم من جميع المصريين الذين عانوا سنوات عديدة من الظلم والقهر ، هى صحوة لقوى الحق لمواجهة الفساد الاقتصادى والسياسى والاجتماعى ، ولهذا شارك فيها جميع فئات الشعب المصرى من شباب وشيوخ ، نساء ورجال ، مسلمين ومسيحين ، وهنا لابد من الاعتراف بان المراة لعبت دورا اساسياً لا يقل عن الرجل فى الثورة ، وضحت الكثير من الامهات بابنائهن من اجل رؤية مستقبل افضل لبلادهم ،
يوثق الكتاب قصص الامهات والسيدات والفتيات المصريات اللاتي لعبن دوراً هاماً في ثورة 25 يناير، سواء الفتيات والسيدات اللاتي شاركن بأنفسهن في أحداث الثورة أو ممن قدمن حياتهن فداء للوطن ، وهى قصص لم تنشر من قبل ، وتم تقسيمه الى جزئين الجزء الأول يضم قصص لفتيات وسيدات شاركن من ميدان التحرير في ثورة 25 يناير يوضح الدور الفعال الذي قامت به هؤلاء الفتيات والسيدات، وأسباب ودوافع مشاركتهن، ومدى تشجيع امهاتهم للقيام بذلك ، أما الجزء الثاني فهو يضم قصص شهيدات ثورة 25 يناير لتوثيق وجود سيدات مصريات دفعن حياتهن فداء للوطن.
وعن فكرة هذا الكتاب توضح الدكتورة ايمان بيبيرس ان فكرته جاءت بعد الهجمة الشرسة على كل ما يتعلق بالمرأة وقضاياها بعد ثورة 25 يناير بالرغم من اشتراكها منذ البداية في الدعوة للثورة والمشاركة فيها منذ بدايتها حتى نهايتها وكانت طول الوقت جنبا الى جنب بجوار الرجال فلم يكن هناك فرق بينهما ، ولكن للاسف وجدنا بعد الثورة محاولة اقصائها على مختلف الاصعدة فلم نجدها في التشكيلات الوزارية الا وزيرة واحدة ولم يتم اختيارها محافظة بحجة الظروف الامنية كما لم نجدها في لجنة التعديلات الدستورية بالرغم من انه لدينا قاضيات على مستوى عالى من العلم والثقافة ، بل خرجت العديد من الاصوات التى تهاجم كل المكتسبات التي حصلت عليها المراة خلال السنوات الماضية بحجة انها تنتمى لقوانين النظام السابق وبدأت القرارات الغريبة ضد المراة بدءا من الغاء نظام الكوتة و عدم الاكتراث بتواجد المراة على الساحة .
وعن الامهات اللاتى شاركن فى الثورة يستعرض الكتاب قصة " ام عمر " تلك السيدة التى لديها اربعة ابناء اصغرهم لديه اربع سنوات ، نزلت الى ميدان سفنكس لصعوبة نزولها ميدان التحريرولايمانها باهمية ان تكون الثورة فى كل مكان ، وقد ظلت طوال ايام الثورة فى الميدان تساند الثوار والشباب من خلال اعداد الشاى والطعام لهم، واعطائهم البصل لمواجهة القنابل المسيلة للدموع ، ولم تكتفة بهذا بل قامت بحشد النساء للوقوف فى وجه انصار مبارك فى ميدان مصطفى محمود الى ان اعلن مبارك تنحيه وانطلقت الفرحة فى الشارع المصرى ، وهنا تقول ام عمر : " انا طول عمرى دم حامى بس قبل كده كنت فى حالى ومكنتش شايفه ان فى حاجة ممكن تتغير ، كنت شايفه ان الدنيا فيها الظالم والمظلوم ، ولكن دلوقتى عايزاها تتغير عاوزه اولادى يعيشوا بدون خوف ، الحقيقة ان مصر اتغيرت "
ويصور الكتاب لاول مرة قصة ام شهيدة حيث يروى ابنها قصة استشاد السيدة زكية التى كانت تبلغ من العمر 62 عاما وهى ارملة من سنتين وام بسيطة عانت وتكبدت المر لكى تعلم ابنائها الخمسة ، وقد بدات الاحداث يوم 28 يناير حينما سمعوا صوت المظاهرات قريب من البيت وهنا قررت الام النزول وحثت ابنائها على المشاركة الا ان ابنائها رفضوا مشاركتها لكبر سنها ونزلوا المظاهرات فى طريق الاوتستراد ، وفجأة جاءت سيارتين امن مركزى بسرعة شديدة فى اتجاه الام وفى لحظة خبطتها وداست عليها وتم نقلها الى المستشفى التى كتب تقرير انها سيدة مجهولة وداست عليها سيارة مجهولة وهنا احدث ابنائها مشكلة كبيرة فى المستشفى الى ان كتبت الحقيقة وطلعت شهادة الوفاه وتصريح الدفن .
قصيدة أم الشهيد .. ملحمة من حداد
وتجسد قصيدة أم الشهيد من ديوان أمنية الذى صدر للشاعرة سعاد الصباح عام 1971 من دار المعارف مشاعر أمهات ثورة يناير وما بعدها اللاتى مازلن قلوبهن تنزف حزناً وكدماً لرحيل فلذات أكبادهن برصاص الغدر والخسة فتقول الأبيات
رأيتها ملتفةً بالسواد
في وجهها ملحمة من حداد
مقروحة الجفن على فلذة
من كبدها الحرى طواها الرماد
تشكو تخلع قلب الجماد
في ليلة العيد تهاوى ابنها
مستشهداً في غمرات الجهاد
ولم تزل نجواه في سمعها
ولم تزل صورته في الفؤاد
سألتها عنه فقالت: فتى
ملتهب العزم, كريمٌ, جواد
لما دعا للثار داعي الحمى
وهبته لله... رب العباد
فراح ملهوفاً على حقه
مؤرق النوم, عنيد الوساد
يطهر الأرض من المعتدي
ويفتدي بالروح حق البلاد
هب مع الأبطال في جمعهم
يهتف بالعودة في كل واد
وخر في الساحة مستشهداً
يردد الصيحة بين الوهاد:
لا تتركوا السيف على غمده
فتارك السيف عدو الرشاد
وقبلوا المدفع يثأر لكم
و لا تبالوا بالليالي الشداد
الرد باقتباس
أم البطل .. وشجاعة الرجال
ومع تدفق تلك المشاعر الحزينة نتذكر المطربة والام شريفة فاضل التى حضرت إلى مكتب وجدى الحكيم بالإذاعة بصحبة الشاعرة نبيلة قنديل وهى ترتدى ملابس الحداد على ابنها الذى استشهد فى حرب السادس من أكتوبر وقامت بتسجيل أغنية "أم البطل " التى لحنها الموسيقار على إسماعيل ، وعن هذه الأغنية تقول شريفة فاضل: "أنا التي فكرت في الأغنية ليس عن ابني فقط ولكن تعبيراً عن مشاعر وآلام كل الأمهات المصريات والعرب اللاتي فقدن أبناءهن وهم في عمر الزهور في الحرب وقدمتها بصدق شديد دون افتعال ولأن ما يخرج من القلب لابد وأن يصل للقلب فنجحت الأغنية بهذا الشكل الكبير" وتقول كلماتها :
ابنى حبيبى يا نور عينى
بيضربوا بيك المثل
كل الحبايب بتهنينى
طبعا منا انا ام البطل
يا مصر ولدى الحر
اتربى وشبع من خيرك
اتقوى من عظمه شمسك
اتعلم على ايد احرارك
اتسلح بايمانه واسمك
شد الرحال شق الرمال
هد الجبال عدى المحال
زرع العلم طرح الامل
وبقيت انا ام البطل
يامصر ولدى الحر
العالم وصلت اخباره
وشجاعته وتحريره لارضه
اتلموا اخواته واعمامه
من كل بلد عربى جميله
الكل قال باسم النضال
وقفه رجال صدق اللى قال
زرعوا العلم طرحوا الامل
وبقيت انا ام البطل
الدموع لا تنضب في عيون الأمهات
وتعد رواية " الام " للأديب الروسى مكسيم جوركى احدى روائع الادب العالمى لذلك قامت العديد من دورالنشربترجمتها ونشرها منها على سبيل المثال دار البحار ودار الهلال و كان اخرهم دار الحرف العربى التى اصدرت الكتاب عام 2007 ، ولاهمية تلك الرواية نعرضها بمناسبة عيد الام لتطلع القارئ على واحد من أهم الروايات العالمية للكاتب الروسى الكبير مكسيم جوركى الذى ولد ببلدة نيجني نوفجورد عام 1868 ، وأصبح يتيم الأب والأم وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره بعد ، فتولت جدته تربيته التى أصقلت موهبته وطافت بخياله فى عالم القصص التى كانت تقصها عليه منذ نعومة أظافره ، فارتوت بذور الابداع التى كانت بداخله حتى تفتحت واثمرت العديد من الاعمال الادبية الهامة ومنها على سبيل المثال رواية الأم ،رواية الطفولة ، مسرحية الحضيض، قصيدة انشودة نذير العاصفة ، وفي عام 1936م غابت شمس الابداع تاركه ورائها ارث لا يقدر بثمن من روائع هذا الاديب الروسى الذى كان يؤمن بأن الأدب مبني على النشاط الاقتصادي في نشأته ونموه وتطوره، وأنه يؤثر في المجتمع بقوته الخاصة.
وتبدأ احداث رواية " الأم " بوصف حياة العمال ومدى بؤسهم وفقرهم واستغلال أصحاب المعامل لهم مما أسفر هذا عن شراسة طباعهم وسوء أخلاقهم الى الدرجة التى جعلتهم يمارسون العنف ضد بعضهم البعض بل وضد زوجاتهم فنراه يقول :
"وكان يخيم على علاقاتهم شعور بالحقد هذا الشعور الذي ورثوه، كداء عن آبائهم وأجدادهم والذي لن يفارقهم حتى اللحد .. وكان كل همهم بعد الخروج من عملهم هو التجمع فى حانة لشرب الخمرهرباً من تعبهم اليومي في ذلك المعمل الذي يستغلهم ويستهلك نضارة شبابهم .. وأن يتنزهوا عند الغروب في الشوارع .. ويتحدثوا عن العمل وعن الآلات .. ويكيلوا لرؤسائهم السباب والشتائم. "
وفى هذا الوسط العمالي الفقير وهذا الجو الملوث بالظلم والاستغلال عاش "ميشال فلاسوف " ذلك العامل السكير والجبار المخيف الذي يهابه الجميع بسبب بطشه بهم وبذاءة لسانه الى الدرجة التى جعلت مكسيم يصفه قائلاً :
" كان أفضل صانع أقفال ذو شعر كثيف .. وعينين شريرتين .. ونظرة قاتمة .. وكان فظاً مع رؤسائه وفى كل أحد كانت له ضحية .. وكان الناس جميعاً يكرهونه ويخشونه .. وحاول بعض الناس البطش به لكن هذه المحاولات لم تنجح "
وبعد سنين طويلة من عذاب بيلاجى مع قسوة وفظاعة زوجها ميشال أراد لها القدر اخيراً ان ترحم من هذا العذاب بموته مخلفاً وراءه زوجة لم تحزن كثيراً على فراق ذلك الزوج القاسي الذي لم يكن لديه أسلوب حوار معها سوى الضرب والسب .أما ابنها بول ذو الأربعة عشر عاماً فقد وجد غياب والده فرصة ليحتل مكانه ويقلد سلوكه وتصرفاته من شرب الخمرة وإساءة معاملة أمه التي تستجديه قائلة:" أنت بشكل خاص يجب ألا تقرب الخمرة، فقد شرب والدك عنك وأذاقني كؤوس العذاب، فترفق أنت بي."
وبعد أن جرب بول جميع الطرق لتفريغ طاقته وتكوين شخصيته وجد له أخيراً طريقاً مختلفاً تماماً وهو محاولة فهم الحياة ومعرفة سبب المعاناة التي يعيشها هو والده من قبله بل وجميع العمال.. لذلك قرر بدلاً من ان يلجأ للخمر لينسى همومه وعذابه أن يبحث عن أسباب هذا العذاب الذي لم تعرف أمه في أعوامها الأربعين سواه.. وعاش بول خلال سنتين حياة الراهب ، يعود من المعمل وينعزل في غرفته ليقرأ الكتب الممنوعة كما وصفها لأمه التي كانت تراقب تصرفاته بقلق وخوف أكثر مما كانت تخاف عليه عندما كان يتناول الخمر ويخرج مع أصدقائه كما يفعل بقية الشبان.وسالته امه عن طبيعة الكتب التى يقرأها باستمرار فاجابها بول بجدية وصوت منخفض قائلاً :" هذه الكتب التي أقرأها محرمة، لأنها تكشف لنا عن حقيقة واقعنا كعمال. إنها تطبع سراً. واذا ما وجدت معي فسيمضون بي إلى السجن."
وعلى الرغم من ان بيلاجى كانت أمية ولم تفهم بالضبط ما يفعله ابنها وماذا كان يدور في الاجتماعات التي يعقدها في بيتها مع مجموعة من الشبان.. لكن إحساسها وقلبها كأم أخبرها بأن ابنها يكرس نفسه لقضية كبيرة قد يضحي بحياته لأجلها. أحزنها ذلك كثيراً وأشعرها بالخوف الدائم عليه لكن حياتها السابقة مع زوجها ومعاناتها علمتها أن تصمت وتستسلم لحتمية الواقع.. فهي تعلم أن "الدموع لا تنضب في عيون الأمهات".
ورغم خوفها وقلقها على مصير ابنها إلا أنها ككل أم تشعر بالفخر بابنها وهي تشاهده يرأس الاجتماعات ويتحدث بأشياء لا تفهمها. ولكنها لم تكن أمه وحده.. كانت أماً لجميع أصدقائه الذين يجتمعون في بيتها.. كان حنانها كأم يفيض عليهم جميعا ويحيط بهم.. تمنحهم الدفء والحنان ويمنحونها معنى جديد للحياة.. كانت من خلال الاستماع لهم تحاول أن تتعلم وتفهم ما يدور حولها.. حتى أن أندريه صديق ابنها عرض عليها أن يعلمها القراءة .
وكان ذلك الابن وأصدقائه يطبعون المنشورات ويوزعونها بين العمال وهم يعلمون أنهم سيسجنون ويعذبون لكن لم يكن هناك ما يمنعهم عن مواصلة النضال في سبيل القضية التي يؤمنون بها ذلك الايمان الذى جعل بول يقول لأمه : " انها لجريمة يا أماه القتل فظيع .. قتل ملايين من الكائنات البشرية ..قتل الارواح .. اتدركين ؟ انهم يقتلون الروح .. أرايت الفرق بيننا وبينهم ؟ عندما يضرب واحد منا انساناً يشعر بالخجل .. يتعذب ويشمئز .. لكن الآخرون يقتلون الناس بالالوف .. يقتلونهم ببطء ودون أى رحمة .. يقتلونهم دون ان يرتعشوا .. يقتلونهم بلذة .. يذبحون الالاف لا لغاية الا ليكتنزوا الذهب والفضة ووريقات لا قيمة لها ..انهم لا يبطشون بالشعب لحماية اتفسهم .. بل لحماية ثرواتهم .. انهم لا يحمون انفسهم من الداخل ..بل من الخارج .. "
وأخذ بول يد امه بين يديه واستطرد قائلاً " اذا احسست بكل هذا المقت .. كل ذلك التعف القذر.. فستدركينا حقيقتنا .. وسترين كم هى عظيمة ورائعة " وبهذا أخذ بول يعدّ أمه لتلك الساعة التي سيعتقلونه فيها، فكان يرفض أن تعبر عن مشاعرها وخوفها معتبراً ذلك حجرعثرة في سبيل تحقيق هدفه السامي .. ولم يفهم بول أن مشاعر الأم هي أسمى وأهم من أي قضية أخرى فنراه يكلمها بحدة قائلاً :" عليك ألا تحزني، ولكن يجب أن تفرحي .. متى يا رب يكون عندنا أمهات يفرحن في حين يرسلن أبناءهن إلى الموت من أجل الإنسانية ؟ " وعندما عاتبه صديقه أندريه على قسوته مع أمه أجابه: " علينا أن نصرخ بحزم بكل ما نريد، سواء كان هذا ايجابا أم سلباً" فرد أندرية قائلاً : "وحتى لو كان هذا التصريح لأمك؟" فاجاب بول : " أجل، للجميع على حد سواء. فلا أريد أن تكبلني صداقة أو محبة "
ومرت الايام وتحققت مخاوف بيلاجى فذق بابنها الى السجن بعد محاكمته تلك المحاكمة التى اظهر فيها الكاتب التضاد الكبير بين العالمين ، عالم العمال وعالم قضاتهم ، واسبغ على " بول " معنى ثورياً اكثر عمقاً ، فنزع عنه الكثير من الملامح التى يمكن ان تضعفه كعدم الثقة بقواه ، او الحنو على والدته ، ولكن وجدت فى نفسها القوة التى جعلتها تتبع مسيرتة ابنها وأصبحت توزع المنشورات مع أصدقائه .
ومن هذا يتضح ان أحداث الرواية بدأت بأم خائفة على ابنها من مصيره المحتوم وانتهت بتبنيها لقضيته بل وناضلت مع غيرها من الرفاق من أجل تلك القضية ، فقد تحولت تلك المرأة ذات الأربعين ربيعاً من الشفقة الى حب للمضطهدين وكره لمضطهديهم ، وحل محل ايمانها الساذج بغلبة العدالة السخط والغضب والقوة الى الدرجة التى نراه تقول :" أتعرفون لم صدر الحكم بالنفي على ابني وعلى الآخرين؟ سأخبركم وستصدقون قلب أم مثلي: لقد أصدروا عليهم ذلك الحكم يوم أمس، لأنهم كانوا يحاولون أن يظهروا الحقيقة لكم، لكم جميعاً، معشر العمال. وعرفت أمس فقط أن هذه الحقيقة لا يمكن لأحد أن يخنقها وينكرها."
واستطردت تلك الام المكلوبة فى ابنها قائلة بحماس وقوة :" ان العمل المضني هذا لا يحمل إليكم سوى المرض والجوع والفقر.. كل شيء هو ضدنا، والجميع يستغلوننا. وفيما نحن نغرق بالوحول حتى آذاننا .. نرى الآخرين يعيشون حياة ترف وفجوز، ويحيون في تخمة مستمرة، ويبقوننا نحن في قبضة الرعب والخوف لأننا جهلة لا نعرف شيئاً. إن حياتنا هي ليل حالك مستمر."
ثم مدت يدها فى حقيبتها واخرجت رزمة من المنشورات وأخذت تلقيها على الجموع وهى تقول :" لا تخافوا شيئاً مطلقاً. إذا لا يوجد شيء أشقى وأتعس من حياتكم التي تعيشونها طوال العمر."
وفى تلك اللحظات امسك بها الدرك واخذوا يركلونها ويضربونها بوحشية فسالت الدماء منها وهى تقول : " لن تستطيعوا مهما فعلتم أن تقتلوا روحاً بعثت من جديد .. لا يمكن أن يخنق العقل بالدم "
ومادت الأرض تحت قدميها، وترنحت ،وخارت قواها ولكن عينها كانت تلمعان وهى تقول لهم :" لن تتمكنوا من إغراق الحقيقة في بحار من الرماد. أنتم مجانين، وبذلك لن تجلبوا سوى النقمة عليكم، وسيتفاقم الحقد، حقد الشعب القوي، وأخيراً سينصب عليكم جميعاً وعلى أسيادكم".
وبالنهاية أمسك الدركي بعنقها وراح يضغط عليه فخرجت من حنجرتها حشرجات تردد: "يا لكم من أشقياء، يا لكم من أشقياء!"
ومن هنا نرى ان" الأم " فى تلك الرواية ترمز إلى الوطن بكامله، ذلك الوطن الذىلا يتفهم الثورة، وبعد ذلك يتعاطف معها، وأخيراً يقوم بها، واكثر غوركي من استخدام كلمةالأم، لانها ليست أمّاً لبول وحده وإنما كان الآخرون يسمّونها الأم، ولعل غوركي تعمد ذلك، إنّها أمّ الجميع، إنّها الوطن الأم الذي يقف مع أبنائه ويتفهم الثوار ويتبنى قضاياهم، يتأثر لآلامهم ويفرح لفرحهم .
الأم الشجاعة .. وطبول الحرب
وتكريماً لدور الام عبر كل العصور عرضت مسرحية بريخت " الام الشجاعة وابناؤها" عام 1949 على مسرح دوتشه ثياتر في برلين ضمن عشر مسرحيات "هزت العالم" في القرن العشرين. وتدور أحداث المسرحية في أيام الحروب الدينية في اوربا، وبالذات في ربيع عام 1624 حين كان جيش ملك السويد يستعد لغزو بولندا ، حيث يعتبر قادة الجيشه الحرب الوسيلة الوحيدة لفرض "النظام والحضارة" لهذا يقوموا بتجنيد الشباب ، وهذا ما جعل قائد الكتيبة يجذب الابن الاكبر للام " آنا فيرلينج " التى لقبت بالأم الشجاعة نظراً لانها كانت تجر عربة بضائعها متجولة دون خوف من قصف المدافع وازيز الرصاص لتقدم للجنود بضاعتها.
ولكن اثناء قيام ابنها بالخدمة فى الجيش لقى حتفه في المعارك ، وهكذا فقدت الأم أكبر اولادها ، وبعد مضي ثلاثة اعوام من الحرب تقع الام في أسر جيش العدو الا انها تستطيع ان تنجو بنفسها ، اما ابنها الاصغر فقد لقى حتفه برصاص جنود العدو الذين اغتصبوا ابنتها " كاترين " وشوهوا وجهها ، وفي نهاية المسرحية يقتل العدو الابنة التي قرعت الطبول لتحذير ابناء المدينة من وقوع مذبحة ، وهكذا ابتلعت الحرب جميع ابناء الأم الشجاعة التي ظلت تسحب عربتها لوحدها في دروب الحرب